في 2003 رفع نشطاء «التحالف الدولي» المناهض لغزو العراق شعار : «لا للحرب لا للدكتاتوريات»، في محاولة جدية من هؤلاء لصياغة معيارية أخلاقية تساوي بين حاضنة الحروب ضد الشعوب (الامبريالية) ومن جعل تلك الحروب ممكنة (الدكتاتوريات التابعة وغير التابعة). حينها لم يخرج أحد علينا ليقول بأنّ ذلك الشعار هو تسويغ للاستبداد، ومحاولة لتأبيد هشاشته تحت غطاء مناهضة الامبريالية. بل على العكس من ذلك لاقى ذاك الشعار قبولاً وتأييداً لدى قطاعات عريضة من الرأي العام العالمي. قطاعات ليست بالضرورة مناهضة للغرب الامبريالي، لا بل تنتمي إلى الأجنحة الأكثر ليبرالية وإذعاناً لرأس المال فيه. وذلك الانتماء العضوي هو ما جعل من «تمرّدها» على قرار الحرب لافتاً ومثيراً للانتباه. فنحن هنا إزاء قطاعات شعبية أحسّت بخيانة حقيقية لمباديء الرأسمالية التقليدية التي اعتادت استغلال شعوب الأطراف من دون أن ينعكس ذاك الاستغلال على أنماط الحياة في المركز الرأسمالي. طبعاً ما عاد ذلك ممكناً بعد هجمات 11 أيلول، وبعد الضربة الرمزية التي أوقعها أسامة بن لادن بحق من استخدموه سابقاً في تحوير طبيعة الصراع بين الرأسمالية الامبريالية وضحاياها. ذلك البعد تحديداً هو الذي حضر بقوة في شعارات الليبراليين الذين «انتفضوا» على قرار الحرب. و«انتفاضتهم» تلك كانت «انتفاضة» على وجهة محددة كان يراد للرأسمالية العالمية أن تسلكها. ومشكلتهم الوحيدة مع تلك الوجهة هي أنّها ستجوّف «الرأسمالية المقاتلة»، وتأخذها بعيداً عن الأفق الذي حدده لها مؤسّسوها الأوائل. أفق يتعين بإبقاء الصراع من أجل مزيد من نهب الأطراف على أراضي تلك الأطراف، لا نقله إلى حيث يمكن لذاك النهب أن يتآكل. إذاً الاحتجاج الليبرالي ضد الغزو حينها لم يكن بدواع أخلاقية محضة كما بدا للبعض، أو إذا شئتم كان بدواع تتصل «بأخلاقيات» مفارقة لأخلاقيات ضحايا الرأسمالية. «أخلاقيات» تحاول إنقاذ النظام الرأسمالي من نفسه ومن مصيره المحتوم إذا ما زادت وتيرة وحشيته. تلك المقاربة الليبرالية الغربية لموضوعة الحرب من أجل مزيد من النهب هي مقاربة براغماتية بامتياز. غير أنّ المكوّن الانتهازي فيها لم يمنع الكثيرين في منطقتنا العربية من تلقّفها ومحاولة البناء عليها، بغرض إدماجها في صلب الحراك المناهض لغزو العراق. وكما قوبل الحراك العربي المعارض للحرب باحتضان كبير وبصفر اعتراضات، كذلك حصل مع الحراك في الغرب. لم ينتقد أحد (إلا بعض المتطرفين اليمينيين) أولئك الليبراليين الغربيين لأنّهم «أظهروا تعاطفاً» مع بلد يحكمه ديكتاتور، ولا حال وجود ذاك الديكتاتور على رأس البلد ــ الضحية من تسفيه يساريي الغرب (لا ليبرالييه) للمنطق الامبريالي الذي يطابق بين سرديتي «التحرير» والاستعمار. لنقل انّه منطق يستبطن سردية واحدة لا سرديتين: سردية «التحرير» بالاستعمار. ولحسن الحظ أنّ مقاومة تلك السردية الملفّقة استطاعت الصمود لفترة بعد الغزو، وبقي أصحابها بمنأى عن اللفحات النيوليبرالية التي هبّت علينا من كل حدب وصوب بعد ذاك التاريخ المفصلي في 2003. والتفسير الوحيد الممكن تقديمه لتلك القدرة على المواجهة هو أنّ الصراع كان واضحاً بما يكفي لبناء استراتيجية تكفل إذا لم يكن النصر، فعلى الأقل الصمود حتى يرفع خصمنا الأيديولوجي راية الاستسلام. لذا كان من البديهي أن تتآكل استراتيجية المواجهة بمجرد أن يزول ذاك الوضوح، وينتقل الخصم الأيديولوجي من ضفّة إلى أخرى. هي الرواية ذاتها (مع «فروقات طفيفة» في الأدوار والسياقات) التي قدمتها شخصية نزار في مسرحية «فيلم أميركي طويل» لزياد الرحباني. في المسرحية يستغرب نزار الناشط في الحركة الوطنية اللبنانية، ونزيل مشفى الأمراض النفسية وجود الرجعيات العربية المتحالفة مع الغرب، معه في الخندق ذاته: خندق مناهضة الامبريالية والرجعية العربية! اليوم ومع دخول بعض الانتفاضات العربية طورها الكولونيالي، نستعيد لغة نزار وحيرته إزاء «الحجّة» التي يفترض أنّه أكثر ضلوعاً منها في السياسة ودهاليزها. تخيلوا معي المشهد الآتي: بعد أكثر من ثلاثين عاماً على عرض زياد لمسرحيته ــ النبوءة تجد النخب اليسارية التي نظّرت للانتفاضات في بداياتها، نفسها أمام مأزق مماثل لمأزق نزار مع ذاته ومع جيرانه البسطاء.
كيف يمكن لتلك النخب أن تقنع مواطناً عادياً يعيش في مصر مثلاً أنّ ما يجري على حدوده الغربية في ليبيا إنما هو «انتفاضة شعبية مستمرة»، وليس إخراجاً أكثر حذاقة ودهاء لجريمة غزو العراق ونهب نفطه؟ ما هي الحدود بين الروايتين؟ أصلاً كيف يمكن تناقضاً مماثلاً أن يبلور هوية الصراع على مستقبل ليبيا. عادة يكون الصراع كذلك عندما يتحدد طرفاه، وعندما يحوز كل منهما تفويضاً بخوضه حتى النهاية. فما كان يجري في ليبيا حتى يوم أمس قريب من ذلك وبعيد عنه في الآن ذاته. طرفان يتصارعان على السلطة، أحدهما ملتحق ذيلياً بالغرب، ويخوض عنه صراعاً بالوكالة (المجلس الكولونيالي الانتقالي وميليشياته طبعاً)، والآخر منفصل حديثاً عن الغرب (بعد «عداء مستديم له») ومحتم ببقايا ولاءات قبلية (القذافي وميليشياته، قبل مصرعه). إذاً هو صراع على أمرين: على السلطة أولاً، وعلى رواية كل طرف لأحقية استحواذه على السلطة. لكن أين الشعب الليبي من كلّ ذلك؟ الأرجح أنّه يعيش مثله مثل شعوب أخرى تتعرض لمخاضات مماثلة، داخل منطق صوري يحجب عنه حقيقة الصراع الذي يدور حوله وعليه. ولكي نغادر المنطق ذاك علينا أن نعي جيداً أنّ ما كان بالأمس انتفاضة شعبية من اجل إسقاط الدكتاتورية، غدا صراعاً قذراً على سلطة لا نملك مفاتيحها، ولا نعرف إلى متى ستبقى بيد الغرب الذي أطبق الآن بالكامل على نفطنا وثرواتنا، بعدما كان يطبق عليهما جزئياً بالأمس. وذلك هو المغزى الحقيقي لعملية إسقاط القذافي وتنصيب بطانته السابقة بدلاً عنه. الرجل لم يقدم للغرب ما كان يريده تماماً. هو تنازل فعلاً عن كل ما كان يعيق عملية بقائه في السلطة وتمريرها لابنه سيف الاسلام من بعده (تفكيك المفاعلات النووية، التعويض لضحايا عملية لوكربي، إيقاف الدعم المالي للمنظمات الفلسطينية الراديكالية المناهضة للغرب وإسرائيل...الخ)، لكن ذلك لم يكن مغرياً كفاية بالنسبة إلى رأسماليات متوحشة تتعرض لأزمات دورية وتريد مخرجاً من أزماتها تلك بأي ثمن. لم تلتقط الدكتاتوريات العربية التابعة للغرب وغير التابعة تماماً له، تلك المؤشرات. عنجهيتها المفرطة وهوسها بالسلطة أعماها عن رؤية ذلك. وبينما كانت مستغرقة في استنقاعها وفي تحللها غير المرئي، كان السادة البيض في الغرب يخطّطون لصياغة مخارج تقيهم الوقوع في فخ السيناريو العراقي مجدداً. كانوا يعرفون أنّ السخط الشعبي على تلك السلالات قد بلغ ذروته، وأنّ الظروف باتت ناضجة لانفجارات لا يمكن التنبؤ بمآلاتها. لذلك تحديدا انكبّوا على وضع استراتيجيات تماليء تطلعات الشعوب وتحجب عنها في الآن ذاته توظيف تلك التطلعات لاحقاً في سياقات مؤاتية لتجذير السيطرة الغربية على المنطقة، وفتح أسواقها ونهب ثرواتها أكثر فأكثر. تلك هي الفحوى الحقيقية لما يجري الآن في المنطقة. لم يعد ممكناً الاستمرار في سردية تبسيطية ساذجة تقول مثلاً إنّ ليبيا قد انتصرت على ديكتاتورية القذافي. هي «انتصرت» فعلاً، ولكن على ذاتها أولاً، وعلى حاجز الخوف ثانياً. تلك هي حدود «انتصارها». معنى ذلك انّه انتصار صوري فحسب، إذ ما معنى أن ننتصر على طاغية إذا كان ثمن ذلك الانتصار هو الوقوع مجدداً تحت جزمة الاستعمار. استعمار «لائق» طبعاً، ولا يكلّفنا كثيراً من الجهد والادعاءات. يكفي أن يحمل «الليبيون الجدد» علم الملكية السنوسية (أي استقلال هو ذاك!) حتى يعرفوا كم تغيّروا فعلاً. فالليبي الجديد بحسب رطانة برنار هنري ليفي الصهيونية هو من يستبدل علماً بآخر، وأوليغارشيا مافيوزية بأخرى، وتهريج القذافي بعمالة بطانته وتذلّلهم للمهرج الجديد: نيكولا ساركوزي العظيم!

* كاتب سوري