لا يزال الأداء السياسي للزعيم التركي رجب طيب أردوغان، وزميله رئيس الدولة عبد الله غول، يكتسب المزيد من إعجاب النخبة العربية وقطاعات واسعة من جماهير غير النخبة. إنّه أداء أقل ما يوصف به أنّه جريء ومتماسك وحصيف دبلوماسياً. وهو، إلى ذلك، يأتي في وقت كرست فيه عنجهيةُ الدولة الصهيونية سطوتَها على الأنظمة العربية الخانعة مجتمعةً، وبضمنها دويلة محمود عباس «الشبحية»، مع وافر احترامنا لتطلعات شعبنا الفلسطيني لدولته العتيدة المرتجاة. محوران في ذلك الأداء يهتم بهما الجمهور العربي: محور العلاقة مع تطوّرات ومتغيّرات الربيع العربي، وخصوصاً في الساحتين السورية والليبية، ومحور العلاقة مع دولة إسرائيل الصهيونية، انطلاقاً من حادثة محددة تخص تركيا، مثلما تخص فلسطين، وهي المجزرة بحق السفينة مرمرة.التأييد الكاسح لأردوغان في الشارع العربي، لم يمنع آخرين من كتاب ومراقبين، من إبداء تحفظاتهم على الأداء التركي، منتقدين المبالغات التي وقع فيها، وعدم مراعاته لحساسية العلاقة التركية ـــــ العربية، وتراثها القديم، ما أوقعه في هفوات وأخطاء عديدة. وإذا كانت الأنظمة العربية في ليبيا القذافي، وسوريا الأسد خصوصاً، التي استهدفها النقد التركي بعد «صبر» طويل ومطالبات إعلامية لها بالإصلاح والتغيير، قد استاءت من دروسه ونصائحه وتوجيهاته الأقرب إلى الأوامر الزجرية الخالية من الكياسة الدبلوماسية، فهي حركت أقلامها وأجهزتها الإعلامية لمهاجمة الماضي العثماني البائس، والتذكير بأطلسية تركيا الحالية وكونها تمثّل العمود الفقري عسكرياً لذلك الحلف المعادي للشعوب. كما أنّ تلك الأوساط المتحفظة لم تنس التذكير باللواء السليب «الاسكندرونة» الذي لا يتذكره أحد إلا في مناسبات نادرة كتلك، غير أنّها ومعها النخبة العربية إلا ما ندر، نسيت أو تناست أهم درس فشل المعلم التركي في استيعابه، فيما هو يكيل لها الدروس في حقوق الإنسان والديموقراطية والحداثة والعلمانية المؤسلمة!
سنغض النظر، بقصد السياق الذي نكتب فيه، عن درس آخر يتناساه المعلم التركي وهو الخاص بالكارثة الإنسانية والبيئية التي تسبّبها الدولة التركية وسدودها العملاقة، وبغض النظر عن نوع حكامها وما إذا كانوا ليبراليين أو عسكريين أو إسلاميين علمانيين، ألا وهي تلك الخاصة بالاستحواذ على مياه النهرين العراقيين دجلة والفرات والشطب على وجودهما وعلى وجود هذا البلد وتحويله إلى صحراء قاحلة بحلول 2040، كما تؤكد دراسات الهيئات الدولية كاليونيسيف ومنظمة المياه الأوروبية. سنغض الطرف عن هذا الدرس وننتقل إلى درس آخر. يتناسى «معلمنا» التركي درساً بسيطاً، ويحاول تصويره كأصعب درس في الوجود، إنّه درس أقدمِ حربٍ ما تزال مشتعلة على الأراضي التي تبسط الدولة التركية سيطرتها عليها. إنّها حرب المتمردين الاستقلاليين الأكراد، بقيادة حزب العمال الكردستاني التي بدأت في سبعينيات القرن الماضي، وخلفت عشرات الآلاف من القتلى الأتراك والأكراد، ومئات الآلاف من الجرحى والمعوّقين والمهجرين والنازحين. إنّه درس بسيط لا تعقيد فيه، هو درس المطالبة بحقوق الأمة الكردية، وهي أقدم من الأمة التركية نفسها في المنطقة. لقد أرادت الحكومة التركية أن تحسم تلك الحرب لمصلحتها، عبر الحل الأمني العسكري، مرات عدّة، دون جدوى. وحتى حين اعتقلت زعيم تلك الحركة الاستقلالية، عبد الله أوجلان، بمساعدة مباشرة من حليفتها التقليدية إسرائيل، فشلت في قطع رأس الحركة ودفنها. المشكلة الحقيقية هي في أنّ المعلم التركي الذي يكيل الدروس للحكام العرب في الديموقراطية وحقوق الإنسان والعلمانية وتقرير المصير يرفض رفضاً قاطعاً أيّ إمكانية لمناقشة تلك القضية التي تهم حياة أكثر من عشرة ملايين إنسان كردي يحملون الجنسية التركية، ويطالبون ببعض حقوقهم الإنسانية، لا كلها. معلوم للجميع أنّ أولئك الملايين وقيادتهم لم يعودوا يطالبون بالانفصال عن تركيا، والتمتع كسائر أمم الكوكب بحق تقرير المصير، وإنشاء دولتهم القومية، بل بما هو أقل من ذلك كثيراً، كالحكم الذاتي والإدارة المحلية ضمن إطار الدولة التركية. ذلك ما أعلنته، غير مرة، برامج حزب العمال الكردستاني المعدّلة، وأكدته تلك القيادة عملياً في عشرات المبادرات لوقف القتال من جانب واحد، ودعوات سياسية متكررة لاختيار سبل الحوار الديموقراطي المتحضّر بين الدولة التركية والملايين من رعاياها الكرد. لكن المعلم رفض رفضاً قاطعاً تلك المبادات والمشاريع والبرامج، واتخذ أسلوب الحسم الأمني والعسكري واجتياح البلدان المجاورة، كالعراق المحتل، لتصفية خصومه. أيّ معنى يبقى لكلام المعلم إذاً، وأيّ صدقية أو حسن نية يمكن المراقب المحايد أن يجدهما في سلوك القادة الأتراك الحاليين، أصدقاء الديموقراطية وحقوق الإنسان وأعداء القمع والاستبداد والحل الأمني والعسكري؟
لكن لماذا الصمت العربي، بل والشرقي عموماً، على مأساة الأمة الكردية، وخصوصاً في تركيا، وندرة الأصوات التي تدافع عنها وعن حقها في الوجود وتقرير المصير؟ لكأنّ هناك تنزيلاً مقدساً يستثني أمة الكُرد من التمتع بذلك الحق، وهو الذي لم تُستثنَ منه شعوب وجماعات بشرية لا يتجاوز عديدها السكاني عشرات ومئات الآلاف، كما هي الحال في جزر تيمور وكوسوفو وبعض دول الخليج العربي وجنوب شرق آسيا وأفريقيا. إنّ الغرب، بقيادة أميركا «الديموقراطية»، ساعد على تقسيم دول راسخة لأنّ النخبة القائدة لجزء من شعبها أرادت الانفصال. وآخر تجربة من ذلك القبيل ما تزال طازجة، وقد جرت أمام أنظارنا قبل بضعة أشهر في السودان. ذلك الغرب يسكت سكوتاً مطبقاً ومنافقاً عن وضع الأمة الكردية. لكن، إذا كان الشقيق الكردي جنوباً، ينسق ويتعاون مع العسكري الرسمي التركي، مثلما دأبت الأحزاب الكردية «العراقية» المتحالفة مع الاحتلال الأميركي على أن تفعل، فكيف لنا أن ننتظر إنصافاً أو تضامناً من البعيد والغريب، وممن لا شأن له في الموضوع؟ ربما نستثني من هؤلاء الساسة الكرد، النائب في البرلمان العراقي محمود عثمان صاحب المواقف والتصريحات الجريئة، التي طالما أحرجت حزبي طالباني وبارزاني، مع أنّه ـــــ عثمان ـــــ محسوب كقيادي على التحالف «الكردستاني» الذي يجمعهما. قال عثمان قبل أيام إنّ «تصريحات رئيس الوزراء التركي أردوغان بشأن العملية المشتركة ضد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق غير منطقية ولا صحيحة، لكون أنقرة جربت الأعمال العسكرية ضد الحزب على مدى 26 عاماً، وكانت نتائجها عكسية بالنسبة إليها». وأضاف إنّ «حزب العمال الكردستاني ليس حزباً إرهابياً كما يدّعون، بل هو حزب لديه قضية.
إنّ تركيا، بدلاً من أن تبحث عن حل لتلك المشكلة، تحاول توسيع نطاق النيران، فتسعى من أجل عقد تحالف قتالي بينها ـــــ هي العلمانية المنادية بالديموقراطية وحقوق الإنسان ـــــ وبين جارتها إيران المتهمة بالتقليدية والشمولية والحكم الطائفي المتخلف! ترى، إذا كانت حكومة أردوغان مستعدة لعقد تحالف مع طهران ضد الكرد، بدعوى وجود خطر مشترك يتهددهما، فما الذي يمنعها من التحالف غداً مع دمشق إذا أصبح النزف على أراضيها أكثر غزارة؟ وحينها، ما الذي سيبقى بين أيدي الليبراليين العرب المراهنين على دروس المعلم التركي النّسّاء؟ ربما سيكون مفيداً تذكير هؤلاء المراهنين العرب بالواقعة التالية لمغزاها: قبل خمسة عشر عاماً تقريباً، وخلال هجمة عسكرية للجيش التركي على الكرد، في زمن رئيس الوزراء التركي الراحل، والسلف الأيديولوجي المباشر لأردوغان، المرحوم نجم الدين أربكان، كتب المفكر العراقي الراحل هادي العلوي يقول «في الشرق الأوسط، هناك اليوم دولة زائدة ينبغي أن تزول، ودولة أخرى ناقصة ينبغي أن تكون ... الأولى هي إسرائيل، والثانية هي كردستان!». أيّ معانٍ مفعمة بالأمل لمصلحة أمم الشرق عموماً وللأمتين التركية والكردية تكمن في تلك الكلمات النبيلة!
* كاتب عراقي