تخوض وزارات الدولة اللبنانيّة، الموالية لـ14 آذار والموالية لـ8 آذار، سباقاً محموماً مع موعد انتهاء التصويت على الإنترنت لانتقاء (غير علمي طبعاً، وغير إحصائي) لعجائب الدنيا السبع الجديدة ـــــ لا ندري إذا كان سيُضاف إليها جبل النفايات في صيدا. وقد أصدرت قيادة الجيش اللبناني (المُنصرفة إلى شؤون التصويت على الإنترنت، ربّما بعد نجاحها الباهر في التصدّي لاعتداءات إسرائيل وردّ العدوان في تموز 2006) وقيادة قوى الأمن الداخلي (وقد تحوّلت إلى فرع ميليشيوي لآل الحريري) تعميماً رسميّاً إلى جميع العناصر، لحثّهم على التصويت على الإنترنت لما يصيب لبنان من سؤدد النجاح على الإنترنت.
إنّ مجد لبنان، بعدما فرّط به البطريرك الجديد عندما ابتعد عن 14 آذار، يعتمد اليوم على نتيجة التصويت. ووصول لبنان إلى مرتبة العجائب السبع سيرفعه نحو العالميّة، أو ما بعد العالميّة، أو ما بعد ما بعد العالميّة.
وحاكم مصرف لبنان، الذي عيّنه رفيق الحريري، يصدر بيانات إعلاميّة دوريّة عن حصوله على مرتبة «أفضل حاكم مصرف مركزي» في العالم قاطبة، وكأنّ هناك مسابقة عالميّة يظهر فيها كل حكّام المصارف المركزيّة في العالم بلباس البحر، ويتنافسون في المواهب وفي العزف على القيثارة، لحيازة كأس «أفضل حاكم مصرف مركزي في العالم». والطريف أنّ سلامة يصدر بيانات دوريّة في ذلك الخصوص، أي أنّه فاز بالشرف أكثر من مرّة. جعل رياض سلامة من الحاكميّة منصباً لا يقلّ أهميّة وعلميّة عن مرتبة ملكة جمال البطّيخ، أو ملكة جمال الإجاص. هل يظنّ حاكم مصرف لبنان أنّ هناك من يأخذ على محمل الجدّ إعلاناته عن فوزه بلقب «أفضل حاكم مصرف مركزي في العالم»؟ وقد قلّد بعض الوزراء مسلك الحاكم، إذ إنّ زياد بارود أعلن هو أيضاً ـــــ ما حدا أفضل من حدا، كما يقول مثل لبناني ـــــ أنّه حاز لقب «أفضل وزير داخليّة» من هيئة عالميّة، ولا ندري إذا كان وزراء الداخليّة حول العالم قد خاضوا مباريات لعب الجمباز في باب المواهب، في المنافسة المزعومة. وجيزيل خوري تردّد على مرّ السنوات أنّها اختيرت من قبل «نيويورك تايمز» «أفضل إعلاميّة في العالم العربي»، وكأنّ مسؤولي الجريدة الصهيونيّة يقرأون العربيّة، ويتابعون برامج محطة صهر الملك فهد. طبعاً، لا وجود لجائزة «أفضل إعلاميّة في العالم العربي» من قبل «نيويورك تايمز»، لكن يبدو أنّ جيزيل خوري تريد أن تنطلق من استديو آل سعود (وآل حسني مبارك ـــــ كم كانت وفيّة لحسني مبارك وحكمه) نحو الآفاق العالميّة.
والمعلنون ورجال الأعمال دخلوا في اللعبة: ذلك يقول إنّه فاز بلقب «أفضل معلن» في العالم، وذاك يقول إنّه فاز بلقب أفضل رجل أعمال، وآخر يفخر بأنّه أفضل فاشي في العالم. جريدة «النهار» امتهنت اللعبة وتمرّست فيها: تكاد تزهو بمجرمين حول العالم إذا كانوا لبنانيّين. لعلّها تريد أن تقول: هؤلاء فازوا بلقب أفضل وأمهر مجرمين حول العالم. وبعض تجّار السلاح من اللبنانيّين حظوا بتغطية زاهية في الصحافة اللبنانيّة: إنّها العالميّة في تجارة السلاح. وفي السبعينيات، وصل مدير نادي «بلاي بوي» في لندن، وكان مختصّاً بشؤون لذّات آل سعود في بريطانيا، إلى مرتبة البطل اللبناني العالمي. وكان وصوله إلى مطار بيروت يُرصد في الصحافة اللبنانيّة.
ولبنان كلّه، في الفريقين المتصارعين، غارق في هوس «أرقام غينيس القياسيّة»، وهي لا تشغل إلا الصغار في هذه البلاد. ومتحف «غينيس» في بولفار هوليوود في لوس أنجلوس لا يجذب إلا الصغار من السيّاح: ولن ترى فيه رقماً قياسياً لبنانياً واحداً. العربي الوحيد المذكور في المتحف الصغير هو سوري، سجّل قبل سنوات رقماً قياسيّاً (لسنوات) في البقاء على عمود (لماذا؟)، والسباق بين القرى والبلدات اللبنانيّة لتحقيق أرقام قياسيّة في تحضير الأرقام والسندويشات (ألا يطمح لبنان إلى أي إنجاز خارج قائمة الطعام؟): لكن أحداً لا يعلّق بالقول إنّه لا منافسة حقيقيّة في تحقيق تلك الأرقام نظراً الى عدم وجود دول منخرطة في المنافسة لتحضير أكبر صحن فراكة أو أكبر صحن لوبيا بزيت. يعني ذلك أنّ لبنان يفوز من دون منافسة، لأنّه ينافس نفسه في تحضير أطباق محليّة.
وفوز جورجينا رزق بلقب «ملكة جمال الكون» في أوائل السبعينيات أسهم أيضاً في تعزيز القاعدة. تضخّمت معارك ملكات الجمال في لبنان، وتبارت فيها الأموال والحزبيّات والحزازات، ويكاد يراق الدم في كل معركة من معارك انتخاب الملكات في لبنان، وهي كثيرة. يعني أنّ الانتقال من ملكة جمال الفواكه في بكفيّا، والحصول على لقب ملكة جمال النجوم والمجرّات بات في متناول اليد. وذلك الرضى الغربي عن «الجمال اللبناني» لم يأت من عدم: يعرف لبنان كيف يقلّد الرجل الأبيض وكيف يحصل على رضاه، أكثر من غيره من الدول المجاورة.
إنّها لا شكّ عقدة العقد. عقدة العالميّة مرض عضال يعتري الجسم اللبناني. عوارضه تظهر في كلّ مظاهر الحياة العامّة والخاصّة. إنّها تنبع من عنصريّة ـــــ ضد الذات. تعبير عن رغبة جامحة لبهر الرجل الأبيض ونيل إعجابه. لقد باتت هوساً أكيداً. الكلّ يريد أن يثبت أنّه حقّق العالميّة: وهي لا تعني إلا نيل شهادة حسن السلوك من الرجل الأبيض. لا يفخر أحد في لبنان بنيل شرف أو تقدير من دولة في آسيا مثلاً. إلياس الرحباني كان كل سنة يزهو بأنّه نال جائزة عالميّة في مهرجان موسيقي، حقيقي أو موهوم ـــــ في أوروبا طبعاً ـــــ وزاد عليها أخيراً الزعم بأنّه نال شهادة دكتوراه فخريّة من جامعتين (جامعة بارنغتون والجامعة الأميركيّة في أستورياس في إسبانيا): والاثنتان (وهما عنوان بريدي وليستا جامعتين) أُقفلتا بسبب بيع الشهادات بالجملة. (تسلّم الرحباني «شهادتيه» في حفل «جامعي» في ... كازينو لبنان). الكلّ يبحث عن «العالميّة». طبعاً، للمشكلة جذور عميقة، ضاربة في التاريخ. والظاهرة لم تعد محصورة بلبنان: لأنّ لبنان يصدّر الكثير من أمراضه إلى الدول العربيّة. العالميّة تعبير عن عدم ثقة بالذات، تعبير عن احتقار الذات، عن تشرّب عقيدة الرجل الأبيض واحتقاره لنا. ولبنان، مثله مثل إسرائيل، تأسّس على عقيدة عنصريّة تبجّل الرجل الأبيض (يجب العودة إلى كتاب «توم سيغيف» بعنوان «1949» لمعرفة مدى عنصريّة مؤسّسي إسرائيل من اليهود الأوروبيّين نحو يهود أفريقيا والعالم العربي ـــــ أي أنّ عنصريّة الكيان الغاصب عنصريّة مزدوجة).
إنّ الجذور العميقة تاريخيّة، قد ندرسها في العلاقة التاريخيّة بين البطريركيّة المارونيّة وأوروبا. ما معنى أن يقول مطران حلب، نقولا مراد، في 1844 في رسالة إلى الحكومة الفرنسيّة مخاطباً ملك فرنسا: «نحن عبيد جلالتكم»؟ (فيليب وفريد الخازن، «المحرّرات السياسيّة والمفاوضات الدوليّة عن سوريا ولبنان»، ج 1، ص. 128). يشير ذلك، لا يوحي، إلى عراقة في الذلّ أمام الرجل المُستعمر الأبيض، وإلى سعي لكسب الرضى الغربي. لا ينحصر ذلك بلبنان: إنّ لسلالات الخليج تاريخاً من الارتماء أمام أقدام المُستعمِر، يحسدهم عليه بعض رجالات استقلال لبنان (الصوري). لكن عقدة العالميّة باتت تتحكّم في مفاصل الثقافة والفن في لبنان، وفي بعض الدول العربيّة.
قد نرصد جذور العقدة في العالم العربي المعاصر في ظاهرة عمر الشريف. لعب الشريف دوراً صغيراً في فيلم «لورانس العرب» (وهو فيلم يجب أن يُدرّس في مادة استشراق الأفلام، لما تضمّنه من مشاهد وحوارات ووقائع مهينة للعرب وتاريخهم المُعاصر)، ثم عاد ليلعب عدّة أدوار في أفلام متعدّدة في أميركا. حظي بنجوميّة متوّسطة في الغرب، لم تستمرّ أكثر من بضع سنوات، لكن المدّة كانت كافية لتدغدع كل عازف طبلة، وكل من يقوم بأي عمل في لبنان. وعليه، يعلّق مزيّن الشعر في صالونه في بيروت «جائزة تقديريّة» من فرنسا أو من دولة أوروبيّة أخرى، احتفاءً بعالميّته في قص الشعر. ولا ندري إذا كان «ملك الشاورما» في شارع الحمراء قد حاز لقبه في منافسة عالميّة حظي فيها بإعجاب اللجنة الفاحصة.
وكل فنان لبناني، وبعض من فنّاني العرب، يريد أن يأتي إلى أميركا، ولو لأيّام، لزيارة «هوليوود». يظنّون أنّ صناعة الأفلام لا تزال في هوليوود، ولم تتفرّع إلى لوس أنجلوس وكندا ونيويورك، وغيرها من المدن. ثم يعودون إلى لبنان ـــــ هذا إذا كانوا بالفعل قد زاروا «هوليوود» ـــــ ليحدّثوك عن هوليوود وعن ترحاب هوليوود بهم. الممثّل يوسف حدّاد قال إنّه على وشك توقيع عقد مع شركة «عالميّة»، لتصوير فيلم هوليوودي. وأليسا زارت هوليوود وقالت إنّها زارت «يونفرسال ستوديوز»، وكأنّ المكان غير مفتوح للعامّة، مقابل رسم دخول. حتى المخرج الراحل، مارون بغدادي، تحدّث عن لقاء له مع مادونا من أجل إخراج فيلم في... هوليوود. الممثّلة مادلين طبر تحدّثت عن رحلتها في الثمانينيات إلى... هوليوود، وكيف أنّها لو صبرت قليلاً أو كثيراً لكانت انتهت في هوليوود، وجورج شلهوب كان على وشك العالميّة، لولا ظروف خارجة عن الإرادة، وهناك من يضع اللوم على «اليهود في هوليوود». وكل فنانة تُسأل عن أحلامها الهوليووديّة. (كان المخرج الفلسطيني، هاني أبو أسعد، قد حدّثني قبل سنوات عن فكرة فيلم يسخر من عقدة العالميّة الفنيّة).
لكن مثال عمر الشريف غير مُشجّع أبداً. عندما وصلت إلى هذه البلاد في 1983، كانت نجوميّة الشريف قد أفلت قبل سنوات. كان يظهر كضيف شرف في بعض أفلام ما يُسمّى هنا «أفلام درجة باء». وكان يظهر على برامج المقابلات والأحاديث، ويضحك لنكاتهم ضد العرب والمسلمين، ويزيد عليها. كان يحبّ دائماً أن يروي لهم كيف عاقبه النظام الناصري لأنّه ظهر في فيلم «السيّدة المرحة» مع بربارا سترايسند. كان الشريف يقول لهم ممتعضاً: تصوّروا! منعوني لأنّ سترايسند يهوديّة. كان الشريف يريد أن يقول للرجل الأبيض إنّه متحضّر، خلافاً للعرب والمسلمين المتخلّفين. وهلّل العرب وطبّلوا لعمر الشريف. الرجل الأبيض يريدنا، هتفوا. ضاع في خضمّ الاحتفالات أنّ الفيلم المذكور الذي أطلقه شكّل أكثر من إهانة للعرب ولتاريخهم وللحقائق. ولبنان، كعادته، أراد أن يسرق الأضواء وتبنّى عمر الشريف كواحد من أبنائه، مع أنّ الرجل لم يكنّ ودّاً أو حبّاً للبنان، باستثناء زيارات نادرة للعب «البريدج». واختفى الشريف عن الأضواء، ويبدو أنّ عنصريّته لم تكن فقط ضد العرب وضد المسلمين (التي عبّر عنها في مجلات وصحف غربيّة، قبل نبذه فنيّاً في الغرب وعودته إلى مصر للارتزاق في خريف العمر). فقد أدين قبل سنوات في محكمة بلوس أنجلوس، بعدما أهان بأقذع العبارات عامل موقف سيّارات من أصل مكسيكي. وعاد الشريف إلى مصر واكتشف أنّه يحب مصر والعرب، وزاد كلاماً مهيناً ضد اليهود، وكيف أنّهم يتحكّمون في مفاصل هوليوود. الكلّ أراد العالميّة بعد عمر الشريف. الكلّ حلم بلحظة استدعائه من قبل مخرج أو سياسي أو مسرحي غربي. ويظهر ذلك في الحديث عن جائزة نوبل في الآداب. كم أثّرت نوبل، مثلاً، على مواقف أدونيس السياسيّة، وكم بات يتحدّث عن السلام والمحبّة بعدما زادت حظوظه في النجاح، وكم زاد تغزّله الإنشائي (غير البليغ) بـ«الحريّة». أعظم كتّاب العالم العربي في القرن العشرين لم يحوزوا جائزة نوبل (فيما حازها نجيب محفوظ، وهو بالتأكيد ليس أفضل كتّاب العربيّة، كما نالها إسرائيلي لم يسمع به أحد في 1966).
فتكت العقدة العالميّة بالأدب والفن في لبنان. أثّرت على ميخائيل نعيمة مبكّراً. كم جهد كي يحظى بصيت جبران في المجتمع الأميركي (الذي نُظر إليه ككاتب إنشاء سهل وقريب، وليس كأديب، وطبعاً ليس كفيلسوف، لكنّهم في لبنان يستسهلون إطلاق صفة الفيلسوف على الكتّاب، ربّما لأنّهم يخلطون بين التأمّل الإنشائي والفلسفة). نعيمة ترجم بنفسه بعضاً من كتبه إلى الإنكليزيّة، ووضع «كتاب مرداد» على نسق «النبي»، إلا أنّ ترجمته كانت جامدة وخالية من الحياة، ولم تلق أي تجاوب أو صدى. ويعمل بعض كتّاب اليوم وشعراؤه على التفرّغ للعلاقات العامّة، أكثر من عملهم في الشعر والأدب. وبعضهم ينجح في حثّ (أو الإقناع غير المجّاني) دور نشر غربيّة على ترجمة إنتاجهم. هناك من الكتاب والشعراء الذين لا يعرفهم الناس من خلال إنتاجهم الأدبي ممن حظوا وحظين بترجمات لأعمالهم، فيما لا تزال أعمال كبار الكتّاب والشعراء غير مترجمة. ما معنى أن لا تكون أشعار السيّاب مترجمة، فيما حظيت بعض فنانات الأدب وفنانيه بترجمات إلى لغات متعدّدة؟ وعليه، فإنّ الصحافة الغربيّة، وبعض جامعاتها جاهلة بمواقع وإنتاج الأدباء والشعراء من الجنسين في لبنان والعالم العربي، لأنّ التوق إلى العالميّة دفع بالمتموّلين الخليجيّين إلى دعم المحظيّات والمحظيّين. واختلاق جائزة «بوكر» العربيّة تقليد لا ينتمي إلى الأدب العربي، ولا يهدف إلا إلى فرض معايير النفط في الترويج للأدب والفن للوصول إلى لفت نظر الرجل الأبيض.
ولا يمكن الحديث عن عقدة العالميّة من دون الحديث عن جريدة «النهار» وتسويقها عبر العقود في سنوات أوج نجاحها (قبل دخولها عمليّة الاحتضار الطويل). كانت تنمّي تلك العقدة عبر اختلاق قصص نجاحات لبنانيّة حول العالم، والمبالغة في بعض القصص الأخرى إلى درجة بت تخال فيها كلّ لبناني في المهجر مشروعاً لعبقري. أصبح اللبناني بمجرّد أن يطأ أرض المهجر مشروع عبقري على مستوى عالمي. وتظهر عقدة العالميّة في تغطية «النهار» لـ«اكتشافات دواء» للسرطان من قبل أطباء لبنانيّين. أذكر أنّني كنت أقرأ دوريّاً في جريدة «النهار» عن أطباء لبنانيّين إما على وشك «اكتشاف دواء» للسرطان أو أنّهم بالفعل اجترحوا دواءً ناجعاً للسرطان (وكأنّ علاج السرطان سيأتي عن طريق شخص واحد، وعبر دواء واحد، مثل دواء السلّ. تدنّي المستوى العلمي في ذهنيّة «النهار» وأخواتها يجهل أمور تراكم المعرفة الطبيّة والتدرّج في العلاج الحديث). ويساهم بعض اللبنانيّين أنفسهم وأنفسهنّ في سريان العقدة اللعينة. فيصبح طالب الطبّ في المهجر طامعاً بخبر في صدر الصفحة الأولى في جريدة بلده عن اكتشافاته العلميّة، وخصوصاً في «اكتشاف» دواء للسرطان. وباحث الطب اللبناني في فرنسا، ميشال عبيد، مسؤول هو نفسه عن خداع الشعب اللبناني حول أهميّة إنجازاته العلميّة. كتب عبيد مقالة في مجلّة علميّة بالاشتراك مع عدد من الأساتذة والزملاء ـــــ كما هي الحال في المقالات العلميّة ـــــ فوجدها فرصة كي «ينزل» إلى لبنان، ليحتفي به الوطن الأم. كان حريّاً بعبيد كعالم أن لا ينساق وراء الحملة المسعورة وغير العلميّة من باب الحرص على الأمانة العلميّة، إن لم يكن لأسباب أخرى. وهناك مشعوذون لبنانيّون ممن يجنون الثروات عبر إقناع مرضى عرب بأنّهم توصّلوا إلى علاج السرطان عبر مزج الأعشاب بالطحينة (أو مثل «عقار الأرز» الذي اخترعه نبيل حبيب لعلاج المرض الملعون).
والسعي نحو العالميّة ينطبق على عالم السياسة. شارل مالك كان فخر جريدة «النهار». ووصل مالك إلى العالميّة بالطريقة نفسها التي وصل فيها حميد قرضاي. كان مالك خادماً مطيعاً لقوى اليمين المسيحي الصهيوني المتعصّب في الحرب الباردة، وكان يلقي الخطب في محافل أقصى اليمين، ويجود في الدعاية اليمينيّة المسيحيّة ضد الشيوعيّة واليسار. والرجل الذي كان يتبادل قصاصات الرسائل مع أبا إيبان في الأمم المتحدة (باعتراف الأخير)، أصبح مفخرة لبلاده مع أنّ «صعوده» كان هبوطاً أخلاقيّاً، وهو الذي أفصح عن حقيقة مكنوناته في 1982، عندما دعا إلى «محاكاة حضاريّة» بين لبنان وإسرائيل.
وعقدة العالميّة هي التي أسّست لأساطير لبنانيّة، تبدأ بالتاريخ ولا تنتهي بالجينات، وهي تطبع السياسة. عقدة العالميّة هي في سلخ لبنان عن محيطه وتاريخه وجعله فريداً من نوعه. إنّ طموح السياسي اللبناني هو في الحصول على تربيت الرجل الأبيض في العواصم الغربيّة. في كتاب أنطوان سعد عن البطريرك صفير، تدرك كم سعى البطريرك الذي رفض بإباء وشمم زيارة رعيّته في سوريا، من أجل أن يحظى بلقاء بضع دقائق مع ريغان. السنيورة ضعف أمام كوندوليزا رايس، حتى أثناء العدوان الإسرائيلي في لبنان. والعالميّة هي في اختراع كذبة عالميّة تصلح لسجلّ «غينيس» للأكاذيب العالميّة حول «إمبراطوريّة الانتشار اللبناني». البعض يصرّ على أنّ عدد اللبنانيّين حول العالم يصل إلى 15 مليون نسمة. والعالميّة تسم مسلك بعض رجالات الطوائف في لبنان، فهم عندما يُستخدمون كأدوات في مرحلة من مراحل السياسة الأميركيّة، يظنّون أنّهم أصبحوا في موقع نصح، أو توجيه، السياسة الأميركيّة في الشرق الأوسط. أصبح وليد جنبلاط ـــــ زعيم 80% من 6% من سكّان البلد الصغير ـــــ يظن أنّه مُقرِّر عقيدة بوش الأوحد. وسجلات «ويكيليكس» زاخرة بنماذج عن الطموحات العالميّة لساسة لبنان، حتى هؤلاء الذين بالكاد يحظون بتأييد الأحياء لهم. سعد الحريري في «ويكيليكس» يحثّ الولايات المتحدة على تغيير سياستها نحو الإخوان، وكأنّ أميركا تقرّر تغيير سياساتها بناءً على رجل بالكاد يفقه السياسة في لبنان (وهو كان في «ويكيليكس» يقلِّد والده، من حيث الطموح النابليوني الإقليمي).
لكن ضموراً أصاب الطموح اللبناني. كان لبنان يحلم بأنّ لبنانيّاً سيفوز بلقب «مكتشف دواء السرطان»، أو أن تحظى ملحمة يحيى جابر عن رفيق الحريري بجائزة نوبل للآداب. (من الجميل أنّه ليس هناك لبناني حاز جائزة نوبل، لكنّني أجزم أنّ جريدة «النهار» ستجعل من أدونيس لبنانيّاً من جبل لبنان، لو حاز الجائزة). لكن طموح لبنان تحجّم: بات يحلم بأن يحوز فقط رقماً قياسياً في حجم طبق من الطعام، ولو بابا غنّوج. هذا حسن. يبدو أنّ لبنان عرف حجمه (الصغير جداً) وإن متأخراً. فلتُدقّ الكبّة في جرن عملاق: لعل مجداً عالميّاً ينتظر وطن بعض الأرز.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)