إنّ الراصد المحلل لردود الأفعال العراقية على الحدث السوري الكبير المتمثل بالانتفاضة الشعبية المستمرة منذ أشهر، قد يخرج بانطباعات عدّة متشابهة من حيث المظهر، لكنّها ستكون مختلفة بعمق من حيث جوهرها ودلالاتها. فإذا كان بعض الرسميين في حكم المحاصصة الطائفية المتحالف مع الاحتلال، لا يخفون سرورهم بما يحدث من تدخلات خارجية، غربية وأميركية وعربية، في الدول التي امتد إليها الربيع العربي، ومنها سوريا، وهو «سرور» نابع من تمني التشابه في السوء، لا من منطلق التفاخر بعكسه، فإنّ غيرهم، في الأوساط الشعبية العراقية خصوصاً، لا يخفون ارتيابهم وخشيتهم مما ستجره تلك التدخلات الغربية من ويلات على شعوب تلك البلدان.وزير الخارجية هوشيار زيباري، عبَّرَ عن شيء من ذلك «السرور»، لا بل إنّه أعطى لنفسه الحق في توجيه الدروس للآخرين، ودعوتهم إلى الاستفادة من تجربة نظامه الغنية ـــــ وهي غنية فعلاً بالخيبات والكوارث ـــــ بقوله: «شخصياً، أعتقد بقوّة أنّ الربيع العربي ما كان ليأتي لو كان الرئيس السابق صدام حسين لا يزال في الحكم». وأكدّ أنّ «لدى العراق الكثير مما يمكن أن يقدمه إلى دول مثل تونس ومصر وليبيا، وكلُّ واحد من تلك البلدان يجب أن يمر بالمراحل نفسها التي مررنا بها...». الأكيد، هو أنّ كثيرين في ليبيا وغيرها، سيتمنون أنْ ينجيهم الله من عواقب «الديموقراطية الأميركية» كما تجلت في العراق، وأرجعت العراقيين إلى العصر الحجري، والشواهد والدلائل أكثر من أنْ تحصى!
ورغبة منه في تعميم الإثم، وبأي طريقة كانت، يتطوع زيباري ليخبر مستمعيه بأنّه يعرف جيداً أنّ «القوات الغربية قاتلت إلى جانب المعارضين الليبيين». إنّ تدخل القوى الغربية في الحراك الشعبي الليبي، لم يعد سراً من الأسرار، وقد دمر ذلك التدخل الكثير من الأهداف التي تدخل في إطار الممتلكات والثروات الوطنية الليبية، كما أنّه أسقط الآلاف من القتلى والجرحى من الليبيين، سواء كانوا من قوات نظام الدكتاتور القذافي أو من قوات معارضيه أو من المواطنين الليبيين العاديين. وما عادت المفاضلة بين تدخل عسكري بري كالذي حدث في العراق، وآخر جوي وبحري كالذي حدث في ليبيا، ذات معنى. فالتدخل الأجنبي المسلح حدث فعلاً، في كلا البلدين، وها هم العراقيون اليوم ـــــ والليبيون وغيرهم غداً ـــــ يعانون سرقة ثمرة كفاحاتهم ضد الدكتاتوريات المحلية طوال عقود، وحرفها باتجاه مصادرة المستقبل وفرض نموذج في الحكم يكرس التبعية للغرب الإمبريالي، ويقوم على المحاصصات الطائفية والعشائرية والجهوية، لتأبيد التخلف والفقر والتبعية.
اختلفت ردود الأفعال العراقية على الحدث السوري بحسب مصادر المكونات الاجتماعية العراقية الصادرة عنها. فالكرد، وبخاصة الناشطون الشباب منهم، تظاهروا وأعلنوا تأييدهم للانتفاضة السورية بكثافة غاب عنها التمثيل الحكومي الرسمي، تضامناً مع بني جلدتهم الكرد السوريين بالدرجة الأولى. أما الغالبية العراقية العربية، فقد صدرت عنها مواقف مختلفة إلى درجة التناقض: المنظمات والحركات والشخصيات السلفية السُنية تضامنت مع الانتفاضة السورية، وهاجمت نظام الأسد بعنف، لبواعث أيديولوجية سياسية، تتعلق بعدائها للبعث عموماً، أكثر من استنادها إلى بواعث أخرى. بعض القوى العشائرية في المنطقة الغربية، جاهر بعدائه للنظام السوري وتضامن مع الانتفاضة لأسباب تعود إلى خلافات وحسابات قديمة وحديثة بين القوى العشائرية هنا وذلك النظام، حتى إنّ أطرافاً منها اتهمته بالوقوف وراء مجزرة «النخيب» الأخيرة. القوى البعثية والقومية العراقية التقليدية، التي تتخذ من سوريا ملاذاً لها منذ غزو العراق وانهيار نظامها، اختارت الصمت وعدم الإدلاء بتصريحات علنية مؤيدة للنظام أو للمعارضة السورية، إلا ما ندر. غير أنّ ما تسرب عن مواقفها السرية صبَّ في صالح تضامنها مع النظام بفعل «الأخوة الأيديولوجية» والحماية والرعاية التي يقدمها نظام البعث السوري إليها. ولم يصدر أي موقف عن قوى وشخصيات محسوبة على معسكر مناهضة الاحتلال ومقاومته، هي التي عرفت بزياراتها المكوكية إلى الرئاسة السورية، فلم تُدْلِ بأي موقف. ولعل النموذج الأبرز لتلك القوى والشخصيات هو رئيس هيئة علماء المسلمين العراقيين، الشيخ حارث الضاري، وشخصيات أخرى مقيمة في الأردن ومصر وسوريا ذاتها.
ثمة شيء من الانسجام يمكن أن يلمسه الراصد للمواقف العراقية على جهة ردود أفعال الأحزاب والقوى الإسلامية الشيعية، فالتعاطف هنا قوي مع النظام السوري مع أنّه غير مصرح به تكراراً. وقد فُسِّرَ تفسيرات شتى: البعض فسَّره بتبعية تلك القوى لإيران، الحليف الأول لنظام الأسد. آخرون فسروه بالخوف من صعود قوى سلفية سنية سورية، ذات نزوع طائفي إلى الحكم في دمشق، مما سيمثل تهديداً لحكم المحاصصة الطائفية الذي تقوده تلك القوى الإسلامية الشيعية، مستشهدين بحادثة إطلاق المعارضة السورية، على واحدة من مجموعتين مسلحتين لعسكريين منشقين، اسم «فرقة معاوية بن أبي سفيان» كدليل على جدية التهديد السلفي والطائفي، نظراً إلى ما يثيره ذلك الاسم من تداعيات في المخيال الطائفي الجمعي في العراق.
المواطن العراقي العام، والبسيط، وبغض النظر عن المكون الاجتماعي الطائفي أو العرقي الذي ينتمي إليه، ينظر في الغالب بتعاطف عميق إلى سوريا وإلى الشعب السوري ككل. فانطلاقاً من تجربة اللاجئين والنازحين العراقيين الممتدة عدّة عقود في سوريا وغيرها، يفضل هؤلاء التعامل والعيش في سوريا على ظروف العيش في بلدان أخرى كالأردن مثلاً، والأسباب كما يبدو لا تخلو من رائحة التمييز الطائفي الحادة وما يلمسه العراقي على الحدود الأردنية أو من العراقيل والصعوبات التي يواجهها العراقي المقيم هناك. أما سياسياً، فلا تخلو مواقف العراقيين العاديين، وخاصة اللاجئين منهم، من الحيرة والبلبلة. لذلك فهم يرفضون تأييد النظام السوري والدفاع عنه علناً، مثلما يرفضون تأييد الانتفاضة والمنتفضين السوريين. وقد خرج على تلك المعادلة مطرب عراقي معروف هو «حسام الرسام»، الذي غنى أغنية يؤيد فيها «أسد الأمة»، فهاجمته المعارضة السورية بعنف، متهمة إياه بالعمالة للنظام، مثلما انتقده الجمهور في العراق على نطاق واسع متهمين إياهُ بالنفاق والمزايدة.
في داخل العراق، يشعر المواطن براحة أكثر من اللاجئ في سوريا أو غيرها، وقد عبَّر البعض عن فكرة لا تخلو من الدلالات، مفادها أنّ الشعب العراقي بكل مكوناته، ورغم كل ما فعله به نظام صدام حسين، الذي حوّل العراق إلى شبكة من المقابر الجماعية والسجون، لم يتظاهر في الشوارع طالباً الحماية الدولية أو التدخل الغربي المباشر لقلب النظام، حتى حين انتفض رافعاً السلاح ضد النظام في ربيع 1991، وإنّ من قاموا بذلك، وروَّجوا لخيار تغيير النظام عبر الحرب والاحتلال، هم رهط من السياسيين العراقيين في المنفى، تحوّلوا إلى أدلاء لقوات الاحتلال، وليس الشعب ذاته!
في الوسط المثقف، تنافرت مواقف النخبة الليبرالية: فالذين كانوا مع خيار التدخل وتغيير نظام البعث الصدامي عبر الحرب والاحتلال، انحازوا دون تردد إلى جانب الانتفاضة السورية، مهاجمين كلّ ذوي المواقف المتحفظة على دعوات التدخل. ومن هؤلاء من بالغ في نقده لروسيا، أكثر من أهل الدار السوريين، فقد نشر كاتب عراقي من هؤلاء، هو فالح عبد الجبار، مقالة في صحيفة سعودية تحت عنوان لافت هو «روسيا الجبانة»، هاجم فيها الموقف الروسي الرافض للتدخلات الغربية في ساحات الربيع العربي، معللاً إياه بـ«احتقار روسي مديد وقديم للديموقراطية»، جاء به لينين واتحاده السوفياتي. كاتب آخر، من جهة مختلفة، هو سرمد الطائي، رئيس تحرير يومية «العالم» البغدادية اتفق وبشدّة مع «نظرية» نوري المالكي العجيبة، التي تراجع عنها جزئياً في لقائه الأخير مع تلفزيون «المنار»، والقائلة بأنّ «إسرائيل تشعر بالسعادة بسبب الثورات العربية»، لكن من وجهة نظر تخالف المالكي وتدحض مضمون تصريحاته تلك. وخلاصة وجهة نظر الطائي تقول «ليس ذنبنا أنّ إسرائيل تفرح بما تعرض له صدام حسين والقذافي وسواهما من الزعماء المتشددين، من ذل وهوان على أيدي الشعوب الراغبة في التغيير...»، ومذكراً إياه بأنّ «ما حصل في العراق بعد صدام حسين هو أكثر شيء قد يُفْرِح إسرائيل...».
بخلاف تلك المواقف، فإنّ قلة من الكتاب العراقيين هم أولئك الذين لم يترددوا في إعلان تضامنهم مع الانتفاضة السورية، لكنّهم تحفظوا بشدّة على دعوات التدخل السياسي أو العسكري الغربي فيها، وحذروا من صعود النبرة الطائفية، محاولين الإمساك بموقف مركب، بعيداً عن المواقف التبسيطية على شاكلة «مَن لا يكون مع احتلال العراق أميركياً، فهو مع صدام حسين ونظامه». وتلك معادلة كئيبة، دحضتها الوقائع على الأرض وأثبتت صحة نقيضها، فالواقع هو أنّ عُمْلَةَ الخراب والتدمير والحرمان وكمِّ الأفواه لها وجهان: نظام صدام من جهة، وحلفاء الاحتلال الطائفيين الذين جاؤوا بعده من أخرى!
* كاتب عراقي