إلى هادي نصر الله
في خريفٍ ماطرٍ كهذا الخريف رَحَلْتَ عنّا. كانت مقاعد الدّراسة قد امتلأَتْ بنا، وفي حقيبتي حمَلْتُ شيئاً من الكتب والدّفاتر والأحلام. لطالما أدهشني رحيلكَ يا هادي، وأذكرُ أنّه أبكاني أيضاً. أبكى أخَوَيَّ وجدران بيتنا التي أحبّتك. وتلك الصّور التي أطلّت منها قُدسُكَ جميلة أبداً، لتطلّ معها روحك في ما بعد!
مرّت السّنون يا «ياسر» وانتصر دمُكَ مراراً على خوفنا وهزائمنا. كأنّ رحلتك التي انطلَقْتَ بها قد بدأَتْ حين غدَوتَ شهيداً، فبقيتَ في هذا الخندق تُعلِّمُنا أنّ المقاومة طريقٌ يُضاء بقوّة العلم والكلمة والتّضحية.
مرّت السّنون إذاً، وأتى تمّوزُكَ ليحملنا جميعاً على أجنحةٍ من نور، فانتصرنا وانتصرَ دمُكَ مجدّداً، وبدَتْ فلسطين أقرب إلينا من أيّ وقت مضى. لكنّنا لم نكن لنعلم أبداً أنَّ حزناً قاسياً سيدقُّ أبوابنا المشرعة، وأنّ المقاومين «القدامى» سيرحلون تباعاً من ذلك الخندق العظيم، وأنّ أعوراً دجّالاً سيحكم في ما بيننا.
فهل كانوا على صوابٍ في هذا يا أخي؟ وهل أصبحت المقاومة مجرّدَ «وجهة نظر» نختلف فيها ونفترق عندها؟ أم أنّ صوت ذلك المقاوم المفجوع الذي ناداك من قلب الشّآم كان أصدقَ من كلّ هذه الأسئلة؟ فمع من سيختصم شهداؤنا الذين سقطوا غدراً بعيداً عنكَ وعن أرض فلسطين التي كانوا بها يحلمون؟
دمشقُ ما زالت هنا. حمَلَتْ صليبَها طَوْعاً ومشَتْ. وها هي اليوم تُصلب عليه كُرها وظُلماً. كلٌّ جاء ليدقَّ في جسدها «مسمار» حقدٍ وثأرٍ .لا ضيرَ في ذلك يا هادي، فباسمك تُصلب دمشق اليوم، باسم العروبة والقدس والشّهداء، باسم مَريَمِها وزينَبِها وملائكتها التي ما زالت باسطةً أجنحتها فوق الشّآم. لا ضير في أن يبدو خندقها فارغاً، فهو يمتلئ كلّ يوم بأبناء النّاصرة وحيفا والجليل ويافا، وهو يمتلئ بك وبنا وبمن قدّمك في أيلولَ قرباناً لله.
أربعة عشر خريفاً مرّت يا هادي ومازال رحيلك يُدهشني أبداً. لكأنّه الأمس القريب فحسب. حقيبتي ما زالت في يدي. وها هنا بعضٌ من كتبٍ ودفاتر وأحلام!
ناتالي ميني