لا شك أنّ الرسم الكاريكاتوري الأخير لبهاء ياسين قد كشف عن مخاطر أبعد من مخاطر الرسم ذاته. إنه يكشف عن تربية حزبية مقيتة تستبيح في سبيل حزبيتها كل المحرمات. ولهذا لم يكن غريباً أن يصل التراشق الإعلاميّ، والتنابز بالمهانات بين الفصيلين المتناحرين حداً لم يعد يحترم أدنى القيم والحدود، بل إنه انتقل نقلة غاية في السوء، لا تتوقف عند المعارضة والتنافس، وإنما انتقل ليطاول النسيج الاجتماعي للشعب الفلسطيني. وليس راسم الكاريكاتير الأخير فريد سوئه في هذه الاستباحة، بل إن كلي الفريقين قد وصلت به الخصومة إلى حدّ الفجور والتآمر، وتمني الزوال ولو تحت القصف الإسرائيلي!
لقد بلغت درجة الفجور حدّاً دفعت بالعديد من الحاقدين في الطرفين إلى النيل من محمية الطرف الثاني، فانتقل الصراع من الصراع الحزبي ليشمل الجغرافيا وكذلك الشعب الذي لا ناقة له ولا بعير في كل هذا الجنون.
فها هي الحزبية المقيتة تنال من نساء الضفة وشرفهنّ ليهاجم السلطة في رام الله، ومن قبله صدرت تصريحات من بعض الشخصيات المحسوبة على السلطة في الضفة تتمنى سقوط غزة وانهيارها تحت القصف الإسرائيلي لينال بذلك من حماس، فأي حقد يعشعش في قلوب الحزبيين وفي عقولهم الخربة؟!
تُذكرني هذه الخصومة الفاجرة بملوك الطوائف واستعانتهم بالعدو الخارجي للنيل من «الأخوة» الأعداء المنافسين. وهي استعانة تشي بحجم السوء الذي يحرك الخصوم، ويرسم في سبيل الاستبداد والإقصاء كل خطاهم.

كذب من قال إن غزة والضفة شعبٌ واحد

ربما كان ذلك قبل أوسلو، وقبل قيام السلطة، وقبل حكومة حماس
لكن الواقع مختلف الآن تماماً. غزة تشعر بالخذلان، وكل حكومة تعطي شعبها ألف مبرر لكراهية «الشعب» الآخر. لقد بلغ الانقسام عمقاً تجاوز معه كل الأخلاق والقيم والثوابت التي توارثها الفلسطينيون عبر صراعهم المرير مع هذا المحتل البغيض، وأصبحنا شعباً تتقاذفه مدرستان تؤصلان للفرقة والتشتت والتآمر. إن ما أقدم عليه رسام الكاريكاتير في جريدة «الرسالة» الصادرة عن حماس في غزة بهاء ياسين لم يكن بدعاً من الصراع والتناطح والتآمر، إنما هو ابن شرعيّ لهذا التنافس البذيء، والذي يمارسه كلا الخصمين بلا تورّع.
هناك الآلاف من «البهائيين» في الفصيلين كليهما، ومن يظن أن المشكلة تتوقف على شخص بهاء فهو واهم، ويصرُّ في وضع رأسه، كما النعامة، في الرمال.
وإذا كان بهاء قد استباح أعراض نساء الضفة برسمه، فإن هناك العشرات وربما المئات من البهائيين الذين استباحوا الدماء والأعراض - واقعاً لا رسماً – في ساحات الاقتتال الحزبي، وفي أقبية التحقيق، وفي التصفيات والاعتداءات التي سُجّلت ضد مجهول عليه ألف شاهد.
الحزبية قبيحة، فبئس العقلية التي تُروّج لها وتغذيها.

استنهاضُ الجريحِ لا يكون بقتله

من جديد نصحو على الفاجعة، وما زال الصهيونيّ الغادر يبدع صوراً موغلة في الجريمة والدموية والطغيان.
فعلى توقيت الصراع المقدس، وعلى خطا من ساروا طواعية لحتفهم يمضي عليٌّ نحو قدره الفلسطيني المضرّج بالدماء.
بكامل طفولته المسروقة، وبكل بهائها المحروق، ولحمها الغضّ، وأسئلته الموجعة يمضي...
عيناه مفتوحتان على وجعٍ لا ينتهي، واستغاثاتٍ لا تتوقف، وفاجعةٍ أكبر من أن تحيط بها لغات الحروب الدامية، والصراعات البشرية، ووصول المحتلّ إلى أعلى درجات الدموية في سُلّم الجريمة.
ها هي دوما في متناول العين والقلب، وأمام هول الفاجعة يسقط القلب، فلا نفسٌ تبقى على حالها، ولا قلبٌ يستطيع احتمال ما يرى. عائلةٌ تلتهم النيران أحشاءها، ومستوطنون يتلذذون بالمشهد. وعلى بعد مئات الأمتار جنودٌ يباركون الجريمة بصمتهم، ويحمون فاعليها بالسلاح والنار والتواطؤ.
لم تكن جريمة دوما أول جريمة، ولن تكون الأخيرة أيضاً، وهؤلاء المستوطنون ليسوا نشازاً في مجتمعهم، ولا يحملون عقلية تختلف عن باقي اليهود من شتى الأحزاب الصهيونية.
المسألة بينهم في التوقيت وفي الطريقة وفي حجم الكراهية، لكنهم متفقون جميعاً على إبادة الفلسطيني.
منهم من يريد إبادته بالتفاوض، ومنهم من يريد إبادته بالرصاص، ومنهم من يفضل القصف والتدمير، ومنهم من يحرق بالفوسفور الأبيض، ومنهم من يحرق بالنار. لا خلاف بينهم على الغاية وهي الموت، إنما التباين بينهم في الطريق للوصول إلى تلك الغاية.
ألم يقل كبراؤهم: إن الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت؟
جميعهم يسعى لغاية واحدة، تاركين لعقلية الجريمة أن تبتدع صورها، وتتنافس في دمويتها وبشاعتها.
لقد تكثفت هجمات المستوطنين على العزّل في السنوات الأخيرة، وازدادوا شراسة وقبحاً، وكيف لا يكونوا ذلك والمشروع الوطنيّ الفلسطينيّ الكبير يهيئ لهم كل أسباب الجريمة والتمادي بها؟
منذ أن طاردت السلطة الفلسطينية سلاح المقاومة، وزجّت بالمقاومين في سجونها، أو أوكلت للصهاينة تنفيذ مهمة الاعتقال، والمستوطنون يشعرون بكامل الأريحية في تنفيذ الجرائم، ثم يطلّ علينا وزير من وزراء السلطة هنا أو هناك داعياً الشعب إلى تشكيل لجان حماية شعبية لتقف في وجه المستوطنين وعربداتهم!
أي استخفاف بأرواح الناس وبمقاومتهم؟ وهل أبقت السلطة نَفَسَاً مقاوِماً إلا واستأصلته من جذوره، وجففت كل المياه التي يمكن لها أن تعيد له الحياة؟
ليست المقاومة محلاً للمقامرة ولا التجارة، ولا التصريحات الكاذبة، ولا يصح بحال من الأحوال أن توصف المقاومة بأنها فعلٌ بطوليٌّ مساءً لتصبح في الصباح خيانةً وتخريباً وتنفيذاً لأجندات خارجية!
تستطيع السلطة أن تتنصل من مسؤوليتها تجاه ما يجري، وهذا ليس بغريبٍ عنها، لكن لا يصحُّ لها أن تستخف بالدماء النازفة، ولا اللعب الكاذب على عواطف الناس بالمقاومة العاجزة!
المقاومة جريحة، والمقاومون في السجون، أو مُشرّدون على خرائط الزمن، وحاضنتهم الشعبية قد تم استهدافها، وصارت رجساً من عمل أناسٍ يعملون ضد مشروع النهضة والتحرر والرخاء الاقتصادي!
استنهاض الجريح لا يكون بقتله، ومن يريد الاستنجاد بالمقاومة فعليه أن يسحب مخالبه من جسدها الجريح، وان يوقف ملاحقتها الآثمة، ويتطهّر من رجس التنسيق مع الأعداء ضدها، وما عدا ذلك فلا مقاومة ستنهض ولا مقاومون، وسنظل نهيئُ أنفسنا كل ساعة لخبرٍ دمويٍّ نحن وقوده وضحاياه.
الله على قلوب ذوي الشهيد عليّ دوابشة، ومنّ على عائلته بالشفاء العاجل.
* كاتب فلسطيني