بأداء يُدهشك، تحدث عصام العريان عن «شعبية» الإخوان التي خسرتها «ثورة يوليو»، وعن دعم «شعبي» وفره آباؤه لحمايتها. نكتة «الشعبية» أطلقها العريان للإعلامي يسري فوده على فضائية «أون تي في»، منذ أسابيع. على لعبة إخوانه الملوّنة للتاريخ عزف العريان. هي نغمة حلقات «الإسلاميون» ذاتها في «الجزيرة»، التي روّجت لأكاذيب تناقض الثابت تاريخياً، عن دعمهم «الشعبي» للوفد وللحركة الوطنية ضد القصر والاحتلال!
«يسقط صنيعة الاستعمار»، هتاف طارد به «الشعب» حسن البنا حيثما تنقل لعامين سبقا مقتله. الهتاف جاء رداً على ذروة تحالفه مع القصر ضد التوجهات «الشعبية». تهتف الجماهير: الله مع «الشعب»، فيهتف وإخوانه: الله مع الملك. في أربعينيات القرن الماضي، رشح البنا نفسه مرتين بالإسماعيلية، مسقط رأس جماعته. في الأولى تراجع مع «تهديد» مصطفى النحاس بفضح مخالفاته المالية، مقروناً بـ450 جنيهاً قال البنا إنّه أنفقها تمهيداً للترشح. مع تراجعه صُدم بعض إخوانه وهجروه، فلم يدركوا أنّه يعي حجم شعبيته، كما حدث نهاية 1944 مع ترشحه الثاني حين سقط سقوطاً مُزرياً.
وقائع تاريخية تسخر من وجود «الشعبية» أصلاً، بعدها نتحدث عن توظيفها أو عن مقايضة عبد الناصر بها. نُكمل بواقعتين تاريخيتين، الأولى أنّه لم تخرج تظاهرة «شعبية» أو إخوانية تحتج على قتل حسن البنّا، بل إنّ خليفته الهضيبي توجه بعدها بأيام إلى القصر، بعفوية الدور، ليجدد ولاءهم لمن «زعموا» أنّه قاتل إمامهم، كأنّه حجر أُلقي في اليم. الثانية أنّ اعتقالات وتعذيب عامي 1956 و1965 ضدهم، مع إدانتنا لها، لم تأخذ من «شعبية» الزعيم الكاسحة، فلم تهتم الأغلبية الساحقة بما يحدث لهم.
ينشط أبناء البنّا تحت حماية «قصر ما»، ملكياً أو ساداتياً، ودائماً «ضد» حركة الشعب. وترتبط شعبيتهم، وجوداً وحجماً، بأجواء الفقر والتخلف، مقرونة بضعف الدولة. هكذا تجد لهم شعبية نسبية في غزة مثلاً، بعكس رام الله. وفي مصر بدأت بتحالفهم مع السادات، ومع مبارك استفادوا من تآكل بنى الدولة. فتقديرات معظم المراقبين لحجمهم قبل «ثورة يناير» تتراوح حول ربع المليون، بين ناشط ومتعاطف. لكن جوهر لعبتهم دائماً هو «الإيحاء» بوجود أوسع، يعتمون به على عوامل أخرى، منها وجها عملة «الفزاعة»: على الأول تلويحهم لسلطة «ما» بالتعاون مع المعارضة، وعلى الثاني تلويح نظام «ما» بخطرهم على مصالح الغرب، رغم خدماتهم التاريخية للاستعمار.
قبل «ثورة يناير»، يحدثونك بثقة عن «شعبية» جارفة أوقفها النظام المخلوع في 2005 عند 88 مقعداً، فينخدع كثيرون. وينسى المخدوعون أنّها ابنة صفقة حرام مع الأمن، خانوا بها قوى الحراك، واعترف بها خمسة من قادتهم، أولهم المرشد السابق مهدي عاكف. صفقة أجادوا معها توظيف «ربع المليون»، بينما باقي القوى مُقيدة. بعد الـ88 مقعداً، أقر عبد المنعم أبو الفتوح في مقر جريدة «العربي» القاهرية، بأنّ ما حصدوه في دائرة بالوجه البحري أكثر من عشرة أضعاف قوتهم فيها، من أعضاء ومتعاطفين، وأنّ الأغلبية الساحقة كانت «تصويت ضد». في منزل عائلتي تسعة أصوات، لم أخرج أنا ولا زوجتي ولا أمي رحمها الله، الباقون صوتوا لأيمن نور «ضد» مبارك، ولمرشح الإخوان «ضد» الوطني. في الاستفاء الأخير صوت 8 من عائلتي بـ«لا»، رغم انّ 2 منهم فقط «مدنيون».
«بالونة» شعبيتهم جزء من تضخيم إقليمي لهم، تتكشف تدريجياً في ملاعب تخندقوا خلف حكامها. في الأردن دخلوا البرلمان في 1956، وترأسه أحدهم لثلاث دورات في التسعينيات. ذروة تمثيلهم 25 من 110 مقاعد، ثم تراجع. في 2007 رشحوا 27، فاز منهم 6. العام الماضي قاطعوا، رغم انّ قوانين الانتخابات هي نفسها التي حققوا في ظلها أعلى نتائجهم، ربما بسبب خلافات حادة تكاد تمزق حزبهم، جبهة العمل الإسلامي، حول تبعية مكاتب الخليج حيث تأتي التبرعات لحماس، بوصف إخوان الأردن هم «الأب» التنظيمي لها.
في العراق، تحالفوا مع الاحتلال، باعوا طائفتهم ووفروا غطاء سُنياً لـ«دستور بريمر». ورغم مناشدة يوسف القرضاوي للسنّة عبر «الجزيرة» دعمهم في انتخابات 2005، لم يخرج من محافظات السُنة سوى 3%، فابتكر بريمر تخريجة ليمنح «جبهة التوافق»، وفي قلبها إخوان «الحزب الإسلامي»، 44 نائباً من بين 275 مقعداً، ومعها منصب نائب الرئيس. وقبل الانتخابات الأخيرة، شكّل كبيرهم طارق الهاشمي قائمة «تجديد» وتبرأ منهم، منضماً لتحالف علاوي، فكان نصيب حزبهم 4 مقاعد.
في لبنان، حصلوا على مقعد واحد في آخر انتخابات، ضمن تحالف جعجع ــ الحريري، وقبلها برر محمد حبيب غيابهم بتركهم تمثيل السُنّة للحريرية. وفي الكويت، تآكلوا، 6 مقاعد في 2006، أصبحت ثلاثة في 2008، ثم واحداً فقط العام قبل الماضي. مقابل «الإخوانجي»، انتخب الكويتيون 4 نساء و8 ليبراليين، من بين 52 مقعداً.
من بين «إخوانات» الجزائر، تعترف الجماعة بـ«حمس». حصتها صفر في انتخابات 1991، بينما نالت جبهة الإنقاذ 188 مقعداً بالجولة الأولى. أيدوا الانقلاب المدعوم غربياً ضدها، وبرعاية القرضاوي، عقدوا صفقة مع النظام. نالوا في انتخابات 1995 61 مقعداً، ثم 34 في 2002، و51 في 2007 من 389 مقعداً مع أربع وزارات. لكن حمس تشظت إلى ثلاث كتل، أخذت منها «التغيير والدعوة» 28 مقعداً. في المغرب، دخل «العدالة والتنمية» البرلمان في 1999 بـ14 مقعداً، ثم 42 في 2003، أصبحت 47 في 2007 من 325 مقعداً، مع وزارة التعليم. لكن انتخابات حزريان/ يونيو 2009 البلدية، تشي بتآكل حاد في مكانته، مع احتلال «الأصالة والمعاصرة» المقدمة، وتراجع «العدالة» سادساً، بعدما كان ثالثاً.
في مصر.. بعد «ثورة يناير»، جددوا اللعب بورقة الشعبية، ووزعوا حصص البرلمان القادم، كأنّه في أيديهم. تتوقع تقارير اميركية فوزهم بنحو 15%، وراوحت النسبة ما بين 15 ــ 20% للإخوان «جميعاً»، وفق نائب المرشد السابق محمد حبيب، واتيحت لي تقديرات مماثلة من كوادر وسيطة بالجماعة.
لكنّها كلّها تقديرات مبنية «على قديمه». صحيح انّ الجماعة تظل القوة الأكثر تنظيماً في مصر، لكن «الآن» لا توجد صفقات أمنية، والملعب مفتوح أمام كل القوى بحرية، منها جماعات أخرى تنافس على الشعار الديني الذي طالما احتكره أبناء البنّا. كما انّ «الخزين البشري» للأصوات مختلف تماماً، فالثلاثة ملايين ونصف المليون مُصوت في انتخابات 2005، بلغت في الاستفتاء الأخير 18 مليوناً، وقد تتجاوز الـ30 مليوناً في الانتخابات القادمة، وهناك كتل كاملة «مخصومة» مسبقاً منهم، أي الأقباط، المتصوفة، معتنقوا «الإسلام المصري»، الليبراليون، وامتدادات الحزب الوطني المنحل، بماكيناتها الانتخابية المحترفة.
«على قديمه» أيضاً، التعامل معهم ككتلة متجانسة، فمن الغرف المغلقة خرجت خلافاتهم ليتوزعوا بين خمسة أحزاب. فقبل حزب الأم «الحرية والعدالة»، كان «الوسط» ثم «النهضة» و«الريادة» و«التيار»، وفريق سادس انضم إلى حزب «الناشط الديني» عمرو خالد، وكلّها أكثر قرباً، بتفاوت، للإسلام المصري من حزب الأم. الغريب أنّ أياً ممن تخوفوا من الفزّاعة، أو راهنوا على الإمساك بذيل البالونة، لم يتوقف عند تداعيات ذلك التشظي على كوادرها وماكيناتها الانتخابية.
ورغم أنّ «ثورة يناير» قد «هزت» فعلاً كل ما «على قديمه»، إلا انّنا قد لا نرى قريباً اكتساحاً «أردوغانياً» لهيمنة شيوخ «الأربكانية» المصرية على مؤيدي الجماعة. لكن المؤكد أنّ طلاقاً قد تم بين ثلاثة اجيال: الأربكانيون، من المرشد لنائبه خيرت الشاطر الذي حرض سليم العوا على خوض انتخابات الرئاسة «نكاية» في عبد المنعم أبو الفتوح «السبعيني الجيل»، الذي كان له الدور الأكبر في إجهاض صفقة، رحب «الشيوخ» بإبرامها مع «عمر سليمان» نائب الرئيس المخلوع.
والمؤكد أنّ خروج رموز مثل كمال الهلباوي ومحمد حبيب وإبراهيم الزعفراني وعبد المنعم أبوالفتوح، بمكانتهم داخل الجماعة وتأثيرهم على المتعاطفين من خارجها، سيفقد «الأم» جزءاً مؤثراً من فاعليتها الانتخابية. فهي رموز «جاذبة» للمتعاطفين و«مستوعبة» للآخرين، خصوصاً أنّها مصحوبة برموز محلية في «وجه بحري» الذي تعدّه خزينة مقاعدها. خرجت أغلب الرموز لحزب «النهضة» الذي يقتفي خُطى «العدالة والتنمية» التركي، مدعومة بثقل شخصية مثل القرضاوي، وبالقطاع الأكثر حركية من شباب الإخوان، الذي توزع بين الأحزاب التي تحررت من جمود «الأم». فالشباب أكثر تناغماً مع الأردوغانيين، ونفوراً من «عنجهية» الأربكانيين.
قد يخوض الأردوغانيون أول انتخابات ما بعد «ثورة يناير» متحالفين، أو يكتفون بالتنسيق، فالمسافات في ما بينهم «أقصر» منها مع الجماعة الأم. وربما فجّر «النهضة» وإخوانه ممن تحرروا من عبء «الطاعة بلا نقاش»، مفاجأة «تخصم» الكثير من حصة «الأم» المتوقعة، وربما لا. لكن المؤكد انّ نهراً جديداً لـ«إخوان مصريين» يُنحت، ويقترب رويداً رويداً من «الإسلام المصري»، كما نتمنى.

* المدير العام لتحرير يومية «الحرية» المصرية (قيد الصدور)