بين الطروحات الخمينية الأصيلة، وخطاب الإصلاحيين اليوم، تتكشف جدلية التحول. وهي ليست غريبة على المجتمع الإيراني الذي عرف تحولات وانقلابات جذرية في المفاهيم، تاريخياً وحديثاً. من ثورة التنباك، مروراً بحكومة محمد مصدق، إلى الثورة الإسلامية ووصولاً إلى ما يروق البعض تسميتها الضبابية العقائدية التي واكبت توقيع الملف النووي.
وبعيداً عن نظريات المتصلبين الذين يحاولون جاهدين التأكيد أن لا شيء تغير، أو سيتغيّر، في علاقة التركيبة الاجتماعية السياسية مع الغرب، وانعكاس ذلك على السياسات الإيرانية، فإن حقيقة لا مفر من مواجهتها، هي أن إيران على أعتاب دخول «منطق السوق» الاستهلاكي. وهو السوق الذي تديره من دون منازع الولايات المتحدة الأميركية القابضة على أقوى اقتصاد في العالم.
من دون جهد، يمكن أن نشهد على حماسة غالبية إيرانية، للانفتاح على «السوق». وهو أمر تثبته توترات المحافظين من حراس المعبد، واندفاعهم في ترديد شعار أصبح من الصعب الأخذ بجديته، في ظل التعاون والتنسيق الأمني والسياسي مع «الشيطان الأكبر» على أكثر من
جبهة. ومع ذلك، فحماسة المحافظين لمواجهة مفاعيل التطبيع مع الغول الرأسمالي تبدو أكثر من مبررة، خصوصاً إذا عدنا إلى تجارب مماثلة في معسكرات كانت ربما أكثر ثورية نظرياً، وهي تجارب ليست مدعاة للتفاؤل، لأن التغلغل الأميركي في المجتمع الصيني وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق ومجموعة دول شرق أوروبا، يؤكد حق المحافظين في إيران باستشعار مخاطر تهدد مشروعهم، وقد تطاول وجودهم، وهو ما يفسر استبسالهم من على منابرهم الإعلامية، وما تيسر لهم من محافل دينية في الكيل للاتفاق النووي واتهام من قام بإنجازه بتهديد سيادة إيران الوطنية.
لكن مشكلة المحافظين أنهم يتجاهلون أن لا عودة للتاريخ إلى الوراء، وأن مجرد التفكير في العودة يعني التشظي، ويهدد بانفجار مجتمع لا يمكن نكران تلهفه للخروج من العزلة والحصار.
والطوباوية الثورية تعد بأمور كثيرة، لكنها غالباً ما تتخلف عن إيفاء الناس حقهم في الخبز والعيش الكريم. فالعيش الكريم أكثر من شعار وأكثر بكثير من مفاعل نووي ومن ترداد مقولة العدل العالمي.
ربما حان وقت تجديد الثورة الإسلامية من داخلها، والشعب الإيراني هو في أساس الجدلية، بل هو صانع الدياليكتيك في الصراع الأزلي بين أهورامزدا إله النور واهريمان إله الظلام.
مرة أخرى ليس الشعار كافياً، وليست القدرة الحربية والإنجازات العسكرية وحدها ما يؤهل معسكراً ما للتوجه الإمبراطوري. فالتجربة الإيرانية في العراق بعد أحد عشر عاماً على سقوط طاغية بغداد، كانت تجربة مأسوية في الإدارة والخدمات. ولو أنّ من غير العدل إعفاء الاحتلال الأميركي والتدخل الخارجي من المسؤولية، لكن دور الحكومة الإيرانية، هو ما دفع الإصلاحيين في إيران لفتح النقاش، حول حقيقة أنه ليس بالصاروخ وحده يحيا الإنسان.
لقد أجادت إدارة الرئيس حسن روحاني، ورئيس دبلوماسيتها محمد جواد ظريف، استخدام البراغماتية والمرونة، والعمل بأساليب الحرب الناعمة، وهو نهج قد يكون هو الأساس في رسم مستقبل إيران.
نصف عام، ونكون أمام استحقاق الانتخابات الداخلية في إيران، المفترض حصولها في آذار 2016. والسؤال هو: هل يندفع الشعب الإيراني خطوات إلى الأمام، أم أن الفرس يحترفون سياسة الخطوة خطوة، لأنها الأكثر أماناً؟
* كاتب لبناني