تراجع النمو النسبي للدين العام في السنوات الأربع الأخيرة، ومن أسباب ذلك الاستفادة ضمناً من ضريبة التضخم، الذي سجل ما لا يقل عن 30% معدلاً تراكمياً، فنمت الإيرادات بنسب تفوق نمو النفقات. في تلك السنوات، زادت النفقات بمعدل 35,4 % تراكمياً، في مقابل 45 % لإجمالي الإيرادات و78,6% للإيرادات الضريبية وحدها، ويعود ذلك التباين، بالدرجة الأولى، إلى تحسن عائدات ضرائب الاستهلاك، تأثراً بالتحويلات وتدفق الأموال إلى القطاع المصرفي. وفي الوقت نفسه، تضخمت محافظ القروض الشخصية لدى المصارف، مع زيادة الأسر لاستهلاكها.
ويعود ذلك لزيادة القدرة على الاقتراض، أكثر من استفادتها من النمو الاقتصادي المرتفع. وبالمقابل، كان للظروف السياسية الاستثنائية التي حالت دون إقرار خمس موازنات عمومية حتى الآن، أثر انكماشي على الإنفاق، كما أنّ قيام حكومة ذات تمثيل ائتلافي عريض بعد 2008، احدث تحوّلاً في الآليات السياسية لاتخاذ القرار المالي، الذي لم يعد محصوراً بيد الطرف الذي تولى السلطة المالية، واحتكر القرارات الأساسية منذ 1992. و كان من نتائج ذلك الاحتكار، عجز سنوي خيالي بلغ متوسطه 50% تقريباً، بين 1993 و2000، قبل أن يتراجع إلى 32% في السنوات اللاحقة. ومن مظاهر الإفراط المالي أنّ مجموع الإيرادات الضريبية بين 1993 و 2005 (آخر موازنة) كان أقل من المدفوعات السنوية لتمويل فوائد الدين.

ديناميات تضخم الدين العام ومحفّزاته

سننطلق في تحليل أسباب النمو الدراماتيكي للدين العام من الفرضيات التالية: إنّ اعتماد الاقتصاد على الأموال الآتية من الخارج، أكثر من اعتماده على النشاط الاقتصادي الداخلي، أضعف قدرة الحكومات على التحكم بنتائج سياساتها، وقلل في أكثر الأحيان من فاعلية الإجراءات التي تتخذها. كذلك عدم جدية الخطط المعلنة أو عدم المبالاة بتنفيذها أصلاً، والاتكال المضمر على الثقة الخارجية المشتراة بأموال الخزينة، أوقع المالية العامة في فخ المبالغات، وأوجد فجوة دائمة بين الآمال والوقائع، كما وجه الاهتمام بالنتائج القريبة والمباشرة للبرامج الحكومية وإجراءاتها، دون آثارها البعيدة أو غير المباشرة.
في معظم سنوات ما بعد الحرب الأهلية، كانت هناك خشية من أن يتبادل المساران السياسي والاقتصادي التأثير سلباً على الاستقرار، فصارت إحدى وظائف المال العام الحيلولة دون تحوّل المصاعب السياسية إلى أزمات اقتصادية والعكس بالعكس. واستناداً إلى تلك الفرضيات، تحرك الدين العام صعوداً في سنوات 1992 ــ 2010، متأثراً بثلاث ديناميات، سرعت نمو الدين العام، وشكّلت روافع قوية له، وانتهى بها المطاف إلى جعل الاقتراض أساس الحركة الاقتصادية والمالية في البلد.
استمدت تلك الديناميات قوتها من اتجاهات ورؤيات وسياسات يمكن جمعها في ثلاثة محفزات عملت روافع للدين العام:
أولاً: المحفّز السياسي للدين، وهو يستند إلى فرضية إقليمية وآلية داخلية: الفرضية هي تحقق ما يسمى السلام الإقليمي في أسرع وقت، فمن شأن ذلك قيام سوق شرق أوسطية مفتوحة وتكامل بين اقتصادات المنطقة على لبنان أن يتكيف معهما بأسرع وقت. بالتالي إنّ رفع المديونية العامة لتمويل الإنفاق على تأهيل البنى التحتية، تكيّفاً مع ذلك الاستحقاق، أمر لا ينبغي أن يثير القلق، خصوصاً أنّ عوائد السلام المزعوم ستكون وفيرة وتسمح بتغطية كلفة الدين وأكثر.
الآلية الداخلية، أو ما يمكن تسميته الإنفاق التعويضي. فبعد الطائف انفصل القرار الاقتصادي عن القرار السياسي، وصار مهندسو اقتصاد ما بعد الحرب مضطرين إلى استرضاء شركائهم في الوطن، والمتضررين الأقوياء من سياساتهم الاقتصادية والاجتماعية والمالية/ النقدية. ومن بين هؤلاء خصوصاً مجتمعات الأطراف، فأغدق صانعو القرار الاقتصادي الجدد في الإنفاق على بنود قليلة الجدوى اجتماعياً وعديمة الفاعلية اقتصادياً، تحقيقاً لتلك المقايضة الرديئة بين المال العام من جهة، والمشروع الاقتصادي للبنان ما بعد الحرب المبني على أسس وطنية هشة.
ثانياً: المحفز الاقتصادي: كان مشروع إعادة الاعمار المرجع الضمني للأطروحة الاقتصادية لمرحلة ما بعد الحرب. فهيمنت نزعة تجارية ومالية، وصارت المنافسة الإقليمية ترتكز على استقدام الأموال من جهة، وعلى اجتذاب الشركات والمؤسسات الأجنبية من جهة أخرى. أي أنّ الاهتمام انصب على القسم الثاني من ميزان المدفوعات، وعلى ميزان الرساميل خصوصاً، فيما أهمل ميزان المعاملات الجارية الذي يعبّر عن قدرة الدولة على الإنتاج. ويعني ذلك أنّ الدينامية الاقتصادية لمرحلة ما بعد الحرب، قامت على زيادة الجاذبية (للأموال) لا على زيادة الإنتاجية. ولأنّ تلك الرؤية سعت إلى بناء اقتصاد قليل التنوّع والتخصص، يرتكز على الموارد الخارجية لا الداخلية، لم يهتم صانعو القرار بتعبئة المدخرات المحلية، وفضلوا الاعتماد على الديون العامة الممولة بأموال آتية من الخارج، لتظل معدلات الاقتطاع الضريبي منخفضة في التسعينيات، فلم تحقق سوى 8.5% معدلاً وسطياً من الناتج المحلي في الأعوام 1992 ــ 2000، من بينها 3% فقط للضرائب غير المباشرة.
ثالثاً: المحفز النقدي: بما أنّ الهدف الرئيسي للدولة هو الحصول على مزيد من الأموال الخارجية، صار دور السياسات النقدية إقناع المستثمرين، ولا سيما اللبنانيين والعرب منهم، بتوجيه عنايتهم إلى البلد، من خلال التركيز على أربعة عناصر لم تتغيّر منذ بداية التسعينيات: التثبيت النقدي؛ زيادة معدلات الفائدة؛ تعقيم السيولة؛ والثنائية النقدية. وقد طبقت تلك التوجهات بطريقة لا تنسجم، في معظم الأحيان، مع احتياجات التوازن المالي والانتعاش الاقتصادي، ولو أنّها عملت لصالح الاستقرار.
لم تتحقق التوقعات الأساسية التي بنيت عليها المحفزات الثلاثة، وتضاربت أو تناقضت، في أكثر الأحيان، مساراتها ومفاعيلها، الأمر الذي أدى إلى فقدان السيطرة على الدين العام. فالسياسة النقدية قوّضت الأساس الاقتصادي لرؤية ما بعد الحرب، القائمة على أنّ القطاع الخاص هو أساس النمو، وهو ما كان يفترض اعتماد سياسات نقدية توسعية لا تضييقية كما حصل فعلاً. وكانت الدينامية السياسية من عوامل تهديد الاستقرار المالي لكونها شجعت الهدر وأجّلت قرارات كان ينبغي البدء بها، وعلى رأسها زيادة معدلات الجباية ورفع إيرادات الدولة المتأتية من الضرائب المباشرة. وقد تفاعلت تلك المحفزات الثلاثة مع ما تضمنته من إخفاقات، على نحو أدى إلى زيادة الدين العام بمعدلات متسارعة.
ويمكن تقويم اثر ذلك على حجم الدين العام من خلال التقريب الحسابي التالي: قام المحفز السياسي على فرضية تحقق ما يسمى السلام الإقليمي، واستمد ديمومة تأثيراته من المبالغة في الإنفاق داخلياً لاسترضاء المتضررين من السياسات الجديدة. ولذلك فإنّ المؤشرين التاليين يساعدان على قياس مساهمة العامل السياسي في زيادة الدين العام. المؤشر الأول: هو الفارق بين العجز الفعلي والعجز المخطط له في قوانين الموازنات العامة، في كل سنة من السنوات محل الدرس. المؤشر الثاني: الإيرادات الضريبية الفائتة نتيجة الانخفاض الشديد والمقصود في المعدلات الضريبية، ولاسيما ضرائب الدخل.
في المؤشر الأول، بلغ العجز الزائد في السنوات 1992 ــ 2005 نحو 8300 مليار ل.ل (5.53 مليار دولار أميركي)، ومعظمها في الأعوام 1992 ــ 1998 (6466 مليار ل.ل).
وفي المؤشر الثاني، كان بوسع الحكومات أن تزيد الإيرادات الضريبية في سنوات 1992 ــ 2004، بما مقداره 11 ألف مليار ليرة لبنانية (أي ما يربو على 7.5 مليار دولار) لو حققت معدل الاقتطاع الضريبي نفسه الذي تحقق في السنوات التالية ووصل إلى 16% من الناتج في سنوات 2005 ــ 2010، دون أن ننسى أنّ ذلك المعدل يقل بدوره عن متوسط الاقتطاع الضريبي، في الدول متوسطة الدخل.
أدت الاستراتيجيات الاقتصادية التي اتبعت بعد الحرب الأهلية، إلى خفض معدلات النمو الاقتصادي عما هو متوقع، فبدلاً من نمو حقيقي متوسطه السنوي 8% في أعوام 1992 ــ 2010، حسب تقديرات معدّي خطط إعادة الاعمار، لم يتجاوز النمو 3.75%. ويعني ذلك أنّ حجم الاقتصاد حالياً، يوازي ثلث ما كان يمكن تحقيقه من ناتج، لو تحقق سيناريو النمو المرتفع. وحتى لو اعتمدنا سيناريو أكثر تواضعاً، يفترض تحقيق نمو يعادل متوسط النمو الذي حققته دول المنطقة في المدة نفسها، فسيتبيّن أنّ الناتج الحالي لا يزيد عن ثلثي الناتج الذي كان من الممكن تحقيقه، وفق ذاك السيناريو. إنّ خسارة ذلك القدر من النمو، خسارة موازية في الإيرادات الضريبية التي يرتبط حجمها بحجم الاقتصاد. وبحساب بسيط يظهر أنّ مجموع العائدات الضريبية المهدورة نتيجة الخيارات الاقتصادية الخاطئة لا تقل عن 20 ألف مليار ليرة لبنانية (13.34 مليار دولار). واللافت هو أنّ ذلك الرقم يوازي تقريباً الفوائد الإضافية التي دفعتها الدولة في التسعينيات، لجذب الأموال من الخارج، تعويضاً عن ضعف الإنتاج الداخلي، وهو ما يدل على أنّ احد أسباب الإفراط في الاستدانة بشروط مجحفة، هو ضعف الأداء الاقتصادي المنعكس سلباً على مالية الدولة.
لتقدير تأثير العامل النقدي على نمو الدين العام، سنستند إلى مؤشر فائض الاكتتابات بسندات الخزينة، وهو بمثابة دعم حكومي مستتر، وغير محدد بفترة زمنية، لإجراءات تعقيم السيولة وكبح التضخم وتثبيت سعر النقد، ولا تقل كلفة ذلك الفائض طوال المدة، عن ستة آلاف مليار ليرة لبنانية، وفق اقل التقديرات.
والنتيجة هي أنّ العوامل الثلاثة مسؤولة عن 57% تقريباً من الدين العام المتراكم، أي ما يوازي 30 مليار دولار أميركي، موزعة على الشكل الآتي: 12.5 مليار دولار بسبب الخيارات والرهانات السياسية الداخلية والخارجية. 13.5 مليار نتيجة السياسات الاقتصادية الأحادية وغير المرنة. وما لا يقل عن 4 مليارات دولار دعماً للسياسات النقدية.
بكلمة أخرى، إنّ الدين العام «الطبيعي» لم يكن ليتجاوز في لبنان 60% من الناتج (مقارنة بـ69% المعدل العالمي)، لولا روافع الدين السياسية والاقتصادية والنقدية التي لا تمت بصلة لحاجات الخزينة ووظائف المالية العامة ومتطلبات التنمية.

الآثار الاجتماعية والاقتصادية للدين العام

في بداية التسعينيات، كان رهان كبير على النمو الاقتصادي لتمويل نفقات الدولة، التي توزعت ما بين إنفاق استثماري لم تتجاوز حصته 8% من الموازنة للأعوام 1992 ــ 2010، وإنفاق جار كانت حصصه من مجموع الإنفاق في المدة نفسها: 38% لخدمة الدين العام، 29,7 % للأجور الرواتب، 10,63% للنفقات الإدارية والاستهلاكية العمومية، من أصل 183651 مليار ل.ل. هي مجموع الإنفاق في تلك المدة.
غطت الضرائب المباشرة 13% تقريباً من مجموع الإنفاق، والضرائب غير المباشرة 30% منها تقريباً، والعائدات غير الضريبية (الوفر المتحقق في قطاع الاتصالات) نحو 04,7%، فيما موّلت الديون العامة ما يوازي 38,6% من النفقات. وفيما لم يتخط العجز الأولى في المدة كلها 0,3% من مجموع الإنفاق، سجل معدلات مرتفعة في السنوات 1992ــ 2000 تجاوزت 11%، ثم تحوّل في السنوات اللاحقة إلى فائض تجاوز 7.5% في الأعوام 2005 ــ2010.
تلك السياسة المالية المجافية للنمو وللفقراء في آن معاً، كان لها وقع سيئ، فبعد دفعة رواج دامت ثلاث سنوات تقريباً، بدأت دورة تباطؤ وركود، استمرت حتى 2003. وبخلاف فرضيات خطة النهوض الأولى التي قامت على أساس تحقيق نمو متراكم، بمعدل 8% سنوياً، يؤدي إلى تحقيق التوازن المالي خلال أربعة أعوام (انطلاقاً من 1992) من دون الحاجة إلى زيادة الضرائب، لم يتعد النمو 3,75% في السنوات 1993 ــ 2006، من بينها 1,5% في السنوات 1997ــ 2002، مع نتائج سالبة في بعض الأعوام. وقد استندت توقعات النمو الايجابية تلك إلى عاملين: الأول رصيد الاستثمار الأولي المخطط له في مرحلة ما بعد الحرب، والثاني سياسة الانفتاح التي اعتُقد أنّها ستجلب تدفقات كبيرة ومتواصلة من الأموال.
لم يتحقق شيء من ذلك، بل زاد الدين بوتيرة أعلى بكثير من نمو الناتج المحلي، فزادت كلفته وتضاعفت أعباؤه. في الأعوام 1993 ــ 2010 سُجل نمو اسمي بمعدل 10% تقريباً، لكن ديون الحكومة نمت في المدة نفسها بمعدل 15% سنوياً (12,5% للدين العام الداخلي بالليرة اللبنانية الذي تضاعف 8 مرات مقابل 23% للدين العام بالعملات الأجنبية الذي تضاعف 42 مرة) مع وجود نمط خاص للنمو الاقتصادي ولزيادة الدين العام في الأعوام 2007 ــ2010.
وبعد تردد دام سنوات عدّة، اضطرت السلطات المالية إلى التخلّي عن سياسة الحياد الضريبي، وبدأت ترتفع تدريجياً نسبة الضرائب الإجمالية إلى الناتج المحلي الإجمالي GDP، وصولاً إلى 12.2% في الأعوام 1996 ــ2001، في مقابل 8,95% فقط متوسط الأعوام 1992 ــ 1995 (راجع الجدول). وللمقارنة بلغ الاقتطاع الضريبي الإجمالي في مصر 17% و16,4% في الأردن، و18,2% في سوريا و14,2% و25% و21% في تركيا وتونس والمغرب على التوالي (1).
ومع مرور الوقت، وزيادة انكشاف الاقتصاد والمالية العامة للدين العام، زاد الاعتماد على الضرائب في تمويل احتياجات الدولة ليصل متوسط نسبتها للناتج إلى 13.76% و16,1% في المدتين 2002 ــ 2006 و2007 ــ 2010، على التوالي. ذلك دون احتساب الاقتطاعات غير المصنفة على أنّها ضريبة لكن لها مفاعيل ضريبية، مثل رسوم الهاتف والكهرباء، والضمان الاجتماعي.
وقعت الزيادة في العبء الضريبي على كاهل دافعي الضرائب غير المباشرة، وبقيت عائدات الضرائب المباشرة قياساً إلى الناتج على حالها تقريباً، وقريبة من المتوسط العام البالغ 3,75% بين 1992 و2010، فيما ارتفعت عائدات الضرائب غير المباشرة من 5,5% من الناتج في الأعوام 1992 ــ 1995، إلى 12,3% في الأعوام 2007 ــ2010. ولذلك، انحدرت حصة الضرائب المباشرة من مجموع العائدات الضريبية من 39% في المرحلة الأولى إلى 23,6% في المرحلة الأخيرة. ولم تتعد عائدات ضريبة الدخل 2,3% من الناتج المحلي (عدا الضريبة على الفوائد) في مقابل 7,7% في مصر وما يزيد على 8% في كل من تونس والمغرب.
وعلى الرغم من عدم إقرار زيادات ضريبية في السنوات الأخيرة، بل أقرت بعض الإعفاءات، زادت عائدات الرسوم الجمركية والضريبة على القيمة المضافة في السنوات الأربع الأخيرة، بنسب تساوي ضعف معدل النمو الاسمي المتراكم في الناتج، فالنمو الاسمي بلغ 55% فيما نمت هاتان الضريبتان بمعدل 84,5%. ويعود ذلك إلى: نمو التحويلات والودائع التي زادت بمعدل 50% خلال ثلاث سنوات، فأعطت دفعاً قوياً للاستهلاك، فالميل للإنفاق في لبنان يرتبط بتدفق الأموال أكثر من ارتباطه بزيادة المداخيل الفردية؛ النمو الحقيقي الذي حققه الاقتصاد اللبناني في السنوات الأربع تأثراً بعوامل خارجية عدة، مما أسهم في تحفيز الاستهلاك؛ معدلات التضخم المرتفعة التي بلغ معدلها التراكمي في السنوات الأربع 26% تقريباً. وكانت معدلات التضخم أكثر ارتفاعاً في أبواب الإنفاق ذات مرونة الطلب المتدنية، أي أنّ الطلب على سلعها وخدماتها ينخفض بنسب أقل من الزيادة في الأسعار. يعني ذلك زيادة وزن تلك الأبواب في سلّة الإنفاق، وبالتالي زيادة حصيلة ضرائب الاستهلاك ككل، خصوصاً وانّ أبواب الإنفاق الأخرى، ذات المرونة العالية، لم تنم بالسرعة نفسها. ومن القطاعات التي شهدت معدلات مرتفعة للتضخم وتخضع لمعدلات ضريبية عالية، وتتسم بمرونة طلب منخفضة: قطاع النقل الذي ارتفعت أسعار خدماته ما بين كانون الأول 2007 وشباط 2011، بنسبة 27,3%، والسكن والخدمات المرتبطة به 25%، والفنادق والمطاعم 39,1%، وذلك في مقابل 14,7% معدل التضخم العام في المدة نفسها.
أظهرت تمثيلات إحصائية وقياسية عدّة، تراجعاً في عدالة توزيع المداخيل خلال السنوات التي أعقبت نهاية الحرب، ففيما سجل معامل جيني لقياس عدالة توزيع المداخيل (GINI) 35% في 1992، بلغ المعدل 43,3% في 1998 (مقارنة بـ35.6% للدول العربية). لكن المعامل كان أفضل لناحية الإنفاق فبلغ 36% في 2005 بالاستناد إلى دراسة ميزانية الأسرة 2004 ــ 2005 (2)، مع ذلك فإنّ كلّ الدلائل تشير إلى تأثر عدالة التوزيع سلباً بالتطورات الاقتصادية التي حصلت بعد ذلك العام، ولا سيما نتيجة الانعكاسات السلبية للتضخم. ولو اعتمدنا تقديرات دراسة الأوضاع المعيشية للأسر في 2004، نجد أنّ نحو 49% منها هي ما دون خط الفقر الاقتصادي المحدد على أساس متغيّرات الدخل، وذلك أعلى بكثير من فقر الإنفاق الذي يشمل 28% فقط من الأسر.
وكانت معدلات ارتفاع الأسعار في بنود الإنفاق التي تشغل حيّزاً كبيراً من موازنات الأسر الفقيرة عالية مقارنة بغيرها من البنود، ولذلك تأثير سلبي إضافي على العدالة. فمثلاً ارتفعت أسعار المواد الغذائية 25,6% التي تمثل 25% تقريباً من سلة استهلاك الشريحة الأفقر و14 % فقط من سلة الشريحة الأعلى دخلاً، وما ينطبق على ذلك البند ينطبق على بنود أخرى كالسكن.
لا نغفل أيضاً الأثر التوزيعي العكسي للضرائب غير المباشرة. وتبيّن دراسات عدّة (3) أنّ زيادة الضرائب غير المباشرة، يزيد احتمال انخفاض حصة الفئات الدنيا من مجموع الإنفاق الوطني ومجموع الدخل الوطني، مقارنة بحصة الفئات العليا. وفيما بلغ المصنفون في فئة الدخل المنخفض 22% من مجموع السكان في العامين 1973 ــ 1974، صارت تلك النسبة 54,6% في 2007 ووصلت إلى 61% في 2004.
وبالاستناد إلى دراسة اثر السياسة الضريبية على توزيع المداخيل المنشورة في 2003، فإنّ عبء الضرائب غير المباشرة ارتفع بين عامي 1993 و2003، من 9,52% من دخل الشريحة الأدنى دخلاً إلى 27,9%. ويتراجع ذلك العبء مع الانتقال صعوداً من فئة دخلية إلى أخرى، وصولاً إلى 10,7% فقط للفئة الأعلى مقابل 8,1% في 1993. ويؤكد ذلك الطابع التراجعي للضرائب غير المباشرة، مع وجود ميل مرتفع للاستهلاك لدى الفقراء، وتعرض أعداد كبيرة منهم لفجوة ادخار سالبة.
كيف اثر الاعتماد على الضرائب غير المباشرة على العدالة التوزيعية ولماذا يتفاوت أثرها بحسب مستويات الدخل؟
أولاً: لأنّ تلك الضريبية تنازلية أصلاً، ولا يغيّر من ذلك وجود إعفاءات واسعة نسبياً من الضريبة على القيمة المضافة، تطاول عدداً من السلع والخدمات الأساسية ومن بينها: الطعام والمشروبات، الغاز المنزلي، النقل المشترك، التعليم والكتب المدرسية، الصحة....، فالإعفاءات تشمل أيضاً سلعاً وخدمات فاخرة وكمالية. وللمقارنة، تشكل السلع والخدمات المعفاة من الضريبة على القيمة المضافة 32,8% من مجموع إنفاق العشرين بالمائة الأدنى دخلاً من اللبنانيين في مقابل 33.3.% من إنفاق العشرين بالمائة الأعلى دخلاً. ذلك فضلاً عن أنّ الإعفاءات الاجتماعية محصورة بالضريبة على القيمة المضافة التي تمثل نصف عائدات الضرائب غير المباشرة تقريباً، ولا تشمل أنواعاً أخرى كرسوم الاستهلاك الداخلي.
ثانياً: ينفق الفقراء أقل من الأغنياء على سلع وخدمات تخضع أكثر من غيرها للضرائب غير المباشرة، مثل النقل (6,7% لأفقر الأسر و 15,5% لأغناها) والاتصالات (2,6% مقابل6,41%)، إلا أنّهم أعلى إنفاقاً على أبواب أخرى مثل السكن ومتعلقاته (ماء وكهرباء) المعرضة لضغوط ضريبية عالية، إذ تنفق أفقر الأسر 33,65% من مجموع استهلاكها على ذلك البند، مقابل 22,21% لأغنى الأسر، والنتيجة هي تحييد أي اثر ايجابي للاختلاف بين سلتي استهلاك الفقراء والأغنياء على توزيع العبء الضريبي.
ثالثاً: تضطر الأسر الفقيرة أكثر من الأسر الغنية إلى الاستدانة. وبحسب الأرقام المتاحة وآخرها يعود إلى دراسة الأوضاع المعيشية للأسر 1997، فإنّ 42,3% من مجموع الأسر التي يقل دخلها عن 1,2 مليون ل.ل. شهرياً تضطر إلى السحب من الرصيد أو الاستدانة لتأمين حاجاتها الأساسية، في مقابل 16% فقط للفئات العليا و30% معدلاً وسطياً. وهكذا يضطر الفقراء إلى دفع ضرائب على ما يستهلكونه من سلع وخدمات ممولة بالديون.
رابعاً: كانت خدمة الدين العام في العقدين الماضيين مانعاً أمام زيادة الإنفاق على الاستثمارات العمومية من الموازنة العامة، أو على الأقل تنفيذ البرامج المقررة أو المخطط تنفيذها على ذلك الصعيد، مع العلم أنّ الإنفاق الاستثماري الذي تديره المجالس والصناديق من خارج الموازنة يتصف بعدم الشفافية ويخضع لمنطق المحاصصة وآلياتها أكثر من الإنفاق المدرج في الباب الثاني من الموازنة. وعلى مدى السنوات الماضية، كان منحى الإنفاق الاستثماري تراجعياً في مسار معاكس لنمو خدمة الدين. في الأعوام 1993 ــ2001، أنفقت الحكومة دولاراً واحداً على الاستثمارات العامة مقابل 3 دولارات على خدمة الدين، ثم انخفضت النسبة إلى واحد لثمانية في الأعوام ــ 2010، و1 لـ10 في الأعوام 2006 ــ 2010.
لقد قللت أعباء الدين العام من قدرة الدولة على تحقيق غاياتها على الصعيدين الإنمائي والاجتماعي، فلم يتجاوز مستوى تحقيق الأهداف في مجالي الخدمات الاجتماعية، والبنية التحتية الاجتماعية 22% و13% على التوالي مما هو مقرر (وزارة الشؤون الاجتماعية، UNDP,FAFO؛ 2004) الأمر الذي انعكس سلباً على المساواة في توزيع المداخيل وتحقيق الإنماء المتوازن. ومن مؤشرات ذلك الإخفاق العائد إلى استنزاف الدين العام للموارد من جهة وللسياسات المنحازة إلى المنطقة المركزية في لبنان من جهة ثانية، انخفاض نسبة الأسر المحرومة في بيروت قياساً إلى مجموع الأسر المحرومة وطنياً، من 7,6% في 1995 إلى 4,4% في 2004، وارتفاع تلك النسبة في كل من البقاع من 5,3% إلى 17,8%، والنبطية من 0,8% إلى 11,2% والجنوب من 10,8% إلى 11,2%، و مع تحسن طفيف في نسب الشمال وجبل لبنان. وسجل تراجع عام في المؤشرات المتعلقة بالدخل إذ ارتفعت نسبة الأسر المحرومة من 42,8% إلى 51,6% في كل لبنان وكان معدلها 60% تقريباً في محافظات الأطراف الأربع (الشمال، البقاع، الجنوب والنبطية). لكن لو كانت إدارة الدين العام رشيدة، أي اعتمدت في التسعينيات سياسة فوائد معتدلة، لانخفضت خدمة الدين العام إلى النصف، فلو أنفق ذلك الوفر على أبواب الاستثمار المختلفة في الخدمات الاجتماعية والبنى التحتية والتنموية، لتضاعف الإنفاق الاستثماري ثلاث مرات ونصف على الأقل في السنوات 1992 ــ2010، ولزادت حصة الفرد من الاستثمارات العامة، (المدرجة في الموازنة) من 2400$ تقريباً إلى أكثر من 12000$، مع ما لذلك من تداعيات ايجابية على المساواة والإنماء المتوازن والنمو، فمن شأن ذلك الاستثمار الإضافي أن يراكم زيادة في الناتج لا تقل عن 15% من قيمته الحالية.
خامساً: في السنوات الأربع الأخيرة، أدت موجة التضخم التي تركزت في أبواب الإنفاق ذات المرونة المنخفضة، إلى زيادة أعداد الأسر الفقيرة أو التي تقف عند عتبة الفقر، وتراوح نسبتها ما بين 51,6% لذوي الإشباع المتدني في المؤشرات المرتبطة بالدخل، و73% هي نسبة الأسر التي تنفق اقل من المعدل الوطني العام للإنفاق المقدر بـ4,5 مليون ل.ل للفرد سنوياً. مع العلم أنّ معدل التضخم عند الفئات الدنيا هو أعلى بقليل من التضخم المماثل لدى الفئات العليا، نظراً لاختلاف تركيبة سلة الاستهلاك بين الفئتين. وبما أنّ مرونة الطلب الدخلية ومرونة الطلب السعرية منخفضة لدى الفئات الفقيرة، فإنّ ارتفاع الأسعار أو زيادة ضرائب الاستهلاك، لن يقلل إقبالها على الإنفاق، بقدر ما سيدفعها إلى مزيد من الاستدانة (الممكنة أكثر من أي وقت مضى مع فوائض السيولة الهائلة لدى المصارف)، الأمر الذي يزيد من العبء الضريبي على الفقراء مجدداً. يعني ذلك أيضاً أنّ هناك علاقة طردية بين زيادة الدين العام وزيادة مديونية الأسر، أي كلما زادت حاجة الدولة إلى التمويل اضطر الأفراد إلى الاستدانة أكثر.
سادساً: هناك أثار اقتصادية أخرى للدين العام، تتصل بعجز السلطات عن ضبط إدارة الدين، ومبالغتها في الإنفاق على مناطق وقطاعات محددة لزيادة جاذبية لبنان للأموال الآتية من الخارج. وذلك ما تبيّنه المؤشرات والأرقام التالية:
1- سياسة الفوائد المرتفعة، التي بلغ متوسطها الحقيقي 15% في الأعوام 1993 ــ 2004 أي أعلى بكثير من اللازم، وكبّد ذلك الخزينة مليار دولار سنوياً وعرض الخزينة لعجز أولي متراكم مقداره 5 مليارات دولار. ومع أنّ الهامش بين الفوائد على سندات الخزينة والفوائد العالمية انخفض ليصل في 2007 إلى نحو 2% إلا انّه عاد بعد ذلك إلى الارتفاع، ما يدعو إلى التنبه إلى عدم تكرار تجربة التسعينيات ذات الكلفة الباهظة.
2- إنّ مبالغة السلطتين النقدية والمالية في توفير الاحتياطات المالية والنقدية أدت إلى نتيجتين سلبيتين: من جهة مضاعفة كلفة تعقيم السيولة وتثبيت النقد، ذلك يظهر خصوصاً في مراكمة حساب الخزينة أرصدة أعلى من السابق، ومن جهة ثانية إعطاء أولوية كبيرة لتدفق الودائع من الخارج من خلال سياسة فوائد ملائمة، لكن الافتقار إلى مقاييس ومعايير واضحة في ذلك الشأن أدى إلى تدفق ما لا يقل عن 50 مليار $ في ثلاثة أعوام، وهو ما يفوق الطاقة الاستيعابية للاقتصاد الوطني والمصرف المركزي والمالية العامة مجتمعين، مولداً بذلك مشكلة الأرصدة العاطلة التي تكلف الاقتصاد ما لا يقل عن مليار دولار سنوياً من الفوائد الإضافية غير المبررة، يتحملها القطاعان العام والخاص، مع ما لذلك من آثار اقتصادية وتوزيعية سلبية.
3- إنّ دولرة الاقتصاد جزء لا يتجزأ من ميكانية تمويل الدين العام، لكن لك الربط عرض لبنان لمخاطر الأسواق، ولتقلبات العلاقة الاقتصادية بين أوروبا والولايات المتحدة، كما حصل في التسعينيات حين ارتفعت قيمة الليرة تجاه سلة العملات نحو 100%، فيما فقدت الليرة أكثر من ثلث قوتها الشرائية في السنوات الست الأخيرة، ربطاً بتراجع الدولار وارتفاع معدلات التصحيح في لبنان بوتيرة أعلى من الخارج.
فضلاً عن أنّ النمو المطرد للقيمة السوقية لسندات الخزينة ضاعف من وهم الثروة، الذي يحفّز الطلب ويضغط على الأسعار ويزيد التكاليف ويقلل من القدرة التنافسية للدولة. يضاف إلى ذلك التنقيد الضمني للدين ومضاعفة قدرة المصارف على خلق النقود الكتابية، وهو ما لم نلتقط مؤشراته بوضوح بعد نظراً لتثبيت العملة المحلية، لكنّه أحد العناصر التي تفسر معدلات التضخم التي تساوي في لبنان ضعف ما هو مسجل في محيطه.
ختاماً، لم يكن الدين العام قدراً مفروضاً، أو نتيجة تلقائية للحرب الأهلية اللبنانية وما تلاها من استحقاقات وأزمات، بل هو نتيجة سياسات مقصودة لم يكن هدفها الأول إعادة الاعمار الذي لم تزد تكاليفه على 8% من مجموع النفقات منذ بداية التسعينيات حتى الآن، وقد تصل إلى 10% إذا أضفنا كلفة حرب تموز الممول معظمها بالهبات. إنّ تضخم الدين كان وسيلة من وسائل إعادة إنتاج النظامين الاقتصادي والسياسي على أسس لا تختلف كثيراً عما كانت عليه قبل الحرب، لكن المحصلة هي نظام غير مستقر وأزمات اقتصادية واجتماعية حادة، لا نزال ندفع تكاليفها حتى الآن، وربما ينتظرنا المزيد.

هوامش
(1) راجع: مصرف لبنان، التقرير السنوي 1996.
(2) إدارة الإحصاء المركزي UNDP ميزانية الأسرة 2004- 2005
(3) لمزيد من التوسع راجع: عبد الحليم فضل الله، اثر السياسة الضريبة على توزيع المداخيل في لبنان 1993-2003، مركز الدراسات والبحوث الإنمائية 2003.Nissreen Salti& Jad Chaaban; The Poverty and equity Implications of A rise of the value Added Tax: A micro simulation For Lebanon; Beirut: UNDP & Capacity Building for poverty Reduction; May 2009.

* رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، ورقة مقدمة إلى مؤتمر: «المالية العامة في لبنان، بين الخلل البنيوي والخيارات الإستراتجية»، تنظيم الهيئة الأهلية لمكافحة الفساد، بيروت 10 ــ 11 حزيران 2011