تغيّر المشهد النقابي العمالي كثيراً في مصر عما سبق. ما حدث من خلخلة لسيطرة التنظيم النقابي الذي صنعته الدولة، واستمر في احتكار العمل النقابي أكثر من نصف قرن، يفتح الطريق أمام تطوّر الحركة النقابية العمالية في مصر. لقد بدأت تلك الخلخلة مبكراً، حينما بدأت النقابات المستقلة في التكوّن في 2008، على خلفية موجة الإضرابات الكبرى. واستمرت حركة الاستقلال النقابي في التوسع قبل الثورة، وازداد توسعها عقب الثورة. الثورة نفسها وضعت التنظيم النقابي الرسمي ـــــ اتحاد نقابات عمال مصر ـــــ في موقف حرج للغاية، إذ كان إحدى أهم الجهات المؤيدة لنظام مبارك، وأحد الأجهزة الضالعة في تنظيم الفاعليات المناهضة للثورة، حيث يحاكم رئيسه حالياً بتهمة الضلوع في موقعة الجمل الشهيرة. والضربة الأقوى التي تلقاها الاتحاد الحكومي، كانت قرار تنفيذ أحكام القضاء ببطلان انتخاباته التي شهدت تزويراً واسعاً في 2006، وبالتالي حلّ مجلس إدارته. يبدو الوضع نموذجياً لتحرير الحركة النقابية من هيمنة الدولة، وبناء حركة نقابية تعبر عن العمال، فحركة النقابات المستقلة تتصاعد يوماً بعد يوم، والتنظيم النقابي الرسمي ـــــ ذراع الدولة العمالي ـــــ يتلقى الضربة تلو الأخرى، لكن الأمور ليست غاية في السهولة كما يبدو، فقد أثبتت الحركة العمالية في مصر، بالفعل، على مدى خمس سنوات، قدرتها على تنظيم صفوفها. واستطاعت تنظيم إضرابات قوية وخوض مفاوضات وتأليف لجان، وصولاً إلى بناء نقابات مستقلة عن الدولة، في مواجهة التنظيم الرسمي الحكومي، لكن الإجراء الذي نفذته الدولة بحل مجلس إدارة الاتحاد، قوبل بالحفاوة من الأوساط العمالية، لكنّه قد لا يرقى إلى مستوى ما حققته الحركة العمالية بنفسها في مواجهة سلطة مبارك، والأهم قد يعني إعادة إحياء ذراع الدولة العمالي، وإنقاذها من الانهيار. لقد حُل مجلس إدارة الاتحاد بحكم قضائي أبطل الانتخابات، لكنّ المجلس المؤقت الذي عينته الحكومة ضم حوالى سبعة من قادة التنظيم النقابي والحزب الوطني المنحلين، والضالعين في كل أعماله السابقة، بل أصبح رئيس المجلس المؤقت، أحمد عبد الظاهر، الذي نظم حملة تأييد لمبارك، عندما كان رئيساً لاتحاد التعاونيات، وكان أيضاً من قادة اتحاد العمال المنحل، فضلاً عن كونه من أعضاء الحزب الوطني. تألّفت بقية المجلس بطريقة الحصص السياسية من الإخوان واليسار والقوميين والمستقلين، وهم ثمانية عشر عضواً، لا خلاف على نزاهتهم وإخلاصهم للحركة العمالية، لكن نظام الحصص السياسية والحزبية في حد ذاته لا يعبر بالضرورة عن واقع الحركة العمالية، ويبدو أن الهدف منه تهدئة المعارضة وإرضاؤها. لا يبدو مجلس كهذا مناسباً لإعادة بناء التنظيم النقابي على أسس سليمة، ومستقلاً عن الدولة، بل يبدو مؤهلاً أكثر لإنقاذ التنظيم النقابي الحكومي. وما يؤكد ذلك هو أنّ قمة التنظيم النقابي فقط هي ما طاوله الحل والتغيير. فالتنظيم النقابي الحكومي يتكون من ثلاثة مستويات: اللجان النقابية المصنعية، وهي لجان المنشآت المنتخبة مباشرة من العمال، والنقابات العامة، وهي 23 نقابة تشمل مختلف الأنشطة الاقتصادية، وتنتخب مجالسها من مجمعات ضيقة لا تمثل العمال تمثيلاً حقيقياً، ومجلس الاتحاد، وهو قمة التنظيم ويتألف بالتوافق بين النقابات العامة على أساس عضو من كل نقابة عامة دون انتخاب. القاعدة إذاً، كلما ارتفع المستوى التنظيمي وزادت صلاحياته، قل تأثير العمال فيه، وقل خضوعه لآليات الديموقراطية. حل مجلس إدارة الاتحاد دون المساس بالنقابات العامة واللجان النقابية لا يعني تغييراً حقيقياً في بنية التنظيم النقابي ودوره. فإحلال أشخاص محل آخرين وفقاً للهيكلية والآليات نفسها يعني إعادة إنتاج التنظيم نفسه، وإن على نحو محسن. اللافت للانتباه هو عدم تفاعل الحركة العمالية الصاعدة مع الإجراءات التي اتخذتها الدولة تجاه تنظيمها النقابي. فرغم الترحيب بالقرار في أوساط النشطاء العماليين، لم تظهر مبادرات جادة لتطبيق القرار من قبل الحركة العمالية على الأرض. فالقرار الذي اتخذ ينزع الشرعية عن كافة مستويات التنظيم النقابي، لأنّه يبطل الانتخابات التي جرت على المستويات الثلاثة، ويعطي الحق للعمال في اتخاذ ما يرونه تجاهها. وبالفعل ظهرت دعوات محدودة جداً في بعض التجمعات العمالية لاستكمال تطبيق القرار على النقابات العامة واللجان النقابية وباقي مؤسسات التنظيم النقابي، عبر احتلال عمال لتلك المؤسسات ومطالبة المجلس المؤقت بتثبيت الوضع حتى تجري الانتخابات.
الحقيقة أنّ مبادرات كتلك كان من شأنها أن تعطي قرار حل الاتحاد بعداً آخر. فبدلاً من قيام الدولة بإعادة ترتيب تنظيمها النقابي، كان العمال سينتزعونه ويحولونه إلى تنظيم عمالي بحق، لكن لم تتقدم تلك المبادرات أي خطوة، على الأقل حتى الآن. قد يكون تفسير ذلك الموقف من قبل الحركة العمالية هو عدم الثقة أصلاً بالقرار الذي اتخذته الحكومة وبقيمته. إنّ الحقيقة التي لا يمكن تفاديها أنّ الدولة لن تفرط بسهولة في ذراعها العمالي. فوجود تنظيم نقابي موال للدولة ومستعد بدلاً من تمثيل العمال والمطالبة بحقوقهم وتنظيم حركتهم، لأن يبرر للدولة سياستها، ويؤيدها في كل شيء، أمر يصعب التخلي عنه. قد تضطر الدولة إلى القيام ببعض الجراحات التجميلية لذلك التنظيم، دون أن يؤول بالكامل إلى الإرادة العمالية تحت ضغط الحركة، لكن التفريط الكامل فيه لن يكون أبداً قراراً حكومياً، إلّا أن الحقيقة الأقوى التي تفرض نفسها هي أنّ ما ذهبت إليه الحركة العمالية كان أبعد كثيراً مما قدمته الحكومة. فالحركة العمالية بدأت باكراً عملية هدم منظم للتنظيم النقابي الحكومي، عبر تقديم استقالات جماعية، بدأها عمال غزل المحلة بعد إضرابهم في 2006. إضراب وقف التنظيم النقابي الرسمي ضده، فأعلن العمال سحب الثقة من اللجنة النقابية في الشركة، ثم قدموا استقالات جماعية من التنظيم ككل. تلى ذلك تأسيس موظفي الضرائب العقارية أول نقابة مستقلة عن الدولة وتنظيمها النقابي في 2008، وكان أيضاً عقب إضراب لهم وقف التنظيم النقابي ضده. وواكبت ذلك أيضاً استقالات جماعية من التنظيم الرسمي. ثم تدفقت عشرات النقابات المستقلة بعد ذلك. والملاحظ بالطبع أنّ اصطدام الحركة العمالية بالتنظيم النقابي الرسمي كان مرتبطاً بنضال العمال وإضراباتهم وموقف التنظيم الرسمي منها، وهو الوضع الطبيعي. فالنقابات عموماً ظهرت من خلال نضال العمال وظهور الحاجة إلى التنظيم، وكانت لجان الإضراب عادة هي النواة الأولى للنقابات.
تبدو الصورة أكثر وضوحاً الآن. فما أنجزته الحركة العمالية مثّل خطوات واسعة على طريق فرض الحرية النقابية وحق التنظيم. وإقدام الدولة على حل مجلس إدارة الاتحاد الرسمي لا يمثل إضافة حقيقية إلى ما أنجزته الحركة العمالية، بل على العكس، فالطريقة التي جرى بها والمسار الذي يدفع فيه، يهددان بتبديد ما أنجزه العمال بأنفسهم. والأهم من كلّ ذلك أنه لا يمكن تجاهل أنّ مهمة بناء تنظيم نقابي عمالي أو هدم آخر هي بالدرجة الأولى مهمة الحركة العمالية، لا الدولة. ومهما كان الطريق الذي ستدفع فيه الدولة التنظيم النقابي الرسمي فلن يكون هو الطريق الذي اختاره العمال، إذ إن التنظيم النقابي الذي ستختار له الدولة طريقه هو نفسه التنظيم الذي سيغيّر خياراته وفقاً لتحوّلاتها. التنظيم النقابي الرسمي هو الذي أيّد عبد الناصر في التأميم، وأيّد مبارك في الخصخصة، وأيّد عبد الناصر في الحرب، واصطحبه السادات في زيارة القدس، وفي توقيع كامب ديفيد. الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يظهر بها تنظيم نقابي حقيقي هي أن يكون العمال فقط هم من يقومون ببنائه، وهو الطريق الذي سلكته الحركة العمالية بالفعل.

* صحافي مصري