هل تستعيد مصر دورها كقطب عربي موحد، أم تدخل إلى المحور التركي ـــــ الأطلسي عبر الإسلام المعتدل؟يطرح رئيس الوزراء التركي، رجب طيب اردوغان، نفسه مرشداً سياسياً واقتصادياً للثورة المصرية، وحليفاً ديموقراطياً لها، كما طرح نفسه داعماً للتدخل الأطلسي في ليبيا، وموجهاً للثورات العربية عبر جولته العربية، واستهدفت تعزيز دور تركيا الإقليمي.
يعي أردوغان أنّ حزبه مثّل ويمثل نموذجاً لكثير من أعضاء جماعة الإخوان، وغيرها من الجماعات السياسية التي تستعد لأول انتخابات حرة بعد إطاحة مبارك، لكن لا يشترك الحرس القديم للإخوان، مع جيلها الأصغر، في الإعجاب بالزعيم التركي، إذ إنّهم خبروا السلطات التي تعاقبت على مصر، كما عاصروا السياسات الإقليمية والدولية، لذلك يرى هؤلاء أنّ البلاد العربية لا تحتاج الى مشاريع خارجية.
يرحب الإخوان اذاً، وينتقدون في آن واحد، إذ إنّهم يعلمون أنّ الزعيم التركي يعتقد أنّ «الإسلام التركي»، هو النظام الأمثل للدول الإسلامية الحديثة، لأنّه بنظره يزاوج بين الدين والديموقراطية. هو يسعى إلى ملء الفراغ الذي سينشأ عن انسحاب الولايات المتحدة من العراق وافغانستان. هم يشيرون إلى أنّه طامح لكي تصبح بلاده القوّة الإقليمية الأولى في المنطقة، وأن تبسط نفوذها على العالم الإسلامي كلّه، لذلك هو يخطب ود مصر من أجل شراكة وتفاهم استراتيجيين، ويحاول طمأنة الدول الخليجية النفطية المتوجسة من أنّه سيكون الحامي من الصعود الإيراني وتحالفاته.
لكن التركي آت من جذور علمانية، لطالما طرحت إشكالية بالنسبة إلى الإخوان. إلا أن اردوغان يعدّ علمانيته عادلة، رغم أنّها لا تحترم كافة الحريات الدينية، فهي لا تسمح للمحجبات بالعمل في الدوائر الحكومية، كما أنّه لا اعتراف بالعلويين كمجموعة لها خصوصيتها، ولا تزال تعد بالنسبة إلى رئيس الوزراء مجموعة «ضالة». لقد لعب اردوغان على النزعة المذهبية خلال الحملة الانتخابية عندما كرر الإشارة أكثر من مرة إلى الانتماء العلوي لخصمه زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليتش دار أوغلو، مع العلم أنّه يسعى الى تزعم العالم الإسلامي، حيث التنوّع المذهبي والطائفي يمثلان الأرضية الاجتماعية ـــــ السياسية. لذلك يمكن القول إنّ بلاده تعاني، على ما يبدو، المشكلات التي يعانيها العالم الإسلامي.
لقد انفتحت أميركا وأوروبا على الإسلام السياسي في المنطقة، من خلال حزب العدالة والتنمية، في خضم الحرب على الإرهاب. فهل جرى التمييز بين من يريد التغيير من خارج النظام، أي اعتماد الدولة الإسلامية، فاستُبعد وجرت محاربته، ومهادنة من يريد التغيير من داخل النظام؟
يمكننا تقسيم الحركات الإسلامية في علاقتها مع الدولة الى قسمين: واحدة تفضل العمل على تحقيق هدفها من داخل مؤسسات النظام السياسي، وأخرى ترى أنّ الوسيلة الوحيدة لتحقيق ذلك يكمن في الدولة الإسلامية، أي البديل عن الدولة القائمة. فما هو موقع الإسلام التركي من ذلك التصنيف؟ وهل من تشابه بينه وبين الإسلام المصري الذي قاده الإخوان المسلمون؟
يبدو الاختلاف واضحاً من حيث تراث الممارسة السياسية، إذ إنّها أفضت في تركيا إلى نظام ديموقراطي، وإن كان ليس نمطاً ديموقراطياً غربياً، فالأحزاب الإسلامية شاركت في العملية السياسية، منذ سبعينيات القرن العشرين، حتى وصلت الى السلطة في 2002. بينما بقيت الجماعات الإسلامية في مصر تخوض مرحلة صراع سياسي مع الحزب الحاكم، لكن ما لا يمكن إغفاله هو أنّ الحركة الإسلامية في كل من تركيا ومصر، أسهمت في تكوين الدولة الوطنية الحديثة، أي في المساعدة على التخلص من الاستعمار، وواجهت فترات من حكم الحزب الواحد، تلتها مراحل الانفتاح السياسي والديني.
يكمن الفرق في الصراع الذي عاشته تركيا بين العلمانية والدين، وهي حاولت ضبط الديني في خانة الخاص، وأبعدته عن الدولة التي هيمنت على ذلك الحيّز، وأخضعته لرقابتها. في المقابل، لم تكن الدولة الناصرية في مصر، بحاجة الى إخضاع المجال الديني لسيطرتها، ولا إلى نبذ مظاهر التديّن، بل استُخدم الأزهر وبعض الإخوان الذين انشقوا ودعموا الدولة الناصرية في صراعها مع أترابهم. لم يؤسس عبد الناصر مشروعه على استئصال الدين، بل كان واعياً لأهمية الدين في مشروعه التحديثي، فقبض عليه مجتمعياً، ونافس الإخوان.
في فترة الستينيات، شهدت مصر صراعاً عنيفاً بين الحكم والإخوان، وأتت دعوة سيّد قطب الى الدولة الإسلامية بمثابة رفض للدولة المصرية، بوصفها فاقدة للشرعية، وظهرت مفاهيم جديدة عن حاكمية الشريعة وجاهلية المجتمع. لقد طرح شرعية مستقلة ومنافسة لشرعية الدولة، وفي كتابه «معالم في الطريق»، أكد على أممية الدعوة الإسلامية. هنا يظهر التناقض مع الإسلام التركي، الذي كان يعمل تحت المظلة القومية التركية، التي استمد منها قوته، في سبعينات القرن الماضي. أخذت الحركة الإسلامية في تركيا طاقتها من جهاز الدولة ذاته، ورغم سياسات العلمنة القوية، جرى التصالح مع الدولة، ومؤسساتها عبرت عن نفسها عبر القنوات المؤسساتية.
برز الانتعاش الاقتصادي للإسلاميين في تركيا مع السياسات الاقتصادية الأربكانية، في السبعينيات، واستفادت البورجوازية المسلمة، في الثمانينيات، من الإصلاحات الاقتصادية والانفتاح الديني، بعد ضرب الراديكاليين واليساريين. ما هيأ لبروز رجال الأعمال الإسلاميين الأتراك الذين أعلنوا في 1990 جمعيتهم التي نجحت في تأسيس شركات مالية كبرى، موازية للقوة الاقتصادية للنخبة العلمانية. وهي اليوم تستفيد من وجود حزب العدالة والتنمية في السلطة.
في مصر السبعينات، أطلق السادات سراح الإسلاميين من السجون، وحرضهم على الناصريين والماركسيين، وفي خضم مرحلة الانفتاح الاقتصادي، حاول الإخوان الذين هاجروا في ستينات القرن الماضي إلى الخليج، الدخول كمستثمرين. وحاولوا الاستفادة من ذلك الانفتاح السياسي، وتوظيفه لمصلحتهم، لكنّ المشكلة كمنت في التوجه الاستهلاكي، إذ نمت شبكة من المؤسسات والشركات الاقتصادية الوثيقة الصلة بهم، لكنّهم لم ينشئوا شبكة اقتصادية صناعية ـــــ بنيوية، تؤسس لحالة اقتصادية صناعية، بل حاولوا، عبر استثماراتهم العقارية والسياحية، زيادة قوّة التنظيم في الداخل والخارج، من أجل إعداد الحركة الإخوانية للمشاركة سياسياً، وترسيخ القيادة المصرية لفروع «الإخوان المسلمين» في الخارج. اختلفت تجربة تجميع رأس المال في مصر، عن التجربة الصناعية التركية التي ازدهرت داخل الدولة قبل أن تزدهر خارجياً.
طغت القومية التركية على الإسلام الذي استعمل للتلطيف من حدّة القومية تجاه القضية الكردية. واذا كان أربكان قد انضم الى المؤتمر الإسلامي، وأيّد القضية الفلسطينية في السبعينيات. في تحوّل عُد تغييراً في السياسة التركية، بعدما استفاد من سياسة الانفتاح وتبنى فكرة تأسيس مجموعة «الثمانية الإسلامية الكبار»، الا أنّه خاض صراعاً مع العلمانية المتمثلة بالجيش الذي قام بالانقلاب عليه، وحلّ حزبه.
إنّ البراغماتية الإسلامية لتلامذته أفضت الى تأسيس حزب «العدالة والتنمية» في 2001، الذي تولى السلطة من 2002 الى اليوم. وضع الحزب الجيش في حالة من الشك، باتهامه بالخروج عن العلمانية التي تتسامح مع التعددية الثقافية والحريات الدينية. ومع الأزمة الاقتصادية لجأ الى صندوق النقد الدولي، وخضع لشروط ومضامين الاقتصاد المعولم، إضافة إلى إعادة بعث محاولات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إلى الحياة.
نأى حزب العدالة والتنمية بنفسه عن الأفكار الأممية، عبر التدخل المتوازن في القضايا الإسلامية، من خلال المؤسسات السياسية التركية نفسها، على نحو موقف الحزب من غزو العراق في 2003، لكنّه اتبع الوصفات الغربية عبر التوفيق بين قوانين الدولة والمعايير الديموقراطية وحقوق الإنسان. لم يناهض العولمة، بل اعتمد اللبرلة واستجاب لشروط الاقتصاد العالمي، إلى جانب تطوير برامج التأمينات الاجتماعية للمعوزين.
في المقابل، أسّس الإخوان في مصر الفروع الإقليمية لحركة الإخوان المسلمين؛ وهي الفروع التى جرى تجميعها تحت قيادة الجماعة الأم في مصر، باسم «التنظيم الدولي للإخوان المسلمين» في 1982. أفكارهم الأممية تجاوزت حدود مصر، حين تعلق الأمر بالقضايا الإسلامية، ولا سيما القضية الفلسطينية، كما أنّ مشروعهم السياسي تخطى الدولة المصرية، وخصوصاً حين سيطر هاجس الأمن القومي على السياسة المصرية، إثر اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في 2000. ساندوا القضية الفلسطينية واستنكروا غزو العراق في 2003. مما جعلهم في عين العاصفة بالنسبة الى النظام. عُدت القضية الفلسطينية كما كانت دوماً منطلقاً للحكم على وطنية أي تيار سياسي في مصر.
وفي الوقت الذي ركز فيه حزب العدالة والتنمية على القومية التركية التي تقوم على الدمج والاستيعاب، واستطاع نيل رضى كافة الشرائح الاجتماعية الليبرالية والعلمانية والإسلامية منها، عبر اعتماد اللبرلة والعقد الاجتماعي بين الفرد والدولة، مثل الإخوان المسلمون الأيديولوجية الإسلامية، وهو ما منعهم من تحقيق اختراق طبقي للمجتمع. لم تقف الشرائح الاجتماعية المختلفة مع الإخوان، من المتدينين الى العلمانيين، مروراً برجال الأعمال والاقتصاديين المراهنين على النظام. لقد أصروا على الربط بين الممارسة الديموقراطية للغرب في بلاده، وسياسته الخارجية تجاه القضايا الإسلامية. تمسك الإخوان بالدولة وبالمسألة الوطنية ومواجهة القوى الاستعمارية، وخلال حرب غزة، انحازت الجماعة إلى الإخوان في حركة حماس. ثم أعلنت انحيازها لحزب الله اللبناني في قضية «خلية حزب الله»، وعد الأمر اصطفافاً لصالح الأيديولوجيا الإسلامية والمقاومة.
أما حزب «العدالة والتنمية»، فلقد أبقى عضوية تركيا في حلف شمالي الأطلسي، ونظر إلى الشرق الأوسط باعتباره عمقاً استراتيجياً للدولة التركية، وحاول الدخول الى العالم العربي سياسياً من بوابة غزة. وفي اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب الأخير، شدّد أردوغان على أنّه «من غير الوارد بالنسبة إلى تركيا أن تتخذ موقفاً لامبالياً من التطوّرات في الشرق الأوسط، ليس لكونها جزءاً من جغرافية المنطقة وحسب، بل لما لها من تاريخ مشترك ومستقبل واحد أيضاً». هو لا يلاقي الثورات العربية فقط من باب الحرص على الديموقراطية وحقوق الإنسان، أو من باب النموذج الإسلامي المعتدل الوسطي الحريص على اللبرلة الاقتصادية والنموذج الغربي لحقوق الإنسان، بل هو يطرح نفسه أيضاً شريكاً مع المسار الإخواني في مصر، عندما يؤكد دعم بلاده لتوجّه الفلسطينيين إلى الحصول على اعتراف دولي بدولتهم المستقلة، ويشدد على شروط تركيا لعودة العلاقات مع إسرائيل، وذلك بالاعتذار من بلاده عن قتل مواطنيها في سفينة أسطول الحرية ودفع التعويضات لذويهم، ورفع الحصار عن قطاع غزة، لكن الى أي مدى يمكن أن تذهب تركيا في تدابيرها ضد إسرائيل؟
لقد ترافق إعلان طلب الاعتذار مع موافقة أنقرة على نصب الدرع الصاروخية الأطلسية على الأراضي التركية. إنّها السياسة التركية الأطلسية التي تحابي العرب وتخدم السياسة الأميركية، فهي تعلم أنّ الصدام مع الغرب لن يفيد مشاريعها القومية، والإسلام الوسطي والمعتدل هو الطريق القويم الى النجاح الاقتصادي، الذي عبره تمكن حزب العدالة والتنمية من كسب كافة شرائح المجتمع التركي، عبر الانفتاح على دول النفط والاتحاد الأوروبي. واذا كانت الدرع الصاروخية قد مثلت صدمة كبيرة لإيران التي لم تكن تتوقع الأمر، يبقى أنه لا ضمانات لأردوغان، لأنّه لا يمكن البناء على أي شراكات حالياً، مع غياب هوية السلطة في مصر وأطروحاتها، ولا سيما أنّ الانتخابات والتحوّلات هي الفيصل.
لا يلتقي الإخوان في مصر مع مجمل الطروحات التركية التي تسعى الى الشراكة، ويبقى الصراع على مستقبل مصر صراعاً محلياً واقليمياً ودولياً. هي مصر اليوم التي جهدت الولايات المتحدة لكسبها وتقليص دورها العربي والإقليمي، فهل يمكنها أن تستعيد دورها كقطب عربي موحد، أم تدخل الى المحور التركي ـــــ الأطلسي عبر الإسلام المعتدل؟
* باحثة لبنانية