ما إن بدأت تلوح التحوّلات في أفق السياسة الخارجية التركية، بوصول حزب العدالة والتنمية الى السلطة، حتى سارع المهتمون الى محاولة تلمس خلفيات ذلك التحوّل، الى أن اهتدوا الى تنظيرات داوود أوغلو، ولا سيما مبدأه الشهير «تصفير نزاعات» تركيا مع جوارها. منذ حينها، مثّل ذلك المبدأ ركيزة أساسية في عمليات تفسير وتشريح جملة من السياسات التركية الطارئة في محيطها الإقليمي. وقد تميّزت تلك المرحلة من السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية بجملة خصائص: محورية الصراع العربي ــ الاسرائيلي عامة، والقضية الفلسطينية خاصة؛ التركيز على استخدام أسلوب الوسيط ( سوريا \ إسرائيل ــ الملف اللبناني ــ حماس \ فتح ــ الملف النووي الإيراني)؛ السعي إلى تطوير العلاقات وبناء الثقة مع دول المواجهة (إيران ــ سوريا)؛ الموقف الايجابي تجاه حركات المقاومة (حماس ــ حزب الله)؛ وتظهير الهوية الإسلامية العامة لتركيا الجديدة.لاحقاً، ومع ظهور الآثار الإيجابية لذلك التحوّل لا سيما وسط الشرائح الشعبية العربية والإسلامية، ازداد الحزب ثقة واندفاعاً وشعبوية. اما الأهم فكان الأثر الداخلي لذلك التحوّل الذي أتاح للحزب «اليافع» استقطاب شرائح شعبية جديدة مكنته من استكمال تحجيم دور العسكر في السياسة الداخلية، خوفاً من الهاجس الانقلابي. في ذلك السياق، يخلص إرسين كالايسيوغلو في مقالته «العلاقات الخارجية التركية والرأي العام» (8 ايلول 2011) الى أنّ السياسات الخارجية لحزب العدالة والتنمية «تسهم في إبراز صورة من القوة السياسية وتجذب الكثير من الرأسمال السياسي في الداخل والخارج»، وهو ما يعزز «فطنته السياسية، وصدقيته وصورته الإيديولوجية».
وتوالت الأحداث المدفوعة بجرأة مفرطة ومثالية ملتبسة وطموحات متجددة، وكرست التحوّل «الثاني» ــ إن صح التعبير ــ في السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية التي خانت توقعات الكثيرين، لا سيما في محور المقاومة، حتى أصبح معها الحديث عن مبدأ داوود أوغلو مثيراً للشفقة والتهكم. بالأصل وبعيداً عن الدعاية السياسية والتنميقات اللغوية، لا يتمتع مبدأ داوود أوغلو، أي «صفر نزاعات» بأي وزن علمي وأكاديمي وأي تأسيس نظري جدي، فذلك المبدأ لا ينتمي الى علم السياسة أو العلاقات الدولية. إذ هل يمكن أي لاعب سياسي يسعى إلى النفوذ والتوسع والقيام بأدوار متزايدة إلا أن يصطدم بنفوذ ومصالح اللاعبين الآخرين؟ أليس التنازع والتنافس شرطاً موضوعياً في لعبة القوة والنفوذ والهيمنة؟ يضاف الى تلك الاسئلة بما يجعلها أكثر تحدياً هو كون ذلك اللاعب قوة إقليمية طامحة، ذات تاريخي ملتبس الى أقصى الحدود، وفي قلب الشرق الأوسط أي المركز الأبرز للتنافس وسياسات القوة في الجغرافية السياسية الدولية المعاصرة. إنّ مبدأ «صفر نزاعات» يصلح في أحسن الأحوال لدولة محايدة متواضعة كسويسرا، وسط محيط إقليمي مستقر كالاتحاد الأوروبي.
وتتميز تلك المرحلة من السياسة الخارجية للحزب الحاكم بجملة ميزات طارئة: الانزلاق من الوساطة الى التورط بعمق في صراعات إقليمية حادة، الحديث التركي عن التحالف مع شعوب المنطقة وليس حكوماتها، بدء ظهور التعبيرات المذهبية كما في حديث أردوغان حول سنّة العراق وشيعة البحرين، التوازن الحذر بين التشدد الرمزي تجاه إسرائيل وتأكيد التزام تركيا بالغرب والناتو ومصالحه كما ظهر في قضية الدرع الصاروخية، وهو ما عبر عنه الرئيس عبد الله غول بوضوح في تموز الماضي قائلاً: «أرى أنّ من الخطأ الشديد تفسير مصالح تركيا مع المناطق الاخرى على أنّها تنفصل عن الغرب... أو تولي ظهرها للغرب أو تبحث عن بدائل للغرب. تركيا جزء من أوروبا».
إذاً إنّ طبيعة الدور التركي ــ مثل أي قوة إقليمية أخرى ــ محكومة بالتنافس والتنازع والتوترات الإقليمية، على أنّ حدّة ذلك التنافس محكوم بحجم الطموحات التركية وسرعة إدراكها لحدود قوتها ونفوذها وعمق الانقسام الداخلي حول السياسة الخارجية، وذلك كلّه يمكن تلخيصه «بفترة النضج» التي تمر بها السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية حالياً، إذ انّ تركيا تمر حالياً «بعملية اختبار وفهم لحدود نفوذها، وهي عملية ستقود بالضرورة الى توترات بين انقرة والغرب، إلا انّها مع الوقت ستؤدي الى توازن جديد يعكس توازن القوى المتقلب في المنطقة»، كما يعتقد سينان أولغن (اختبار نفوذ تركيا، معهد كارنيغي، 28 أيلول 2011).
وفي ظل عدم اكتمال ذلك النضج في السياسة الخارجية التركية الجديدة التي لا تزال في طور الانفعال والتجاذب والتكوين، كان «الربيع العربي» التحدي الأبرز كما ظهر من تخبط تركيا منذ احداث تونس ومصر ولاحقاً الذروة في احداث ليبيا. إذ وقعت تركيا في فخ التناقض بين خطابها المثالي ومصالحها الاقتصادية مع نظام القذافي ثم استدركت في اللحظات الأخيرة، قبل أن تتوه في أزقة الأزمة السورية. بناءً على ذلك يستخلص مصطفى اكيول (نضوج السياسة الخارجية التركية: كيف غير الربيع العربي حزب العدالة والتنمية؟ فورين افيرز، 7 تموز 2011) أنّ «الربيع العربي كان بمثابة عملية تعليمية بالنسبة إلى تركيا. وأنّ الأتراك سيواجهون في سعيهم للموازنة بين المثل والواقع أسئلة مشابهة لتلك التي تواجهها السياسة الخارجية الأميركية».
وأما في العلاقة مع إسرائيل أصبح الأتراك بحاجة لمن ينزلهم من أعلى الشجرة، إذ لم يعد باستطاعة انقرة أن تفعل اكثر من الخطوات الرمزية بوجه تل أبيب وفي الوقت ذاته غير قادرة على التراجع عن لهجتها العالية والتهديدية. وبالمحصلة، وبعد شهور قليلة من مقولة «تصفير النزاعات» انتقلت تركيا الى واقع معاكس تماماً في سلسلة أحداث مستجدة أو متأزمة من الصراعات (سوريا، الأكراد) والتوترات (إسرائيل، قبرص، اليونان، وفشل محاولة المصالحة مع أرمينيا) والجفاء (العراق، حزب الله وإيران).
أمام ذلك الإخفاق التركي في تحقيق نبوءة داوود أوغلو، لم يجد ذلك الأخير مبرراً لذلك إلا بالقول إنّ «الوقوف مع شعب سوريا هو جزء من سياسة انقرة التي تعتمد على مبدأ «صفر مشاكل» مع جيرانها»، فهل يعني ذلك أنّ حزب العدالة والتنمية سيحقق ذلك من خلال دعم التحركات الشعبية في البحرين والسعودية وإيران؟ أو من خلال السعي لتصدير نموذجه الثوري الأبيض العلماني حيناً، والإخواني حيناً آخر، الى بلدان المنطقة (سوريا، مصر وتونس) على نسق ما كان يطلق عليه «تصدير الثورة الإيرانية»؟ على الأرجح أن لا يطول الوقت قبل أن نشهد التحوّل الثالث للسياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية، بعد أن تكتمل مرحلة النضج، إذ لا بد من القبول بالحد الإقصى الممكن من النفوذ والمكاسب ليبدأ السعي نحو تكريس ذلك الستاتيكو من خلال جملة خطوات تراجعية وتسويات إقليمية تعترف فيها حكومة اردوغان بحدود المثل وحقائق توازنات القوة من دون ان يعني ذلك خروج تركيا من المعادلة الإقليمية. لكنّها ستصبح أكثر تواضعاً وتعقلاً، وإلا فسيدرك الأتراك حينها كيف أنّ الشرق الأوسط كائن يهوى تحطيم «الرؤوس الكبيرة».

* باحث لبناني