خواطر من أيلول
لم يكن لأيلول أن يعبر يوماً هذا الشّرق من دون أن يوقظ فيه الكثير من الأحزان. لقد سقطَتْ أوراق الخريف باكراً هذا العام، وأسقَطَتْ معها الكثير من الأقلام والأسماء و النُّخَب. سقط مثقّفونا الذين أمطرونا (من أبراجهم العاجيّة) بأفكار وتحليلات لا تمتُّ إلى الواقع بِصِلة. خرج علينا جيشٌ آخر من «المثقّفين» الذين لم نسمع بهم يوماً، نَصَّبوا أنفسهم طغاةً جدداً على هذا الوطن الحزين، فأقصوا بعيداً كل من خالفهم الرّأي والاتجاه. حدّثونا عن ديموقراطيّة تشبههم، وسخروا من «فزّاعة» تُدعى الاستعمار والتقسيم، لكنّ التاريخ «القادم من العراق» أطلّ علينا مجدداً، ساخراً منّا ومن أمّة أثبت مثقّفوها أن لا ذاكرة لهم ولا بصيرة!
ولأن الذاكرة ما زالت هنا، فلقد كان مؤسفاً حقاً أن يعود ذلك العثمانيّ ليتصدّر مقعداً في جامعة يُفترَض أنّها «عربيّة»، لا كضيف زائر أوّ عابر سبيل، بل كفاتح جديد وتاجر خبيث، في زمن ازدهرَتْ فيه تجارة الدّماء والغرائز والأوطان، من دون أن يعرفَ الكثيرون أن مَن يُتاجر اليوم بدماء شهداء سفينة مرمرة (ودمائنا أيضاً) هو أوّل مَن عارض رحلتها إلى غزّة، وأوّل من وقف في طريقها، فكيف لم يقرأ العرب بعد قَرْن من الزمان مراسلات الحسين ـــــ مكماهون؟ حينها دفع العرب فلسطين وأشياءَ أخرى ثمناً لإخراج العثمانيّ واستبداله بالغرب، وها هم اليوم يدفعون أضعاف فلسطين ثمناً لإعادته والغرب معاً إلى أرض لطالما باعها أبناؤها لقطّاع الطريق.
مرّ أيلولُ هذا العام في أمّة باتت القُدْسُ فيها مجرّد أغنية منسيّة في أرشيف قديم! وحدَها حَيفا كانت هنا. جعلَتني أنتظر السّفن العابرة، علّها تحملني إلى حيثُ وقفَ أهلها يلوّحون ويهتفون عالياً باسم دمشق المقاوِمة. كان نداؤُهم عظيماً، ولا شيء يمكن أن يرتقي إلى عَظَمَتهم، سوى عودة قريبة إلى حَيفا... وما بَعْدَ حَيفا!
ناتالي ميني