بدأت «القصة» مع عملية السيطرة على نقابة مزارعي التبغ، في أوائل التسعينيات، بعد تعطيلها وتوقيف رئيسها النقابي محمد نجيب الجمال، وانتهت بتعطيل الاتحاد العمالي العام ومصادرته وتوقيف رئيسه السابق النقابي إلياس أبو رزق، في 1997. في أثناء ذلك، وطيلة فترة عشرين عاماً، جرى ضرب الأساس النقابي والكفاحي للحركة العمالية والمطلبية: تطييف النقابات والعمل النقابي؛ تفريخ الاتحادات والنقابات؛ تدخل سافر لوزارة العمل ووزراء العمل في الشأن النقابي والعمالي؛ تشجيع الارتزاق والفراغ والتبعية والانتهازية؛ ووضع اليد على المؤسسات والمرافق وتعطيل العمل النقابي فيها... وفي امتداد ذلك، جرت محاولات خطيرة للسيطرة على الإعلام وإلحاقه بالكامل بنظام المحاصصة، وإغراق المستقلّ منه في الديون والحصار والإفقار والعزل... وحدها حركة المعلمين اخترقت جزئياً محاولات النظام، لكن بدور اكتفى بالجانب المطلبي على حساب الجانب الديموقراطي المتصل بخوض معركة الدفاع عن التعليم الرسمي والجامعة اللبنانية، في وجه عملية متواصلة وخبيثة لتعزيز مهمة التعليم الخاص في بناء الدويلات الطائفية على حساب الدولة المركزية الموحَّدة والموحِّدة للبنانيين.
لم تجر تلك العملية بدون مقاومة شعبية ونقابية وعمالية وسياسية. لكنّ النظام السياسي، المدار أيضاً من الخارج بموجب التكليف المؤقت للنظام السوري في الطائف وما بعد «الطائف»، نجح في الكثير من الحقول وخصوصاً في الحقل النقابي ـــــ العمالي. تلك العملية التي كانت جزءاً من توطيد أسس «النظام الأمني»، شكّلت أيضاً التتمّة الطبيعية لمشروع «إعادة إعمار لبنان» الذي روّج له ونسّق خطواته الرئيس المغدور رفيق الحريري. فقد كان من مقتضيات إنشاء لبنان الجديد تحويله إلى «جنة ضريبية»، أي إقامة نظام الجشع والاحتكار الحر، وتعطيل دور قوى الاعتراض من المتضرّرين. والمتضرّرون، هم، في ظروف لبنان، العمال، والموظفون، وأجيال الشباب والشابات الداخلة إلى سوق العمل... وبشكل عام الفئات والطبقات الشعبية الفقيرة والمهمّشة التي لم يعد لها مكان في عملية «إعادة إعمار لبنان» ومزاعم تطويره وتحديثه وازدهاره، وباتت فقط مؤهلة للتشرّد والهجرة ومغادرة البلاد، وبعشرات الآلاف سنوياً.
ومنذ 1992، وبعد سقوط حكومة الرئيس عمر كرامي الأولى تحت ضغط إضراب شعبي وعمالي جرى استغلاله للتسريع بتسليم اقتصاد البلاد وإدارتها «المحلية» للمرحوم رفيق الحريري، نشطت عملية «سلسة» وسافرة لنهب لبنان وإغراقه في الديون وتحاصص موازنته، ما أدى إلى استنزاف عافية البلاد حتى اليوم، التي تتجاوز نفقات خدمة ديونها المتصاعدة أكثر من نصف مداخيل الخزينة اللبنانية!
إنّ الهجوم على الحركة النقابية من خارجها، قد تزامن أيضاً وتباعاً على نحو متفاقم، مع خلل من داخلها. فتلك الحركة التي أدّت دوراً مؤثّراً وريادياً في التاريخ اللبناني المعاصر، قد تعطّل معظم دورها لولا بعض التحرّكات المطلبية في هذا القطاع أو ذاك، ارتباطاً بتفاقم أزمات الغلاء وسياسات الاحتكار والإهمال والإغراق... ومنذ حوالى عقد من الزمن، يدير الاتحاد العمالي العام سياسة متواطئة، تمثّل امتداداً لمواقع في السلطة أو المعارضة الرسمية. وهو في ذلك السياق، نفّذ بعض المهمات النقابية لوظيفة سياسية. وكان يتقدّم أو يتراجع وفق ما تمليه تلك الوظيفة، لا وفق المصلحة النقابية التقليدية. ولم يكن الضرر الناجم عن تعطيل الاتحاد العمالي العام نقابياً وعمالياً وشعبياً فقط، بل كان أيضاً ضرراً سياسياً ووطنياً عاماً. فقد أدّى تحييد الاتحاد عن القيام بواجبه الاجتماعي دوراً لمصلحة تفاقم الانقسامات المذهبية والطائفية، ولمصلحة إضعاف الروابط المصلحية الحقيقية بين القوى الاجتماعية المتضرّرة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية القائمة. ولقد فاقم ذلك في الأضرار الناجمة عن نظام المحاصصة والارتهان للخارج، بعدما عطّل ذلك النظام الدورين العمالي والشبابي الطلابي في وقت واحد، وألحق معظم مؤسسات التعليم والمؤسسات النقابية بقوى المحاصصة وبآليات عمل النظام السياسي الطائفي، أداة القوى البورجوازية وجناحها الحالي التابع خارجياً والمهيمن داخلياً، في السيطرة على الاقتصاد اللبناني.
لكن رغم النجاحات الرسمية الملموسة لمحاولات التعطيل والهيمنة، فإنّ التناقضات الاجتماعية والأزمات المعيشية استمرّت في البروز وفي الضغط على المتضرّرين الذين تتزايد أعدادهم نتيجة انفلات الأسعار وتعاظم الجشع وتمدّد الاحتكار وارتفاع معدلات البطالة والفقر. ويجب القول هنا، ولو سريعاً، إنّ الأعباء الأساسية على الأسرة اللبنانية، إنّما تقع في ميدان التعليم. فالتعليم الرسمي الخاسر والضعيف باستمرار، يفسح المجال واسعاً أمام التعليم الخاص. فالمدرسة الخاصة، ذات المستوى الجيّد، تأكل أكثر من نصف مداخيل الأسرة وحدها، فيما تتكفّل هي أيضاً، والمدرسة المجانية باقتطاع نسبة كبيرة من الموازنة العامة للدولة، بذريعة مساعدة ذوي الدخل المحدود والفقراء، أحياناً، مقابل تعليم مجاني، قد يبعد صفة أو تهمة الأميّة والجهل، لكنّه لا يسمن ولا يغني من جوع في مجال العمل وإيجاد الوظائف وتفادي التشريد والهجرة والبطالة.
وإذ يحاول قادة الاتحاد العمالي العام، من خلال تحرّكهم الراهن، الظهور أيضاً بمظهر من صحّح موقفه، بغية تصحيح ما للأجور، ستظل المشكلة قائمة بمعزل عن أيّ نتيجة للتحرّك الراهن. فما تعاني منه الحركة النقابية بصورة خاصة هو أيضاً جزء مما تعانيه الحركة الوطنية الديموقراطية عموماً. فليس من المتوقع أن يجري إحداث تغيير جذري في وضع الأولى أي (الحركة النقابية)، دون إحداث انطلاقة جديدة للمشروع الديموقراطي الذي ما تزال تتعثّر قواه في دائرة مستمرة من العجز والتراجع والخيبات.
لكن ذلك لا يعني أبداً أنّه ليس للعمل النقابي سياق خاص به، مستقل نسبياً، ويستحق المتابعة والاهتمام بما هو كذلك. ولعلّ نقطة البداية في ذلك، إنّما تتمثّل في الرجوع إلى المؤسسات النقابية والعمالية، لجعلها فاعلة في التعبير عن مصالح العمال والمستخدمين والموظفين والأجراء. ويتضمّن ذلك، بالضرورة، إعادة الارتباط بهؤلاء، وتجسيد مطالبهم القريبة والمباشرة، في مرحلة أولى. فثمة انقطاع الآن وقطيعة. وثمة أزمة علاقة وأزمة ثقة. إنّ الأغلبية الساحقة من الأطر النقابية (لولا استثناءات نادرة) هي أطر فارغة وهشة ومدّعية... ولا تمييز في ذلك بين يمين ويسار، وبين «ديموقراطي» وغير ديموقراطي...
ولا يُخفى ما للوظيفة الديموقراطية للحركة النقابية من أهمية في مهمة إعادة استنهاض العمل النقابي ونهوضه. فدوره توحيدي في مواجهة التقسيم والانقسامات. ودوره وطني في مواجهة استنفار العصبيات وفي مقابل التمذهب والطائفية. وهو، بذلك المعنى، مع دور الطلاب والتلامذة، وخصوصاً في مؤسسات التعليم الرسمي والجامعة اللبنانية، أحد الروافع لإعادة بناء عوامل الوحدة الوطنية السليمة والراسخة التي تحتاج إليها عملية توحيد لبنان. ففي هذه المرحلة تطلّ علينا كلّ يوم، من الداخل أو من الخارج، أشكال جديدة ومتفاقمة للتفتيت والتشرذم والانقسام.
إنّ الحركة النقابية هي بالضرورة جزء من المشروع الوطني العام. نقول ذلك الكلام دون تعويل كبير على التحرّك الراهن الذي ما يزال زمام القرار بشأنه في يد أطراف السلطة الجديدة والقديمة، رغم أنّ الأزمة المعيشية والاقتصادية كبيرة وضاغطة، ما يتطلب الانخراط في كلّ صيغ المطالبة والاحتجاج، لكن بشرط أن يكون ذلك، في وقت قريب ما، من ضمن خطة، تعيد يوماً ما زمام المبادرة إلى أصحاب الحقوق من مغتصبي هذه الحقوق ومن المتواطئين معهم.
* كاتب وسياسي لبناني