بعد انتخابات المجلس التأسيسي في تونس والنجاح الكبير الذي حققته حركة النهضة، والطابع الإسلامي الذي أعطاه مصطفى عبد الجليل لانتصار الثورة في ليبيا، تأكدت ربما التخوّفات التي ظهرت منذ انتصار الثورة في تونس، ثم في مصر، التي انبنت على «الطابع الإسلامي» (أو الإخواني) للثورات. إذ انحكمت الثورات بـ«جو» عام سابق، كان ينطلق من سيطرة إسلامية على النشاط السياسي، فرض التخوّف من سيطرتها بعد سقوط النظم. الآن، صار واضحاً أنّ الإسلاميين هم الذين يحصدون الحجم الأكبر في الانتخابات التي جرت ويمكن أن تجري. كان ذلك مدعاة للنشوة لدى الإسلاميين أنفسهم، الذين لم يجدوا في ذلك سوى معجزة إلهية. كما كان مدعاة خوف لدى تيارات علمانية وليبرالية، وكذلك لدى أقليات. وانبنى عليه موقف سلبي من الانتفاضات ذاتها، وصل إلى حدّ التشكيك فيها.
هل كانت نتيجة انتخابات تونس مفاجئة؟ بالتأكيد لا، كما لن يكون مفاجئاً حصد الإخوان المسلمين في مصر لموقع الحزب الأول في انتخابات مجلسي الشعب والشورى في الأيام القادمة، رغم أنّه يمكن أن يكون حجمهم أقل مما حصد «رفاقهم» في تونس.
فقد انحكمت الانتفاضات بوضع سياسي اتسم بضعف أو تلاشي القوى التي يمكن أن تعبّر عن مشكلات الطبقات المفقرة التي كانت أساس الانتفاضات، بالتالي كانت الانتفاضات عفوية، ولذلك أصبحت صياغة الوضع الجديد تخضع لوضع القوى «الفاعلة» في المعارضة، ولطبيعة «الانتصار» الذي تحقق. ولقد ظهر الإسلام السياسي قوة معارضة للنظم، ثم قوة مناهضة لـ«الإمبريالية» بعد الحرب الأميركية على الإرهاب. بالتالي، بتنا في وضع يبدو فيه الإسلام السياسي وارثاً لدور اليسار، وأصبح القوة الأساسية في العديد من البلدان، أو القوة التي لها رمزية تسمح لها بأن تحوّلها إلى قوة فعلية. هنا كان الإسلام السياسي هو المؤثر، وكان يبدو بديلاً حقيقياً لتلك النظم. ذلك ما جعل له قاعدة، تعززت بقوّة مالية كبيرة.
وحين حدثت الانتفاضة لم يكن دور الإسلاميين كبيراً، لا في تونس ولا في مصر ولا في سوريا. لكن كان يبدو واضحاً أنّ طبيعة المرحلة الانتقالية التي تحققت تحت سيطرة السلطة القديمة ذاتها (تغيّر أشخاص وبقيت البنية ذاتها)، وفي إطار استمرار سيطرة الرأسمالية المافياوية ذاتها، أنّ تجاوز «الأزمة» التي أفضت إلى نشوء الانتفاضات يفترض توسيع القاعدة السياسية للسلطة، الأمر الذي كان يفترض صياغة جديدة تقوم على تأسيس «شكل ديموقراطي» يستوعب «التعددية» التي يفرضها توسيع تلك القاعدة.
لذلك، بدا أنّ السياق الذي تسير فيه المرحلة الانتقالية سيوصل إلى بروز الإسلاميين قوة كبيرة، وكذلك بروز الليبراليين قوة أخرى. وهو الوضع الذي يشير إلى طبيعة القوى التي كانت هي الأبرز في السنوات السابقة. فتلك القوى هي التي تمتلك المال والإعلام، وكذلك الفاعلية والتواصل والديماغوجيا. ولأنّ المسألة تمحورت حول السلطة وطابعها الاستبدادي والفردي والوراثي، فقد ظهر أنّ المطلوب هو تشكيل دولة ديموقراطية تعددية. ذلك ما كانت كل قوى المعارضة، من اليسار إلى الإسلاميين، تركز عليه طيلة عقدين. وبالتالي أصبح يبدو أنّه الحل لأزمة مجتمعية عميقة. وفي ذلك الطرح، لم يكن من دور لليسار الذي من المفترض أنّه يعبّر عن مطالب الطبقات المفقرة، ويطرح البديل الذي يحقق مصالحها، وبالتالي لا يقف عند حد مركزة النشاط في ما هو ديموقراطي.
لذلك كان واضحاً منذ البدء أنّ النتيجة المنطقية لأيّ انتخابات تجرى بعد الانتفاضات، تتمثل في سيطرة تحالف الإسلاميين والليبراليين بالترابط مع بنية السلطة القديمة التي تمثل الرأسمالية المافياوية ذاتها. وتلك الصيغة هي «التوافق» بين استمرار سيطرة تلك الرأسمالية من جهة، وإدماج الإسلاميين لكونهم يمثلون المعارضة في السلطة، من جهة ثانية، وبالتالي، فهي حل الطبقة المسيطرة للحفاظ على سيطرتها. ولا شك في أنّ لك التوافق ممكن لأنّ «الخطاب الاقتصادي» للإسلاميين لا يختلف عن الخطاب الليبرالي. فهم مع اقتصاد السوق وحرية التجارة، والربح والحق المقدس في التملك الخاص، ورفض التأميم والمصادرة ودور الدولة الاقتصادي. وهم كذلك يميلون للتركيز على النشاط التجاري، ولا يميلون إلى النشاط في الزراعة أو الصناعة (وهذه الأخيرة كانت تعد مدخل كل الأفكار «الملحدة»، من ديموقراطية وقومية وشيوعية). يتوافق ذلك مع الشكل الراهن للرأسمالية التي تغلّب التجارة والخدمات والعقارات والبنوك على كل النشاطات الأخرى. وهو الشكل المفرط في ليبراليته و«تحرره»، وكان في أساس التهميش والإفقار الذي أفضى إلى حدوث الانتفاضات العربية.
هنا لا يكفي النظر إلى الإسلاميين من زاوية الخطاب «القيمي الأخلاقي» الذي يتصفون به، أو التركيز على «الدعوة الدينية»، إذ يؤدي ذلك إلى نقاشات وصراعات هامشية، المقصود منها هو التغطية على المشكلات المجتمعية العميقة. فكل ذلك هو تعبير عن مصالح طبقية تحكم هؤلاء، وتعبّر عن مصالح فئات اجتماعية كانت سيطرة المافيا الحاكمة تضيّق عليها، نتيجة احتكارها الشامل للاقتصاد. وذلك ما كان يوجد «الاحتكاك» بين الطرفين. وبالتالي لا بد من رؤية الشكل الجديد للسلطة من منظور توسيع القاعدة الطبقية للسلطة كذلك، رغم أهمية توسيع القاعدة السياسية، وأيضاً إدخال «الخطاب الديني» داعماً لسلطة تلك الرأسمالية المافياوية باسم المقدس.
بالتالي يمكن القول بأنّ ميزان القوى السياسي كان يقود إلى تبوء الإسلاميين موقعاً متقدماً في بنية السلطة الجديدة، بعد كل «التراث المعارض والمقاوم» الذي أصبحوا يملكونه من خلال «نضالهم» خلال العقود الثلاثة الماضية، وفي إطار التكوين العام الذي بات يحكم المنطقة نتيجة سنوات من إنهاض الخطاب الديني، وتفجير الصراعات الطائفية، وأيضاً انهيار الخطاب القومي وتلاشي الخطاب اليساري (الذي تحوّل سريعاً نحو اللبرلة). وإذا كانت الطبقات الشعبية التي ثارت لا تجد من يمثلها نتيجة عجز اليسار، فقد خاضت الانتفاضة وحدها بعفوية كبيرة. لكن حينما اقتربت الانتخابات لم يبادر جزء كبير منها إلى التسجيل، لأنّه لم يحس بأنّ شيئاً قد تغيّر (يبدو ذلك واضحاً في تونس). وإذا كانت نسبة المشاركين في التصويت هي 48%، فذلك يعني أنّ النسبة الأكبر لم تشارك في التصويت. بمعنى أنّ قوى الطبقات الشعبية الفاعلة في الانتفاضة لم تشارك في الانتخاب لأنّها أحست بأنّ السلطة لم تتغيّر، وبالتالي ستكون النتائج محدَّدة مسبقاً كما كان يجري في السابق. تلك نتيجة منطقية تلمّسها الحس السليم لدى قطاع كبير من الطبقات الشعبية.
في هذا الحساب، تكون حركة النهضة في تونس قد حصلت على 41% من 48% من الذين يحق لهم الانتخاب، أي نحو 20% من الذين يحق لهم الانتخاب. لكنّهم سيبرزون قوةً كبيرة وأساسية حصلت على المرتبة الأولى.
في كل الأحوال إذا كانت هذه النتيجة طبيعية في هذا الوضع، فإنّ من المهم تلمس أفق المرحلة المقبلةة. إذ إنّ الانتفاضات حدثت لأنّ كتلة كبيرة من الطبقات الشعبية لم تستطع العيش بفعل التمركز الهائل للثروة، والتشكيل الضيق للاقتصاد الذي أصبح ريعياً، وبالتالي فإنّ نهاية الانتفاضة لن تكون ممكنة إلا بعد تغيير النمط الاقتصادي بما يسمح بإيجاد فرص عمل كافية لحل مشكلة البطالة من جهة، وتحقيق توازن جدي بين الأجور والأسعار تسمح بعيش كريم، وتحقيق ما يسمح للطبقات الشعبية بالدفاع عن مصالحها في إطار نظام ديموقراطي حقيقي.
هل يملك الإسلاميون حلاً لكل ذلك؟
إذا كان حاجز الخوف قد سقط، وإذا كان الشباب قد دخل ميدان الصراع السياسي، فإنّ أي عجز عن حل تلك المشكلات سوف يفرض استمرار الصراع بغض النظر عن الدعم الممكن الآن لأي حزب من الأحزاب. ولأن الإسلاميين لا يمتلكون غير البرنامج الليبرالي ذاته (أي الريعي كذلك) فإنّ وصولهم إلى السلطة سوف يجعلهم في تناقض مع الطبقات الشعبية بالضرورة. وذلك ما سينعكس على طبيعة الديموقراطية التي يمكن أن يحققها هؤلاء (بالتحالف مع الليبراليين بالضرورة)، التي لن تخرج عن أشكال الديموقراطية التي تحققت في ظل حكم حسني مبارك، أو في المغرب أو الأردن.
هذا الوضع سيجعل التناقض واضحاً بين الطبقات الشعبية المفقرة والإسلاميين بخطابهم الثقافي الأخلاقي الشكلي، والليبراليين عموماً، وسيكون الصراع الاقتصادي الطبقي بارزاً إلى حدّ كبير، وهو محور الصراع، وليس الخطاب الديني ولا الخطاب الأخلاقي القيمي. وسيحكم الإسلاميون والليبراليون في سلطة لا تستطيع أن تمتلك القوة التي امتلكتها النظم الساقطة، وبالتالي ستكون ضعيفة ومهزوزة وقابلة للسقوط، في وضع يفرض أن تبلور الطبقات الشعبية تمثيلها السياسي المعبّر حقيقة عن مصالحها، في أفق انتفاضة جديدة.
إذن، سيبلع الإسلاميون النشوة التي يعيشونها، وسيكون انتصارهم الراهن هو مؤشر الانحدار وليس زهوة الوصول إلى القمة.
* كاتب عربي