هذا رجل لم يمرّ مروراً عابراً في التاريخ العربي المعاصر، بالرغم من تكثّف المؤامرات ضدّه من كلّ حدب وصوب. يُقال إنّ فلاناً عاش في عصر عبد الناصر. ويُقال إنّ ذلك الزعيم استمات في تقليد عبد الناصر. جورج حبش لم يكن يستطيع أن يتذكّره من دون دموع. وأثر عبد الناصر ومعاركه ضد الأنظمة الرجعيّة (قبل هزيمة 1967) لا تزال جروحها بادية في إعلام آل سعود الذين لم يغفروا له نجاحاته الشعبيّة وتقويضه للأنظمة الرجعيّة (أبلغني مستشاره سامي شرف أنّ عبد الناصر أوكل إليه منذ أوائل الستينيات ملف إسقاط النظام السعودي). لا يزال إعلام آل سعود يحاول أن يصفّي حساباتهم معه بعد أكثر من 40 سنة على وفاته. لم يجرؤوا عليه وهو حيّ، فاستطابوا الهواء بعد وفاته. ألقى بظلاله على أكثر من منطقة في العالم. تشاهد صوره مع أشهر رمز ثوري، تشي غيفارا، وتلاحظ أنّ عبد الناصر طغى عليه، وأنّه ـــــ في شريط الفيديو ـــــ يشدّك أكثر من الثائر القادم من أميركا الللاتينيّة.الكثير من مفردات السياسة العربيّة تعود إلى خطابه هو، والكثير من التصنيفات السياسيّة ترجع إلى تصنيفاته هو. كان عبد الناصر حالة نفسيّة مثّلت ـــــ قبل هزيمة 1967 ـــــ أملاً بإنعاش الكبرياء والعزّة العربيّة بعد عقود من التبعيّة المُذِلّة من قبل حكّام العرب للاستعمار. كان حبّ الناس لعبد الناصر حركة عفويّة قام بها الناس من تلقائهم: كانوا هم يعدّون صوراً له وملصقات لشخصه ولشعاراته، ولم يكونوا ـــــ كالحال اليوم ـــــ ينتظرون هطول الأموال الماليّة من آل سعود، أو من أتباعهم الصغار في الحركة الحريريّة، كي يقوموا بالواجب نحو سلالات حاكمة، أو سلالات طامعة بالحكم. أذكر في طفولتي كيف كان من حولي يقول: إنّ هذا السياسي سيئ لأنّه وقف ضد عبد الناصر. أذكر هدير الناس في شوارع بيروت في 1967 عندما أعلن تنحّيه عن الحكم، وأذكر هديرهم يوم مات في 1970.
لم تكن شخصيّته عاديّة، ولم يكن خطابه مشابهاً لخطاب من سبقوه ومن خلفوه. الذين عاشوا في كنف زعامته العالميّة الطاغية تأثّروا به بطريقة أو بأخرى. من يتذكّر حقبة الهزيمة الشنيعة في 1967، وهي غير الهزيمة الشنيعة في 1973، يذكر أنّ الناس في عدد من العواصم العربيّة تقاطروا عفويّاً إلى الشوارع مطالبينه بالعودة عن استقالته. أذكر الأهالي في بيروت في منطقة المزرعة والبسطة في حزيران 1967 كيف هتفوا بأثواب النوم: «أبو خالد يا حبيب، بدنا نحرّر تل أبيب». وأنا ابن السابعة، رأيت الكبار حولي يبكون بحرقة للمرّة الأولى. خضعت حقبة عبد الناصر لكمّ دعائي هائل من التشويه ومن التضليل ومن الأكاذيب. لم تكن ماكينة أنور السادات (الذي تمتّع بدعم غربي وإسرائيلي لا مثيل له) هي الوحيدة التي أمعنت في تهشيم صورة عبد الناصر، فالسلالات الخليجيّة كانت قد بدأت بالحملة قبل موت عبد الناصر، والحملة لم تتوقّف حتى اليوم. لكن الحنين الذي بدر عند البعض في انتفاضة مصر الشبابيّة نحو شخصيّة عبد الناصر ورموز المرحلة يحتّم إعادة التقويم.
يمكن أن نبدأ بأخطاء الحقبة وخطاياها حتى لا ننجرّ وراء العاطفة أو ضباب مرور الزمن. هناك أشياء لا تُغتفر في المسيرة الناصريّة. إنّ هزيمة 1967 لم تكن فقط هزيمة للجيش المصري أو النظام المصري، ولم تكن هزيمة فقط للجيشين الأردني والسوري. هي هزيمة لحقت بفلسطين وقضيّتها، ولحقت أيضاً بكل العالم العربي برمّته. إنّ التشكيلة المُهيمِنة في العالم العربي اليوم، التي شاركت الولايات المتحدة والسعوديّة في صنعها، هي من نتاج هزيمة 1967. استسلم جمال عبد الناصر في 1967 أمام من كان يسمّيهم قبل أسابيع فقط «الرجعيّة العربيّة»، وسمح للملك حسين رسميّاً بأن يفعل ما يشاء كي يستردّ «أرضه المحتلّة». (والملك حسين فهم السماح بأنّه إذن للاستمرار في تحالفه مع إسرائيل، كما أنّ عبد الناصر لم ينبذه حتى بعد مجازر أيلول). أي أنّ النظام الناصري أعطى شرعيّة غير رجعيّة ـــــ بمصطلح الخطاب الناصري ـــــ للمسار التصفوي للقضيّة الفلسطينيّة، كما أنّه كمّ أفواه المقاومة الفلسطينيّة بعد قبوله بمبادرة روجرز. والنظام الناصري أعلن نهاية حربه على معسكر الرجعيّة العربيّة بمجرّد انتهاء الحرب. هزيمة 1967 لا مجال لتسويغها وللحديث عن المؤامرات (الحقيقيّة) وعن سياسة المزايدة التي اتّبعها النظام السوري البعثي والأردني عشيّة الحرب، ما جرّ النظام الناصري إلى حرب لم يكن هو باعترافه قبل أشهر مستعدّاً لها. هذه العوامل تزيد ـــــ لا تقلّل ـــــ من مسؤوليّة النظام عن الكارثة التي لحقت بالعرب أجمعين.
أما عن القمع الذي التصق بسمعة النظام الناصري بعد وفاة عبد الناصر، فهذا موضوع مرتبط بمواضيع أخرى.
1) إنّ القمع الذي فرضه النظام على الشعب المصري ـــــ ليس فقط من ناحية اليمين الرجعي (الإخواني) أو الليبرالي (الوفدي) وإنما من ناحية اليسار الشيوعي والقومي ـــــ كان يمكن أن يكون ثمناً مقبولاً من الشعب المصري لو أنّ نتيجة الحرب عام 1967 تطابقت مع التبجّح الذي طبع الإعلام الناصري قبل الهزيمة، ولو أنّ فلسطين تحرّرت، جزئيّاً أو بالكامل.
2) لم يكن تقويم نظام عبد الناصر بعد وفاته (أو في حياته) موضوعيّاً أو حتى نسبيّاً. إنّ تقويم نظام عبد الناصر حدث على أيدي النظام الساداتي وعلى أيدي الجهاز النفطي العربي المتعاون معه، أو على أيدي الإعلام الغربي الذي لا يرى فيه إلا تهديداً جائراً لإسرائيل. أي أنّ تقويم النظام الناصري بعد أيّام فقط من وفاة عبد الناصر كان جزءاً من حملة سياسيّة جاهزة، ولم تكن الولايات المتحدة وإسرائيل بعيدتين عنها. جنّدت الحملة تلك الأقلام التي كانت لأسابيع وأشهر خلت تسيل الحبر والدماء للدفاع عن نظام عبد الناصر. تضمّنت تلك الحملة كمّاً هائلاً من الأكاذيب والاختلاقات والخدع. نستطيع أن نجزم اليوم بأنّ ما تضمّنه كتاب محمد حسنين هيكل عن قضيّة مصطفى أمين («بين الصحافة والسياسة»)، مثلاً، كان صحيحاً بالكامل، وخصوصاً أنّ هناك أكثر من اعتراف أميركي متأخّر بحقيقة الاتهام المصري (يمكن مراجعة ما ذكره كتاب توم ويينر، «إرث الرماد» عن الموضوع). وقضيّة مصطفى أمين ليست عابرة، وإعادة إطلاق أمين في الصحافة السعوديّة (جريدة الأمير سلمان، «الشرق الأوسط» بالتحديد) بعد إطلاق سراحه من قبل السادات وتسخير قلمه الرخيص لتهشيم النظام الناصري وشعاراته وقضاياه، كان ضروريّاً لدحض قضيّة كثيراً ما استُعملت ضد عبد الناصر. إنّ سجن مصطفى أمين شغل الصحافة العربيّة (والغربيّة) أكثر بكثير من خطف ناصر السعيد من الشارع في بيروت بأمر من الاستخبارات السعوديّة ـــــ هل تجرّأت صحيفة عربيّة واحدة على تناول الموضوع في حينه أو في حيننا؟
3) يتم عقد مقارنة بين النظام الناصري والنظام الأسوجي للتدليل على غياب الديموقراطيّة في مصر في عهد عبد الناصر، لكن المقارنة كان يجب أن تكون نسبيّة أيضاً، أي مع الأنظمة العربيّة القائمة في العصر الناصري. إنّ قمع النظام الأردني في الخمسينيات أو الستينيات فاق أكثر بكثير قمع النظام الناصري. وكان عبد الناصر يواجه حوارات طلاب الجامعات الذين لم يكونوا يتورّعون عن مجابهة سياسات نظامه. ذلك لا يعفي النظام من المسؤوليّة عن ظلم وقمع أكيد، ولكن عندما تكون الحملة ضد عبد الناصر من الأنظمة الشخبوطيّة تفتقر إلى الموضوعيّة.
4) إنّ النظام الساداتي ـــــ المباركي الذي أعقب نظام عبد الناصر كان يحتاج إلى تقويض كل الأسس الفكريّة والأيديولوجيّة للنظام الناصري من أجل تدعيم نظام قمعي جديد.
5) إنّ حملة النظام الناصري ضد الإخوان المسلمين أصبحت مع مرور الزمن مفهومة أكثر بعدما توضّح دور الإخوان في الحرب الباردة في خندق أميركا وإسرائيل. كما أنّ رجعيّي الإخوان التحقوا بمعسكر شيوخ النفط بمجرّد خروجهم من مصر. هل نذرف الدموع، مثلاً، لأنّ يوسف القرضاوي لم يتمتّع بحريّة التعبير في مصر في العهد الناصري (وهو لم يتمتّع إلا بحريّة طأطأة الرأس في قطر بعد لجوئه)؟
6) إنّ الإلحاح على ضرورة إجراء انتخابات «حرّة»، هدف مغرض لا يُستعمل إلا من أجل تقويض أنظمة معارضة لأميركا. أي أنّ فكرة الانتخابات «الحرّة» ليست بالضرورة أولويّة أو حتى حرّة بوجود المال النفطي والغربي المُنهمر.
والعفويّة والشعبويّة والشلليّة كانت جريمة لا تُغتفر هي أيضاً في بنية النظام الناصري. إنّ وضع عبد الحكيم عامر في أهم وأرفع المناصب كان خطأً قاتلاً وقام به عبد الناصر بسبب العلاقة الشخصيّة ـــــ أي الواسطة. أن يسأل جمال عبد الناصر عامر قبل «النكسة» عن قدرة الجيش المصري على صدّ العدوان وأن يجيبه الأخير بـ«برقبتي»، دليل على الحالة غير المهنيّة التي كانت تسود في قيادة الجيش المصري. كان عبد الناصر يستطيع أن يقصي عامر في 1961 بعد الانفصال (وكان عامر مسؤولاً عن الملف السوري)، لكنّه لم يفعل بسبب الارتباط العاطفي المحض. لم يكن هناك من يقلّ كفاءة عن عبد الحكيم عامر في القطر المصري كلّه.
لكن هناك من الميزات للنظام الناصري التي غابت وتغيب عن الثقافة العربيّة السائدة. لا نذكر أنّ رئيساً عربيّاً تحدّث عن الفقراء كما تحدّث عنهم جمال عبد الناصر. كان عبد الناصر غير مهادن في تطرّقه إلى وضع الفقراء في الدنيا، ساخراً حتى من منطق الرجعيّة الدينيّة التي تريد أن يكتفي الفقراء بوعود الآخرة. يروي عزيز صدقي (البطل المجهول الذي بنى الاقتصاد الصناعي الاشتراكي) كيف أنّ السياسة الاقتصاديّة المصريّة تعرّضت لتغيير جذري بعدما رأى عبد الناصر وجبة العامل اليوميّة من بصل وخبز. حزب البعث تحدّث عن الفقراء بعدما انضمّ أكرم الحوراني إليه، ولكن من يتصوّر زعماء البعث يتحدّثون عن الفقراء بالطريقة التي تحدّث بها عنهم عبد الناصر؟ كان الحديث عن العمّال والفلاحين والفقراء سائداً في الخطاب الناصري أكثر مما هو سائد اليوم في أدبيّات الحركات الشيوعيّة واليساريّة العربيّة. يمكن تعريض نقد التجربة الاشتراكيّة في مصر للكثير من الانتقادات: إنّ الإصلاح الزراعي لم يصل إلى كل الأراضي، أو أنّ بيروقراطيّة الدولة أعاقت الاستفادة من التأميمات، أو أنّ جموداً رافق تطبيق الإجراءات الاشتراكيّة، لكن تجربة التصنيع الحربي والمدني كانت مميّزة وساهمت في تقليل الفروق بين الطبقات. هل منكم ومنكنّ من ركب سيّارة «نصر» مزهواً؟
والإبداع الناصري كان في علمانيّة غير مُعلنة بالاسم. تحوّل الأزهر إلى جامعة تقدميّة تنتج نسقاً من الإسلام لا نجد له أثراً في نظامَي السادات ومبارك. عندما تستمع إلى مبارك وأبو الغيط (هل اشتاقت له جيزيل خوري، وماذا ستفعل بغياب محمد دحلان؟ هل ستنتحب؟) وهما يتحدّثان عن أهل السنّة، تتذكّر نبذ الطائفيّة والمذهبيّة في تلك الحقبة. الفضل له في إنهاء التكفير التقليدي للشيعة في المؤسّسة الدينيّة الرسميّة في الأزهر. أطلق محمود شلتوت، فقيه النظام، سلسلة من الآراء التقدميّة التي عزّزت التقدّم الذي أحرزته المرأة المصريّة بعد الثورة المصريّة (تتحدّث الزميلة ميرفت حاتم عن «نسويّة الدولة» في الحقبة الناصريّة). لم تكن أرض مصر في العهد الناصري لتقبل ببذور الفتنة التي زرعها حكم السادات ورعاها حكم مبارك. وكان عبد الناصر يستعين بشعبيّته العربيّة لنقد الرجعيّة الدينيّة العربيّة. كما أنّ عبد الناصر انتقد الديماغوجيّة الدينيّة للأنظمة العربيّة وسخر من «نوبة الدين» التي كانت تصيب الملك حسين بين الفينة والأخرى. أنشأ عبد الناصر إسلاماً تقدميّاً ومنفتحاً، مقابل الإسلام الرجعي المتزمّت الذي أنتجته الوهابيّة السعوديّة مُتسلّحة بأموال النفط. والطريف أنّ أميركا كانت في صف الإسلام ـــــ الرجعي، ولا تزال.
والحقبة الناصريّة شهدت أيضاً إنتاجاً ثقافيّاً غزيراً (في الأدب والشعر والقصّة والصحافة والنقد والسينما والمسرح). والمفارقة أنّ الحقبة الساداتيّة والمباركيّة التي أمعنت تهشيماً في الحقبة الناصريّة لم تستطع أن تنافس الكم الهائل من الإنتاج الثقافي الناصري، حتى في ذلك القسم الذي والى الأيديولوجيّة الحاكمة. أنتجت الحقبة الناصريّة صناعة ثقافة قوميّة لا تزال بعض عناصرها فاعلة في الثقافة القوميّة. هناك عدد من الفنانين والشعراء الذين يدينون بإنتاجهم للدعم الناصري: عبد الحليم حافظ كان ظاهرة العصر الناصري. طبعاً، لم تكن تلك الثقافة حرّة أو رحبة الصدر: يكفي أنّها قمعت أحمد فؤاد نجم وغيره، مع أنّ السادات كان أضيق صدراً. لم يكن نجيب محفوظ ناصريّاً، لكن أعظم إنتاجه تمّ في الحقبة الناصريّة، وهذا ينطبق على عدد من الكتّاب الذين امتهنوا بعد موت عبد الناصر ذمّه. وفن الدعاية السياسيّة ـــــ على علاته لأنّه كان يخدم النظام ـــــ كان متطوّراً جدّاً. لو كان لعبد الناصر فضائيّة خاصّة به، لأقام الدنيا ولوصلت رسالته الى خارج العالم العربي. إذا كان أمير قطر قد وضع بلاده على الخريطة من خلال «الجزيرة»، تستطيع أن تتصوّر ماذا كان عبد الناصر فاعلاً بها.
وهناك الناحية الشخصيّة. لم يمرّ على العالم العربي، قبله وبعده، من له من الكاريزما والسحر ما كان له. والكاريزما في حياة الشعوب يمكن أن تكون عبئاً ثقيلاً. الكاريزما يمكن أن تقود الشعوب إلى التهلكة، لأنّ نزوات الزعماء تتحوّل إلى سياسات وحروب مدمّرة. من حسن حظ العالم العربي أنّ واحداً من ملوك النفط وشيوخه لم يتمتّع بالكاريزما، ولا بالحدّ الأدنى. أنفق زعماء العرب، من الملوك والرؤساء وحتى رؤساء الحكومة في حالة رفيق الحريري، المليارات لاصطناع عبادة شخصيّة. وعقدة جمال عبد الناصر تحكّمت في عدد من زعماء العرب، من صدّام حسين إلى القذّافي إلى السادات. الأخير ضاق ذرعاً بفشله، وسرعان ما يئس من إمكان بناء زعامة على المستوى العربي، وبدأ ببناء زعامة تعتمد على الشوفينيّة المصريّة. نجح السادات في تصوير زعامته الضيّقة على أساس أنّها في مصلحة «الأمة المصريّة». عبد الناصر لم يبنِ زعامته القوميّة: هي فُرضت عليه من قبل الشعب وهو استعان بها في سياساته ومعاركه. عبد الناصر كان أيضاً من طراز مختلف من الزعامات: لا ينزع إلى التبجّح أو إلى مديح الذات أو إلى الديماغوجيّة لأنّه ـــــ خلافاً لمعظم الزعماء العرب ـــــ كان مؤمناً بما يقوله (من كان، مثلاً، يصدّق مزاعم الملك فهد عن الورع والتقى؟)، وكان يبدو للناس أنّه يؤمن بما يقوله.
وفي زمن استشراء مظاهر الفساد والثراء بين الحكّام العرب، تميّز عبد الناصر بتواضعه الجمّ (ألا تخجل صحافة آل سعود من التحدّث عن مظاهر الثراء لعائلة القذّافي؟ هل يظنّ آل سعود أنّ زعيماً واحداً سيتخطّى المستوى البذيء والفاحش من الثراء الذي وصل إليه أمراء آل سعود من نهب ثروات الشعب السعودي؟) ليس سهلاً أنّ عبد الناصر قيّد عائلته، وألزمها احترام حدود السلطة. إنّ مذكّرات أرملة عبد الناصر التي نُشرت في العام الماضي كانت جزءاً من الثقافة السياسيّة التي سبقت الانتفاضة، وقد تكون عاملاً محرّكاً في الرأي العام الذي لم يسبق له أن قرأ عن حقيقة وضع عائلة عبد الناصر. قارن الشعب المصري بين عائلة عبد الناصر وعائلة حسني مبارك (أو عائلة السادات). وقد زها عبد الناصر في خطاب له بأنّ عائلته لا تتميّز عن العائلات الأخرى، وأنّ والده كان يتقاضى مرتّباً لا يزيد على 25 جنيهاً مصريّاً وأنّه لم يرث السلطة، وأنّ أحداً لن يرثها بعده (كان عبد الناصر يغمز من قناة الأنظمة الرجعيّة وإن كان كلامه ينطبق اليوم على السلالات الجمهوريّة ـــــ من المُرجّح أن يكون بشّار الأسد آخر عنقود السلالات الجمهوريّة). مات عبد الناصر دون أرصدة سريّة وثروات وقوافل من السيّارات. إنّ الحياة العائليّة لعبد الناصر، من خلال مذكّرات زوجته، ألقت أضواء جديدة عليه. كان أكثر بساطة وتواضعاً مما نظنّ.
إعادة النظر في الحقبة الناصريّة ليست محاولة لإرجاع عجلة التاريخ. وليست تجربة في الحنين السياسي في زمن يصف فيه وضّاح شرارة في جريدة عائلة الحريري، «المستقبل»، الدبّابات الأميركيّة في بغداد بـ«الضروريّة». لكن الضخ الدعائي من المحور الرجعي عبر العقود، أخفى الكثير من الحقائق وأطلق الكثير من الأكاذيب عن عهد عبد الناصر. الخطاب العربي المائع بالنسبة إلى إسرائيل والسلام معها (وينطبق هذا على كل الأنظمة العربيّة دون استثناء) يذكّر بخطاب ماضٍ صارم ضد الصلح مع إسرائيل وضد الاعتراف بها. صحيح أنّ عبد الناصر قبل على مضض بمبادرة روجرز ـــــ وكانت تلك خطيئة للنظام، عندما كان مثخناً بالجروح ـــــ لكن مؤيّديه يقولون إنّ عبد الناصر كان ينوي أن يكسب الوقت للإعداد للمعركة المُقبلة. ويمكن أن نقول إنّ الجانب الإيجابي في حرب 1973 كان الفضل فيه يعود لإعداد النظام الناصري الدوؤب، وإنّ الإدارة السياسيّة التي حوّلت الحرب إلى هزيمة كانت ساداتيّة بالكامل.
التاريخ لا يعود إلى الوراء، وعبد الناصر لم يشكّل سلالة ـــــ ولا كان أولاده في الوارد. لكن المرحلة الحالية وتركة أنور السادات الثقيلة توجب العودة إلى التجربة الناصريّة، ليس بهدف التقليد وإنما بهدف استخلاص العبر، وخصوصاً في مجال الاقتصاد الوطني وخدمة مصالح الفقراء. حتى شعارات المرحلة (بالرغم من المفارقات الفاقعة في بعضها) كان لها بريقها عند الناس. كان هناك تشديد على العزّة والكرامة، فيما يرى الشعب العربي اليوم كلّ الزعماء العرب يذلّون أنفسهم أمام أي موظّف في أي سفارة غربيّة. كان عبد الناصر يحترم نفسه ويحترم موقعه من دون أن يعبد ذاته على طريقة الحكّام العرب. إنّ الصلف والغرور اللذين حكما أوّل خطاب لبشّار الأسد بعد اندلاع الانتفاضة في سوريا، ساهما في تعميق أزمته مع الشعب السوري، لكن عبد الناصر كان له ما ليس لأيّ من زعماء العرب: التمتّع بثقة الناس العاديّين.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)