عبثاً يحاول المرء البحث عن أخبار «وول ستريت» هذه الأيام. طبعاً هو ليس بحثاً يتصل بأسعار الأسهم وملاءاتها المالية، كما قد يبدو لمن اعتاد تلك الوجهة حصراً في التعاطي مع بؤرة النهب العالمي. وحتى عندما يفكر مستثمر ما (غالباً ما يكون نفطياً) في اختزال «وول ستريت» إلى ذلك البعد فحسب، يجد ذاته مضطراً إلى التراجع والنظر أبعد قليلاً من أنفه. هو لا يريد فعل ذلك، لكن ماذا تفعل حين «تحتل» مجموعة من الشباب الغاضب حيزك المفضل في أميركا، لأسباب تخصّك بمقدار ما تخصّهم؟ أنت مستثمر في سوق المال في نيويورك، وهم يشعرون بأنّ استثمارك ذاك يسلبهم مخصصاتهم ووظائفهم وضمانهم الصحي (هنالك المزيد من الأسباب لذلك، يمكن الاطلاع عليها لدى قراءة أدبيات حركة «احتلوا وول ستريت») . كيف لا تكون هنالك علاقة سببية إذاً بين إحباطك لرؤية «غرباء» يحتلون حيّزك النيويوركي المفضل، وبهجتهم باستعادة ذلك الحيز المحتلّ منك، ومن أرباب عملك القذرين في وول ستريت.
لا يختزل ذلك التشبيه حقيقة ما يحدث في الشارع النيويوركي الشهير حالياً. فما يحدث هناك الآن أكبر من ذلك بكثير. ومع ذلك، عبثاً تحاول أن تجد عنه شيئاً في صحافتنا المأجورة والعميلة لرأس المال النفطي (اضطرت «الحياة» السعودية أخيراً إلى الاعتراف بوجود احتجاجات في أميركا لأنّ الاستمرار في تجاهلها سيغدو فضيحة للبوق السعودي «الرصين»). حتى الصحف غير الخاضعة لهيمنة رأس المال ذاك، تستنكف اليوم عن نشر أخبار الاحتجاجات في أميركا. لا أدري حقاً ما هو الخطب، وما الذي يدفع صحفاً يسارية مثل «الأخبار» و«السفير» (خرجت الصحيفتان أخيراً عن صمتهما وقرّرتا مواكبة أحداث وول ستريت «على نحو خجول») أن «تحذو حذو» أبواق سلالات النفط في التعتيم على «احتجاجات جذرية» ضد النظام المالي الفاسد (هكذا هو توصيف النظام في أدبيات حركة الاحتجاج) في الولايات المتحدة والغرب الرأسمالي عموماً. ثمة مشكلة حقيقية في مقاربة تلك المنابر البديلة لما يحدث في أميركا الآن. ففي مقابل «الحماسة الزائدة» أحياناً لاحتضان حراك عربي لا يبدو أنّه يحمل برامج بديلة من حكم المافيات القائمة، تجد فتوراً مقلقاً في احتضان «أنماط» مماثلة لذلك الحراك عندما تأخذ طابعاً مركزياً. والمركزية هنا تعني الانتقال من حيّز «التغيير» الصوري في دول الأطراف إلى حيز آخر يأخذ التغيير فيه شكلاً «جذرياً». وذلك الحيز لا يوجد إلا في دول المركز الرأسمالي (أوروبا وأميركا). لقد جرّب لينين على طريقته تثوير الرأسمالية من موقع طرفي لم تنضج شروطه الصناعية بما فيه الكفاية، وفشل في ذلك، أو إذا شئتم فشل ورثته الستالينيون التحريفيون، لكن الإخفاق في المحصلة نسب إليه والى نظريته في حرق المراحل. ويبدو أنّ كلّ التجارب التي تفكر في التغيير انطلاقاً من الأطراف ستلقى مصيراً مماثلاً لمصير الثورة الروسية، حتى لو لم تكن تحمل برنامجاً راديكالياً مشابهاً لما حملته تلك الأخيرة. الانتفاضات العربية مثلاً لا تحمل تلك البرامج، بل تطرح على نفسها وعلينا، عنواناً تبسيطياً ساذجاً اسمه «إسقاط النظام». وكأنّ ذلك الإسقاط سيتكفل وحده بعملية «بناء ما تهدم». لكن مهلاً،هل تهدم شيء أصلاً لصار إلى البناء على أنقاضه؟ في ذلك الموضع تحديداً تكمن مشكلتنا حالياً مع الانتفاضات العربية. لنلاحظ شيئاً هنا: الثورات عادة لا تقوم إلا لتهدم ما قبلها، وتبني على ذاك الهدم لاحقاً، إلا إذا كانت ثورات ملونة على النسق الكولونيالي. عندها فقط يمكن المحاججة بفكرة تلفيق الثورات. فلا ثورة ممكنة إذا مالأ ثوارها الأنساق القديمة. أنساق تشمل الديكتاتوريات ومن نصّبها أيضاً. وعندما يغدو التصويب على الأنساق تلك انتقائياً (أي استهداف الديكتاتوريات وتحييد من نصّبها علينا) نكون أمام مشكلة منهجية في «العمل الثوري». لا يعود العمل حينها ثورياً تماماً، بل يصبح «إجراء تلفيقياً»، الغاية منه إسقاط اوليغارشيات منتهية الصلاحية، والاستعاضة عنها بأخرى أكثر اتساقاً مع الواقع الجديد. في تلك الحالة، تكفّ «الثورة» عن كونها كذلك، وتصبح في عرف من يقومون «بتلفيقها» إعادة إنتاج للنظام القديم على نحو يلائم استراتيجيات السيطرة الجديدة. لذلك تحديداً تكتسي عملية الربط بين التغيير في الأطراف والمركز، أهمية مطلقة. فبدون تلك العملية المعقّدة لا أمل لدينا إطلاقاً في إنتاج ديموقراطيات راديكالية «على النسق اللاتيني». ديموقراطيات تمثل الطبقات الشعبية تمثيلاً حقيقياً (لا صورياً)، وتقطع مع نسق الالتحاق الذيلي بالغرب الرأسمالي في الآن ذاته. وحتى تجد تلك المزاوجة سياقها الفعلي، لا بد من الالتفات قليلاً إلى ما يفعله شباب (وشابات) نيويورك ولوس أنجليس وشيكاغو وبوسطن وسان فرانسيسكو ودنفر وغيرها. فهؤلاء «يوجعون اليوم قلب أميركا المالي» على ما ورد في أحد المواقع العربية القليلة التي غطّت أخبار الاحتجاجات منذ بدايتها (موقع «مصراوي» إلى جانب bbc عربي). ومهمة إيلام ذلك القلب ليست بالقليلة أبداً بالنسبة إلى مجتمع يعيش منذ عقود خارج السياسة بمعناها الفعلي. أي السياسة بوصفها فعلاً رقابياً على عمل الكارتيلات المالية والعسكرية التي تدير أميركا والعالم من وراء الستار. بذلك المعنى يدشّن خروج آلاف الشبان والشابات في ولايات أميركية مختلفة للتظاهر ضد هيمنة تلك الكارتيلات عودة حقيقية (لا صورية) للأميركيين إلى السياسة. عودة مفارقة تماماً للعودة الشكلية التي كانت تحصل تحت مظلة الحزبين المهيمنين على الحياة السياسية الأميركية. وما يؤكد تلك الفرضية وقوف ذينك الحزبين اليوم على مسافة واضحة وشديدة العدائية من الاحتجاجات الغاضبة في وول ستريت (خطاب أوباما قبل أيام ليس خروجاً عن موقف الحزبين لأنّنا اعتدنا منه تلك المقاربة الانتهازية في تملّق الشعوب وإعادة صياغة مطالباتها الجذرية على نحو تلفيقي). وهو موقف متوقع من نخب أوليغارشية لا ترى في الشباب الأميركي إلا وقوداً لحملاتها الانتخابية الهزلية، ولا تتعامل معه إلا بمنطق الوصاية والإملاء. وحين يحاول الخروج من أسر ذلك المنطق، تتلاشى قيمته الكمية في صندوق الانتخاب الصوري، ويصبح إلغاؤه من المعادلة السياسية أمراً ضرورياً لاستمرار مسرحة السياسة الأميركية وتجميدها. وإذا كان القمع المباشر لتلك المجموعات الراديكالية متعذراً جزئياً اليوم (اعتقل قبل أيام أكثر من 700 محتج، لعبورهم جسر بروكلين الشهير، ثم أفرج عن معظمهم لاحقاً) فلا بأس بالاستعاضة عنه بذراع إعلامية جاهزة للتعتيم والتلاعب بالوقائع المادية غبّ الطلب. يكفي أن يتابع المرء القنوات الأميركية مثل «سي.إن.إن» و«إن.بي.سي» التي تحمست للانتفاضات العربية (ليس كل الانتفاضات طبعاً) حتى يلحظ كيف تحوّلت تلك المنابر إلى أبواق لتسويغ هيمنة النخب الرأسمالية القابعة في وول ستريت على حياة الأميركيين. فبمجرد انتقال الاحتجاجات من المنطقة العربية إلى قلب الولايات المتحدة، اختفت من تلك المنابر تماماً النبرة الحماسية التي رافقت بعض الانتفاضات العربية، وكفّت مراكز البحوث اليمينية و«اليسارية» عن نحت المصطلحات وتصديرها الى الشعوب الثائرة في الأطراف. هل هنالك من يعلم أنّ مصطلحي «arab uprising» و«arab spring» (النسختان الأصليتان لتعبير «الربيع العربي») قد صدّرا إلينا من هناك، وأنّ توصيف «ثورة الياسمين» الاستشراقي بدوره قد نحت أيضاً على المنوال ذاته، ولكن في «فرنسا الساركوزية»؟ أما الآن وقد وصلت نفحات «الربيع» إليهم في نيويورك فكيف سيتعاملون معه يا ترى؟ وهل هنالك من سينحت مصطلحاته ويعيد تصديرها من جديد الى... شارع وول ستريت! الأرجح أنّ كارتيلات المصارف ستوعز الى نخبها اليمينية في مراكز الأبحاث بالتعتيم على الأحداث ومدلولاتها. فما يحدث الآن في وول ستريت «قد يغيّر المعادلة جذرياً في البلاد»، كما قال منذ أيام نوام تشومسكي، في معرض دعمه للاحتجاجات وتوجهه بشريط مصور إلى المتظاهرين في بوسطن. وذلك بالتحديد ما يخيف سادة وول ستريت ويقضّ مضاجعهم. ذلك أنّ تغيير المعادلة يعني ببساطة انتهاء الحقبة التي كانت تعمل فيها المصارف والمؤسسات المالية المهيمنة بمعزل عن رقابة الطبقات الشعبية. طبعاً لن تبتلع زبانية وول ستريت ذلك الأمر بسهولة وستحاول ما أمكنها وأده في مهده، لكن ماذا عساها تفعل مع الكتل الشعبية (والنقابية الآن، وهنا مصدر الخطورة الحقيقي على النظام في أميركا) التي يتزايد انخراطها في الفعل الاحتجاجي؟ وكيف ستحتوي حراكها الذي يأخذ أكثر فأكثر طابعاً راديكالياً؟ أغلب الظن أنّها ستكتشف عجزها ومحدودية خياراتها لاحقاً، تماماً كما اكتشفت ذلك الديكتاتوريات العربية التي رعوها ونصّبوها علينا. وحتى نعاين عن كثب محدودية خياراتهم تجاه العصف الشعبي ما علينا إلا أن نقرأ عينة مما يضمره ذلك العصف. مثلاً، تقول إحدى المحتجات في معرض توصيفها لماهية مشاركتها في الاحتجاجات: «الاقتصاد ينهار في بلادنا، والناس يموتون جوعاً وليس لديهم وظائف، وعندما تسير في شوارع مانهاتن ترى المشردين في تزايد مستمر. الفكرة الخاطئة حول أنّ أميركا تعتقد أنّها وأننا بخير. نحن لسنا بخير، ويجب على المزيد من الناس أن يتكاتفوا كما نفعل هنا، والتظاهر من أجل حقوقنا وما نستحقه كبشر». تلك عيّنة بسيطة لوعي بدأ يتبلور في الشارع الأميركي، ويؤطر عفويته وفطريته في مواجهة خصم واحد ووحيد، هو بطانة وول ستريت المالية. يبقى على هؤلاء أن يجذّروا خطابهم أكثر، ويؤدلجوه قدر الإمكان، تماماً كما فعل البيان التأسيسي لحركة «احتلوا وول ستريت». فبدون تحديد هوية واضحة للاحتجاج، وتنظيمه لاحقاً على نحو هرمي، سيجد القائمون على الاحتجاجات أنفسهم يكرّرون تجربتي مصر وتونس. وهما تجربتان تجمّدتا جزئياً لأنّهما ارتأتا أن تواجها بطش المؤسستين الأمنية والعسكرية بفوضوية الشارع وحدها.
وفي انتظار حدوث ما لم يحدث في مصر وتونس، ستراقب كتلنا الجديدة تجاربها وهي تتفاعل مع الشرط الموضوعي في أميركا، وسيجبر الإعلام المأجور، عاجلاً أو آجلاً، على فكّ الحصار عن شبان أميركا وشابّاتها. و«نزع الحجاب» عن حراكهم الاستثنائي أمر حتمي، حتى لو لم يجد ذلك الحراك من يحتضنه في المدى المنظور. فالبدائل موجودة دائماً، ومن استطاع إيجاد البديل عن خدمة تويتر الموجّهة والمهيمن عليها، لن يستعصي عليه إيجاد بدائل أخرى. تلك هي شروط المعركة التي بدأتها ميادين التحرير في تونس ومصر، وعلى من بدأ فصلها الأول في دول الأطراف أن يستكمل فصولها الأخرى في دول المركز. هكذا يكون فعل الصيرورة عادة، وعلى ذلك النحو فحسب يعيد رفاقنا في أميركا وصل ما انقطع من «نضالنا نحن الـ99 في المائة في أميركا (والعالم) ضد الواحد في المائة الذين نهبوا مواردنا». الجملة نفسها ترد في أدبيات ناطقين آخرين باسم حركة الاحتجاج، لكن بصياغة جذرية أكثر. صياغة تشدد على فكرة التشبيك مع نضالات الآخرين في العالم، وعلى حتمية أن يأخذ ذاك النضال بعداً عالمياً: «في اقتصاد عالمي يصبح الصراع ضد نسبة الواحد في المائة المتبقية بالضرورة صراعاً عالمياً».

* كاتب سوري