عندما بدأت «القصّة» في تونس، لم تكن معالم التدخّل الإمبريالي في الانتفاضات العربية قد تبلورت بعد. صحيح أنّ هنالك علاقات متينة تربط بين الولايات المتحدة والجيش التونسي الذي أنيطت به (لا بالقيادات السياسية الصورية التابعة بدورها) قيادة العملية الانتقالية، إلا أنّ السرعة الفائقة التي تم بها الأمر (أي المزاوجة بين الانتفاضة الشعبية والانقلاب العسكري) كانت كفيلة بإبعاد شبهة الوصاية الغربية عن الانتفاضة التونسية. لكن ذلك الانطباع الأولي لم يلبث أن تغيّر مع مرور الوقت، وانكشاف رغبة الأميركيين، ومن ورائهم الأتباع في أوروبا، في تحجيم الانتفاضة هناك، وإبقائها عند حدود معينة. إذاً، تغيير الانطباع ليس وليد الدينامية الداخلية، بل نتاج الإرادة الكولونيالية في إيصال الأمور إلى «خواتيم» مغايرة لتلك التي أرادتها الكتل التي صنعت الانتفاضة.معنى ذلك أنّنا إزاء عملية معقّدة ستستغرق وقتاً طويلاً حتى تأخذ مداها. وفي الأثناء، تتواصل دينامية عكسية، هي دينامية إنهاك الكتل الجماهيرية المترددة، بحيث ينأى بها تماماً عن الرغبة في إحداث قطيعة جذرية مع مرحلة الاستتباع الاقتصادي السابقة. وقد حدث ذلك الأمر فعلاً في مصر وتونس، إذ بدأنا نسمع أصواتاً تتهم النواة الصلبة للحركة الاحتجاجية في البلدين، بالمسؤولية عن حال «الجمود» الحاصلة اليوم. هنا تحديداً لا يعود مهماً من يقول ذلك، «فلول النظام» أم قوى الثورة المضادة.
لقد أنجزت المهمة «على أكمل وجه»، واستطاعت الكتلتان العسكريتان الحاكمتان في البلدين بلورة تصورهما المحافظ والرجعي عن الوضع، وإيصاله إلى أوسع شريحة ممكنة من الناس. وهو تصوّر يفيد بأنّ من أنجز «التغيير» يتحمل وحده المسؤولية عن «الفوضى» الحالية.
طبعاً من وصل إليه ذلك الانطباع هو القطاع الشعبي العريض وغير المسيّس بما فيه الكفاية. وانعدام التسييس لدى هؤلاء انعكس سلباً على النواة الصلبة للمحتجين، إذ فقدوا، خلال أسابيع، تعاطف قطاعات شعبية انحازت إليهم لأنّهم لم يرفعوا في ميادين التحرير شعارات مناهضة للحكم العسكري الرجعي المتحالف مع الغرب. لاحقاً، ظهرت تلك الشعارات، وبدأت معها مرحلة تآكل شعبية المنتفضين الراديكاليين، بين القطاعات الداعمة للجيش. وهي قطاعات عريضة قطعاً، وغير مهيأة لإنضاج تصوّر يضع الجيش الذي «حمى الانتفاضة» في مرمى التصويب الإيديولوجي الصلب.
هنا انقلب السحر على الساحر ، واستحال المديح المفرط لفوضوية الانتفاضات وعفويتها عبئاً على أصحابه. لم يعد ممكناً بعد اليوم أن تقتات سردية الانتفاضات على «الأوهام الشعبوية» وحدها، فالشعب الذي دعم الانتفاضات في تونس ومصر لأنّه وجد فيها ما يطابق فطرته، عاد «ليذمّها» لأنّها «نقضت العهد»، وبدأت في تجذير سردية الثورة وأدلجتها. وانتقاد عسكرة الحياة السياسية الجنينية هو جزء مكوّن في السردية الإيديولوجية الجديدة. لذا، كان من الطبيعي أن نسمع ردوداً قاسية على المليونيات (وهي إحصاءات عددية «أسطورة مؤسسة» للانتفاضات، لذا وجب الحذر منها) التي ترتفع فيها أصوات تطالب بإسقاط المشير طنطاوي (وكذلك نظيره رشيد بن عمار في تونس).
لا يجب مقاربة ذلك السلوك على طريقة لوائح العار الهزلية. إذ يستحيل وضع «نصف الشعب المصري» على قارعة الطريق الثوروية لأنّه يؤيد المجلس العسكري، تماماً كما يستحيل وضع ربع الشعب السوري على القارعة ذاتها لأنّه يتوجس من مصير مماثل لمصير جيراننا المذبوحين في العراق. وأول ما يجب فعله اليوم لمواجهة ذاك التآكل في شعبية الانتفاضات، هو صياغة هوية إيديولوجية قادرة على ملء الفراغ الذي تصنعه الجيوش، وتملأه بالفوضى والحزازات الأهلية.
والمشكلة هنا أنّ الطرف الذي يفترض به أن يساعد حركة الاحتجاج في ذلك (الإعلام غير النفطي)، إما غارق في تملّق مبتذل للأوليغارشيا العسكرية التي تتماهى معها أكثرية شعبية واضحة، أو منصرف عن تفكيك ذلك التماهي المصطنع والخطير جداً، بحجة أنّ الشرعية الآن «للثورة»، وأنّها ستفرض سياقها ومنطقها في النهاية!
في كلتا الحالتين، تشعر أنّك أمام صورة إعلامية مصنوعة بحذاقة، لكن المشكلة تبدأ حين تحاول مطابقتها على دينامية الداخل. وبما أنّ الصورة التي صنعها الإعلام الرسمي و«المستقل»، لم تطابق الواقع، فإذاً هي صورة للاستهلاك الخارجي فحسب، أي لاستهلاكنا نحن القابعين خارج مصر وتونس ولم تصلنا البضاعة كما يريدها منتجها النفطي السمين والقذر.
ماذا تغيّر إذاً؟ لنضع جانباً مسألة الصورة والصناعة الإعلامية المأجورة، ولننتقل قليلاً إلى حيث يريد بعض «الواهمين» على ضفتي السياسة أخذنا: النيوليبراليون من جهة، والراديكاليون اليساريون من جهة أخرى. يقول الطرفان إنّ ذلك هو حال المراحل الانتقالية، عندما تحدث قطيعة مع النظم المتآكلة. يصحّ ذلك القول فقط عندما تحدث القطيعة.
وبما أنّ القطيعة لم تحدث، فذلك يعني أنّنا نعيش داخل منطق صوري تماماً، منذ اللحظة التي أعيد فيها وصل «ما انقطع»، أي منذ الزيارة الأولى للعرّاب جيفري فيلتمان إلى تونس. منذ ذلك التاريخ ندور في حلقة مفرغة.
«ذهبت تونس إلى حضن الإسلامويين» المتحالفين مع الغرب، ولم نعبأ بذلك. وقعت ليبيا تحت الاحتلال المقنّع، ولا نزال نكيل المديح لقرضاي المجلس الكولونيالي الاحتلالي، المدعو مصطفى عبد الجليل. كادت مصر تنضم إليهما، لولا اقتحام السفارة الإسرائيلية من جانب التيارات الحريصة على تجذير القطيعة مع العسكريتاريا الرجعية. سوريا في طريقها إلى هاوية الحل الكولونيالي التقسيمي، بفضل نظامها «الفاشي» ومعارضاته «العميلة» (أستثني هنا المعارضة الوطنية الراديكالية). اليمن بات في قبضة مجلس العمالة الخليجي، وذراعيه في الداخل: علي عبد الله صالح والقبائل المدعومة من الغرب والوهابيين. كلّ ذلك، وما من أحد يجرؤ على طرح سؤال: ماذا تغيّر فعلاً؟ صوريّاً تغيّر كلّ شيء، لكن عملياًَ لم يتغيّر شيء. يتضح الآن، وخاصة بعد زيارة فيلتمان للمستعمرة أو المحمية الليبية الجديدة، وتوزيعه حصص الجبنة هناك، أنّنا نعيش الفصل الثاني من «الثورة العربية الكبرى». لا ندري على وجه التحديد من هو الشريف حسين اليوم، لكن من الواضح أنّ روح لورانس العرب قد بعثت مجدداً، وحلّت في جسد جيفري فيلتمان. لذلك تحديداً يجد المرء نفسه في مأزق حقيقي. هل يقف مع الشعوب لأنّها أسقطت الرأس، وأبقت الجسد كي «تحمي ذاتها» من المجهول، أم «يقف ضدها» لأنّها أسقطت «من أراد الغرب إسقاطه» وأبقت «ما يريد إبقاءه»؟ طبعاً لا إجابة سهلة. أصلاً من قال إنّ السهولة اليوم هي خيار متاح؟ لقد اخترنا مخاضاً صعباً ومؤلماً ، وعلينا أن نكمله حتى النهاية، ولكن عبر مقاربات أكثر تعقيداً وأقلّ تبسيطاً واختزالاً.

* كاتب سوري