مع اقتراب نهاية العام، يبدأ العد العكسي للانسحاب الأميركي من العراق. انسحاب كثر الحديث عنه وعن تبعاته على واشنطن وبغداد على السواء. وفيما لا يزال الوضع غامضاً في ما يتعلق ببقاء عدد من المدربين الأميركيين في بلاد الرافدين، يعمد بعض العراقيين، من ساسة ومراقبين، إلى التخويف من تأثير الانسحاب على الوضع الأمني للبلاد. هؤلاء القلة يقابلهم من يرى الاحتلال مسؤولاً عن التدهور الأمني ورعاية الإرهاب في العراق. إذاً، الانسحاب الأميركي حاصل، وقبل عطلة عيد الميلاد المقبل، كما قال الرئيس الأميركي أوباما مساء الجمعة الماضي. لكن، ماذا عن السفارة/ القاعدة الأميركية في بغداد ورجال واشنطن الذين استوطنوا الوزارات والمناصب؟

هل سنفلت من القيود؟



صائب خليل*
يمر العراقيون اليوم بمفترق الطرق الأخطر على مستقبلهم منذ احتلال بلادهم في 2003، فالمشكلة التي يواجهونها ليست في تمديد وجود القوات الأميركية وحدها (حسم أوباما أمره منذ أيام بعدم التمديد)، بل ماذا سيحصل بعد «الخروج» الأميركي من البلاد.
تنتشر القواعد العسكرية الأميركية في 130 من دول العالم، بغير رضى شعوبها. وكما في الدول الأخرى، تبخرت في العراق مع السنين السعادة والامتنان لتلك القوات لتخليصهم من الديكتاتور الذي سبق أن دعمته القوات نفسها، أكثر من مرة في الماضي. فمشاهد سجن «أبو غريب» وغيرها من الجرائم المقززة التي ارتكبها الجيش الأميركي ولواحقه في العراق، لا تزال ماثلة للعيان، إضافة إلى دوام العنف والإرهاب في البلاد، ما يزيد عدد المؤمنين بأن الجيش الأميركي يتعمد تصعيد الإرهاب، إن لم يكن يديره كله...
يكرر دعاة بقاء الاحتلال في العراق ثيمات بسيطة، فالاحتلال «ضروري لحماية الديموقراطية»، و«قواتنا لم تكتمل بعد»، و«ليست لدينا حماية لسمائنا»، ونحتاج إلى «الدعم اللوجستي»، ومحاربة «تنظيم القاعدة» و«الإرهاب»، وينبغي حمايتنا من أخطار «البعث وجيش المهدي ودول الجوار». كما أنّ القوات الأميركية ضرورية لدعمنا إيجابياً من الأمم المتحدة التي تريد أن تبقي علينا أحكام «الفصل السابع»، كما أنّها «ضمان ضد الاحتقان الطائفي»، و«صداقة أميركا ضرورية لنا» و لـ«الاقتصاد»، والتقدم العلمي... الخ.
لا تحتاج تلك الحجج إلى الكثير من الجهد لدحضها، فادعاء حماية الديموقراطية وحماية العراق من «البعث»، يفنده تدخل السفارة الأميركية في الانتخابات العراقية الأخيرة، وضغطها على المؤسسات الانتخابية والدستورية وحتى القضائية لفرض مرشحين للانتخابات من بقايا البعث الذي جاءت «لتحرر» العراق منه، حسب قولها. حدا ذلك برئيس الوزراء، أن يهدد، لأول مرة، بطرد السفير الأميركي. وفي التحقيقات الأخيرة التي جرت بشأن المفوضية العليا للانتخابات، الشديدة الفساد، كشفت النائبة حنان الفتلاوي أنّ المفوضية كانت تسلم الجيش الأميركي صناديق الاقتراع سراً!
أما موضوع الحماية فهو حجج فارغة، فلا يوجد شيء اسمه «اكتمال القوات»، وتطمح الدول باستمرار إلى زيادة قواتها، وأولاها الولايات المتحدة نفسها التي تمتلك جيشاً يعادل جيوش العالم مجتمعة. كما أنّ تلك الحاجات تحدد على أساس تقدير حجم التهديدات التي يتعرض لها البلد، ويتفق الساسة العراقيون على أنّ ذلك الحجم الآن يساوي «صفراً»، ولم يعد أحد يتحدث عن «التهديد الإيراني»، فلا يبقى من تهديد إلا من الجهات الصديقة لأميركا. وتبيّن التجربة مع الكرد أنّ القوات الأميركية لن تمنع أصدقائها، كما أنها لن تساعد على استعادة ما استقطعه ويستقطعه هؤلاء ـــــ الكويت أو السعودية أو الأردن ـــــ من أراض وثروات عراقية. إضافة إلى كل ذلك، اتهم العديد من السياسيين الولايات المتحدة بـ«عرقلة حصول العراق على أسلحة» لإبقاء جيشه ضعيفاً، وليس العكس.
لا يبقى إذاً للاحتلال إلا أن يفرض نفسه بالقوة المدعومة بالإعلام والعملاء. لذلك فهو يسعى إلى استغلال الوقت للسيطرة على المؤسسات المالية والسياسية على البلاد، وإحكام الخناق على المؤسسات الأمنية والعسكرية، وتخريب أيّ محاولات لنهضة البلاد.
عموماً، عمل الأميركيون على إعادة الجلادين إلى الحكم في البلدان التي «يحررونها»، لأنّهم اكتشفوا أنّ هؤلاء هم خير من يخدمهم في النهاية. وهم يعملون اليوم في العراق على إعادة بقايا الصداميين إلى الحكم، وخاصة في الجيش والأمن. وبلغ اشمئزاز الناس من ذلك أن اضطر السفير الأميركي في العراق إلى التأكيد أنّ دولته لا تعمل على إعادة البعث إلى الحكم!
كان خيار أميركا لأول سفير لها في العراق ذا معنى عميق، فلم يتم اختيار خبير في «الإعمار» كما يفترض أن يستنتج من الخطاب الأميركي، بل خبير في صنع خلايا الإرهاب، يطارد حيثما حل من قبل الناشطين في العالم، جون نيغروبونتي الذي تدرب على صناعة الإرهاب أثناء توليه سفارة بلاده في هندوراس، فأغرقت دول أميركا الوسطى في حوادث لا تشبه في وحشيتها إلا ما عرفته شوارع العراق بعد احتلاله. وكان هناك العديد من الدلائل والمؤشرات على العلاقة الوطيدة بين الإرهاب والجيش الأميركي. ومثل العديد من العمليات الإجرامية السابقة، فقد تبيّن أنّ إرهابيي جريمة النخيب الأخيرة كان قد أطلق سراحهم أخيراً من سجن أميركي يبدو أنه عبارة عن مركز لتدريب الإرهابيين.
أما أنصع الأدلة قوة، فلم يكن أقل من إلقاء القبض على عسكريين بريطانيين متلبّسين بتنفيذ عملية «انتحارية» بتفجير شخص بأجهزة إطلاق عن بعد، ضبطت معهما، وقتلهما شرطيين قبل القبض عليهما، ثم إنقاذهما بواسطة الدبابات البريطانية التي حطمت السجن الذي كانا فيه. وفي ما بعد، تكفل التجاهل الإعلامي بأن يجعلنا ننسى أنّ البريطانيين كانا يحملان جهاز تفجير عن بعد!
ويسعى الأميركيون إلى إحكام القبضة على الجيش والأمن من خلال محاولة فرض «أصدقائهم» لتسلّم الوزارات الأمنية والعسكرية، وكذلك تمّ خلسة وعلى نحو مشبوه تمرير اتفاقيات بين العراق وحلف الناتو، ومن دون أن يثير الإعلام المحلي أيّة أسئلة حول الموضوع.
إذا كانت أميركا وتوابعها وأصدقاؤها قد يئسوا من إقناع الشعب العراقي بفائدة الوجود الأميركي ليقبله، فهم لم ييأسوا من إرهابه ليقبله. وبالفعل، يمكن أن تكتشف شعوراً متزايداً بين المؤيدين للوجود الأميركي بأنّهم إنما يقبلون خوفاً من بطش واشنطن، وليس اقتناعاً بهم. أحد المدافعين عن بقاء القوات الأميركية يصف الأمر على النحو الآتي: «وجود القوات الأميركية في العراق قد يؤدي إلى مزيد من الاستقرار، ويعزز العملية السياسية، عندما تشعر الولايات المتحدة بالاطمئنان إلى توجه العراق نحو علاقة استراتيجية معها». وهو يكشف أنّ الموضوع ليس لحماية العراق من أخطار ما، بل الهدف هو طمأنة أميركا إلى أنّنا سنكون «لطفاء» دائماً، ومرتبطين بـ«علاقة استراتيجية» معها، «علاقة» تقدر هي أنّها لا يمكنها أن تقنعنا بها إلا بوجود قوات عسكرية تخيفنا بها، إن رفضنا تلك العلاقة يوماً، أو طلبنا تغييرها. قوات تستطيع أن تحدد بواسطتها تفسيرها للبنود وشروط تنفيذها، وكل ما ترك غامضاً في المنطقة الرمادية في الاتفاقات.
أميركا إذاً تكشف وجهها القبيح تدريجاً، لكي لا يتسبّب بصدمة كبيرة، ويتسلل الخوف إلى تفكير الناس تدريجاً وتبدو المبررات التي يقدمها الخوف «أسباباً» منطقية للقبول بما يريده الأميركيون في نهاية المطاف.
* كاتب عراقي

نهاية الاحتلال من وجهة النظر الوطنيّة



أحمد الناصري*
من وجهة النظر الوطنية والتاريخية، جاء الاحتلال ليبقى، وهو لا يخرج ولا يطرد وينتهي إلا بمقاومة وطنية شاملة ومتنوعة طويلة النفس، تستند الى بعد وطني ثقافي وتاريخي، تقودها حركة وطنية تطرح برنامجها الوطني الديموقراطي، وليس عن طريق التوافق والتهادن مع الاحتلال أو التعاقد معه. فالمهمة الوطنية هي مواجهة أهداف الاحتلال الاستراتيجية التي تستند الى العقلية الإمبراطورية الأميركية والصراع العالمي الشرس على مصادر الطاقة، وهشاشة منطقتنا وحماية الأنظمة التابعة (السعودية وأخواتها في الخليج) وتأمين إسرائيل ومحاصرة إيران والعمل الواسع والمتنوع للتسلل والتغلغل في التحركات العربية الشعبية الجارية في أكثر من بلد عربي.
الآن، من جديد يتحرك ويتقدم الاختلاف بين موقفين حول الاحتلال وبقائه، أو خروجه في نهاية العام الجاري، أي بين الاحتلال والإدارة المحلية وبين الموقف الوطني الذي يرفض الاحتلال بجميع أشكاله ودرجاته. فالاحتلال يسعى إلى البقاء من خلال اعتماده على أعوانه الذين أتى بهم، من خلال محاولة تقسيم المجتمع وتشطيره، وحل مؤسسات الدولة وتدميرها وعرقلة إعادتها أو السماح ببنائها المشوّه، على أسس المحاصصة الطائفية التي تتعارض مع مفهوم بناء الدولة الوطنية الحديثة، أو عبر تفجير الأوضاع الأمنية الهشة، والتلويح بخطر التمدد والنفوذ الإيراني، كقول حق يراد به استمرار باطل الاحتلال. كذلك لا يجب أن ننسى الكلام المغرض والملتبس عن عدم جهوزية القوات العسكرية العراقية (لماذا لم تجهز بعد؟) وانعدام القوة الجوية، ما يجعل العراق مكشوفاً من الجو (وكأنّه مكشوف من الجو فقط!) واستمرار وجود خطر القاعدة الإرهابي، وفرق الموت الطائفية الأخرى، ودور الإرهاب الغامض والمنظم الذي يجري تحريكه حسب أجندة خاصة. تلك كلّها مخاطر جدية وحقيقية تحدق بوطننا وشعبنا. لكن السؤال (الوطني) الرئيسي هو: هل للاحتلال والإدارة الطائفية المحلية مصلحة وقدرة على حل تلك المشاكل ومعالجتها، أم أنّهما المسبّب لها؟
لا يزال الاحتلال يطلق رسائله المتواترة باتجاهات مختلفة، ويقوم بنشاطات وزيارات متلاحقة عبر قنوات عديدة، لفرض قضية تمديد بقاء قوات الاحتلال في بلادنا، وهو يعرف فعاليتها وتأثيرها المباشر على الأطراف القابعة في المنطقة الخضراء، حيث يقيم الجميع الى جانب أكبر سفارة أميركية في العالم، بمؤسساتها العلنية والسرية ورمزيتها البالغة، وحيث يزور من يدعى برئيس الجمهورية السفير الأميركي، في خرق فاضح ذي دلالة لكل الأعراف والتقاليد الدبلوماسية.
ويريد الاحتلال البقاء، من خلال تعديل المعاهدة الأمنية، والتعديل مطروح، وهو ليس مسألة صعبة، ما يعني تحويل الاحتلال الى احتلال تعاقدي من خلال المعاهدة وما يسمى العلاقات الاستراتيجية المتميزة. كما يسعى إلى تحقيق فرض التبعية والهيمنة السياسية كنتيجة ومحصلة مقصودة حققها الاحتلال العسكري. المشكلة اليوم أنّه ليس هناك أحد من أطراف العملية السياسية يقف علناً وينطلق من موقف وطني واضح وسليم ضد الاحتلال، إلى جانب التأثير الأميركي الكبير والواضح في عموم الحياة السياسية العراقية، من خلال جهات وعناصر يعملون مع الاحتلال مباشرةً أو جهات خاضعة له.
بالإضافة إلى ذلك، هناك أطراف عديدة ونافذة في المنطقة الخضراء تحتاج الى بقاء قوات الاحتلال لحمايتها، ضمن الصفقة الأصلية، تحت مسمّى كاذب وخادع وهو الحفاظ على «التجربة الديموقراطية الفتية». كما أن هناك إمكانية حقيقية وسهلة لتفجير الأوضاع الأمنية الهشة، والقول بضعف استعداد وجهوزية الجيش والقوى الأمنية والعودة الى أهمية بقاء قوات الاحتلال، ذلك إلى جانب التأثير الواسع والكبير للقوى الإقليمية والخارجية (إيران والسعودية وغيرهما) على القرار الداخلي باتجاهات مختلفة.
ويجب التنبه للمطالبة العلنية للأحزاب الكردية ببقاء قوات الاحتلال و«التبرع» لها بأراض في كردستان لإقامة قواعد ثابتة عليها. كذلك هناك ازدواجية التصريحات وتناقضها بين السر والعلن، وبين المفاوضات والجلسات السرية الغامضة والتصريحات الإعلامية، واللجوء الى خديعة الحاجة إلى قوات تدريب أميركية لا يعرف عددها وتسليحها وقواعدها.
لقد لعبت الخسائر البشرية والمادية الكبيرة، بالتزامن مع حرب ضروس أخرى في أفغانستان، دوراً كبيراً في قرار أوباما سحب القوات الأميركية من بلادنا. قرار ترافق مع تفجر الأزمة المالية الحادة في أميركا وأوروبا. لكن بعض المخططين الأميركيين في الإدارة وخارجها يرون إمكانية الاستمرار والبقاء في العراق لتحقيق المصالح الأميركية فيه وفي عموم المنطقة.
إن قضية انسحاب الاحتلال أو بقاءه، الى جانب قضايا الحرب والغزو والتجربة السياسية الطائفية والإرهاب والقتل الجماعي والفساد والتخريب الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وجميع النتائج الكارثية الأخرى التي تكرست وأنتجت وضعاً مشوّهاً، تستدعي تجديد الموقف الوطني وتفعيله من تلك القضايا الرئيسية الخطيرة، ووضع قضية الاحتلال ومهمة طرده والتخلص منه في موقعها الصحيح من المهام والقضايا الوطنية. يحدث ذلك عبر تطوير وتعميق التحرك والنضال الشعبي ليأخذ أبعاداً سياسية ومطلبية واضحة ومتصاعدة، إلى جانب كل أشكال العمل الممكنة والمناسبة، كمدخل وطريق صائب نحو التخلص من «العملية السياسية» وكوارثها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
إنّ مهمة طرد وإنهاء الاحتلال وآثاره هي مهمة وطنية رئيسية ذات أبعاد ثقافية وسياسية وتاريخية، لا بد من إنجازها للعودة الى حالة سياسية وطنية اعتيادية، ولبناء مجتمع ودولة على أسس وطنية طبيعية، تقوم على مبادئ الفكر الوطني.
* كاتب عراقي

قواعد لا يسري عليها القرار



جمال محمد تقي*
لا يختلف اثنان في العراق على أنّ الأميركيين يريدون استمراراً لبقائهم العسكري فيه، حتى لو ناقض ذلك أيّ وعود سابقة أو اتفاقات مبرمة أو برامج انتخابية للاستهلاك الداخلي الأميركي، أو خطابات لترطيب خواطر العراقيين. ومن نافلة القول إنّ الفضل في ذلك الإجماع العراقي يعود إلى الأميركيين أنفسهم، فكل أحاديث مسؤوليهم الذين زاروا العراق خلال الستة أشهر الأخيرة كانت تصب في ذلك الاتجاه. كذلك فإنّ عدم حسم أي قضية عالقة من القضايا الملحة، وتركها للقائمين عليها هو أسلوب أميركي مكرر يخدم توجههم القاضي بالبقاء، بحجة ضمان عدم انزلاق الوضع برمته نحو الهاوية.من تلك القضايا العالقة لدينا عدم الجدية في تسليح الجيش العراقي وتدريبه، والاستمرار في تفخيخ العلاقة بين بغداد واربيل، وتعمّد حالة التراخي أمام تزايد النفوذ الإيراني لجعل تدخل إيران مدعاة لإثارة الذعر الطائفي بين أبناء الشعب، ومن ثم التلاعب الموسمي بالأوضاع الأمنية سلباً وإيجاباً، ورفع اليد عن وعود إعادة الإعمار، والتنصل الناعم من موضوع إخراج العراق من تحت طائلة البند السابع. كذلك يجب ألّا ننسى عدم المبالاة بالتصرفات الاستفزازية التي تقوم بها الكويت، فيما كان الأميركيون أنفسهم يزيدون من تهديداتهم لسوريا مثلاً، بحجة تأثير مواقفها السلبية على استقرار الوضع العراقي. هم يغضون الطرف عن تدخلات الكويت وتركيا وإيران، لغاية في نفس يعقوب، غرضها الأساسي إحداث مزيد من التعقيدات واتخاذها ذرائع لإطالة عمر البقاء الأميركي في العراق.
السفارة الأميركية في قلب بغداد هي قاعدة أميركية ثابتة، وهي أكبر سفارة لتلك الدولة في العالم، يعمل فيها ما يقارب من 10 آلاف عسكري ومدني. فيها قاعدة جوية صغيرة ومركز استخباري متقدم وقوات خاصة. أما القنصليات الخمس المنتشرة في شمال العراق ووسطه وجنوبه، فهي الأخرى قواعد ثابتة، لكنّها بحجم أصغر من قاعدة بغداد. إضافة إلى تلك القواعد التي يختلط فيها العمل الدبلوماسي بالاستخباري والعسكري، هناك قواعد عسكرية صرفة تتخصص في السيطرة على الأجواء العراقية وعلى كل الأنشطة الرادارية، وأخرى متخصصة في عمليات الكوماندو، وأخرى في الإسناد. ومعظم تلك القواعد العسكرية موزعة حالياً قرب مطارات المحافظات التي توجد فيها القنصليات الأميركية. ذلك إضافة إلى المعسكرات ذات المعدات الثقيلة، وهي أربعة رئيسية موزعة على بغداد والبصرة والموصل وصلاح الدين، وفرعية موزعة على الناصرية والكوت والحلة وكركوك وأربيل. إنّ الانسحاب القادم لا يشمل كل تلك القواعد، ولا كل القوات البالغ عددها حالياً حوالى 50 الف عسكري، بل سيعيد توزيع بعض القواعد وتنظيمها ودمجها بعضها مع بعض، وسيجري الاستغناء عن بعضها الآخر.
لقد بنى المحتل في العراق قواعد من نوع آخر، وحفر خنادق لا يعسكر فيها العسكريون، بل ليتهافت إليها الطائفيون والمناطقيون من الأتباع ليغذوا انقلاباً على المنظومة القيمية للوطنية العراقية، لتحل محلها قيم المكونات المتغالبة. مكونات ستكون الحلقة المركزية المعتمدة في المشروع الاحتلالي لما بعد الانسحاب العسكري الكلي، لأنّ «فصفصة» المجتمع العراقي الى مكونات غير متجانسة تندفع إلى مصير التصادم الذي يتوسل استدعاء الحماية من الخارج، هي المحصلة الأكثر خطورة في كل تداعيات عملية الاحتلال برمتها. ونتيجة للأزمة المالية الخانقة التي يمر بها الاقتصاد الأميركي، سيجري تخفيف نفقات الوجود الاحتلالي الرسمي في العراق من خلال ترشيق العدد الباقي الى ما دون النصف، وتحميل الميزانية العراقية جزءاً من التكاليف. وستنفق الأموال العراقية أميركياً من خلال تركيز عطاءات مناقصات التسليح على شركات أميركية محترفة، ومن خلال سد فراغ القوات المنسحبة بمنتسبي شركات الحماية الخاصة الأميركية، التي لا تؤدي خدماتها للحكومة العراقية، إلا بمقابل مالي ضخم.
القواعد الأميركية التي لا يشملها الانسحاب من العراق كثيرة، وهي لا ترحل إلا بسقوط المشروع الأميركي المُهَنْدَس كقاعدة انطلاق نحو الشرق الأوسط الكبير. وذلك السقوط لا يأتي مجاناً أو تلقائياً، بل هو محصلة لمشروع المقاومة الذي لا يزال في طوره الأول.
* كاتب عراقي

خروجهم ليس باختيارهم



صباح علي الشاهر*
بعد ساعات من إسقاط النظام السابق في التاسع من نيسان 2003، ظهر مواطن عراقي على شاشة الجزيرة ليصرخ بوجه الأميركيين: «صدام وأسقطتوه، خلّصتونا منه، فلماذا أنتم باقون، ارحلوا!». كان لموقف المواطن العراقي مغزى، وإشارة ذات دلالة. بعد أيام قليلة، كانت نعوش الجنود الملفوفة بالعلم الأميركي تُنقل سراً من العراق إلى أميركا، إيذاناً بانطلاق أسرع مقاومة احتلال في التاريخ.
لم يكن قتلى الجنود الأميركيين بسبب مواجهتهم للجيش العراقي أو فلوله، فالجيش ترك سلاحه في أرض المعركة، وغادر الميدان، وكذلك فعل عناصر الشرطة، والموظفون كافة. فجأة أصبحت البلاد بلا حكومة، وبلا سلطة من أي نوع. لماذا تلاشى الجيش من دون مقاومة، ومن دون مفاوضات، ومن دون إعلان استسلام حتى؟ كيف يمكن قائدَ الجيش، ووزير الدفاع، ورئيس الأركان، وقادة الصفوف، وقادة الفيالق ترك أتباعهم، المكلفين بقيادتهم، بدون توجيه وبلا أوامر، يواجهون مصيرهم وحدهم، حتى إنهم كانوا لا يعرفون ماذا يفعلون بما في عهدتهم من أسلحة ومعدات؟
لو حدث ذلك في أي بلد في العالم لاقتيد قادة الجيش إلى المحاكم. لكن قادة الجيش ووزير الدفاع ذهبوا بأرجلهم إلى قوات الاحتلال وسلموا أنفسهم، والأغرب أنّنا نسمع من يصف هؤلاء بالأبطال.
سقطت بغداد بأقل من ساعتين، ودونما مقاومة. لا أهمية لتبجح البعض، وادعائه بأنّ بغداد لم تسقط ولن تسقط، فإذا كان دخول الأميركيين لبغداد واحتلالهم لها لا يعني سقوط المدينة، فماذا يمكن أن يُسمى ذلك إذاً؟
من يعود بذاكرته إلى أيام المواجهة بين الجيش العراقي وقوات الغزو، ينتابه إحساس عميق بأنّه لم تتح لجيشنا فرصة المواجهة الحقيقية ولا فرصة المقاومة، لا في بغداد فقط، التي كان من المُتعذر، وفق أكثر المحللين تفاؤلاً، سقوطها بأقل من ستة أشهر، بل في كامل التراب العراقي. ومن يقارن بين مقاومة مدينة بالغة الصغر في جنوب العراق لقوات الاحتلال، التي امتدت لعدة أسابيع، وبين سقوط المدن الكبرى حتى من دون مقاومة (البصرة، بغداد، والموصل) يُصاب بالدهشة المصحوبة بالشك.
كانت أميركا تأمل تحويل العراق الى بؤرة جذب للمنطقة، لكن السحر انقلب على الساحر، إذ أصبحت التجربة العراقية في ظل الاحتلال الأميركي كابوساً، وأسوأ مثال يمكن أن يُقدم لدول المنطقة.
عندما تخطّى عدد قتلاها الألف، بدأت أميركا تُفكر عملياً في الانسحاب من محرقة العراق. محرقة لم تقتصر فقط على قتلى تجاوز عددهم الأربعة آلاف، بل وصل الأمر إلى الخسائر المادية الفلكية التي تجاوزت مئات المليارات، إضافة إلى فقدان أميركا هيبتها، وانكشاف ضعفها، إذ أقرّ استراتيجيّوها بأنّها غير قادرة على شن حربين في موقعين، وفي آن واحد.
لذلك، فإنّ خروج الجيش الأميركي من العراق حاجة أميركية، ولكن كيف يكون ذلك الخروج، وعلى أي نحو؟
أغلب الظن أنّ أميركا تريد إيقاف النزف الذي عانت وتعاني منه، إذ من المتوقع أن تسعى إلى الخروج من أفغانستان أيضاً، ربما بعد خروجها من العراق بقليل، من دون خسارة النفوذ الذي حصلت عليه، أو حتى التقليل منه. إلا أنّ الأمر لا يتعلق برغبة أميركا، فهي لم تخرج بمحض إرادتها ورغبتها، وهي إنْ لم تخرج بهزيمة فإنّها ستخرج بنصف هزيمة على الأقل. ولنصف الهزيمة تبعات، كما سيكون للاعبين الآخرين سواء في الملف الأفغاني، أو الملف العراقي كلمتهم التي على واشنطن لا الاستماع لها فقط، بل مراعاتها. وقبل هذا وذاك، هناك موقف العراقيين، وبالأخص الرافضين للوجود الأميركي في بلادهم، وهم موجودون بقوّة الآن على الساحة ويملكون القوّة والقدرة على الرد، ووقتما شاؤوا. وبناءً على ذلك، فإنّ النفوذ الأميركي سواء في العراق، أو أفغانستان سيتأثر كثيراً في حالة الخروج العسكري الأميركي من البلدين، وتلك مسألة ينبغي أن يستثمرها العراقيون، وكذلك الأفغان، لتعزيز موقعهم السيادي، كما أنّ على دول المنطقة التعامل وفق ذلك المعطى.
* كاتب عراقي