لا تزال الانتفاضة في اليمن تراوح مكانها، دون أن يسقط النظام. ولقد جرى الاعتقاد بأنّ علي عبد الله صالح قد انتهى بعد عملية الاغتيال التي تعرّض لها، واضطر إلى الذهاب للسعودية للعلاج، لكنّه عاد لممارسة سياسته ذاتها، التي تتّسم بالتسويف اعتماداً على «ملل» المنتفضين، وإيجاد منفذ يسمح بسحق الانتفاضة. في الوقت الذي لا تزال فيه الحشود الهائلة كما هي بعد أكثر من ثمانية أشهر من الحراك الشامل، دون ملل أو تردد أو خوف.الشعب مصمم على التغيير، والسلطة متمسكة بمواقعها، والجيش منقسم بين الطرفين، وتبدو القوى التي تمتلكها السلطة متماسكة. لكن يبدو أنّ استراتيجية الانتفاضة تقوم على أن يسلم الرئيس السلطة ويرحل، أو يحاكم. لكن لماذا يرحل الرئيس بإرادته؟ وهل يقبل أن يحاكم؟ وكذلك هل يقبل أن يسلم السلطة لشعب يريد محاكمته؟ هنا يكمن مأزق الانتفاضة اليمنية.
ما توصل إليه الشباب المنتفض بعد انتصار الانتفاضة المصرية، ومن ثم بعد الشعور بأنّ تسلّم المجلس العسكري السلطة وقيادته المرحلة الانتقالية، هو أنّ ذلك ليس انتصاراً، وأنّ الشباب المنتفض هو الذي يجب أن يفرض البديل من السلطة، البديل الذي يقود المرحلة الانتقالية. لذلك شكّل هؤلاء مجلساً انتقالياً من شخصيات تم اختيارهم على ضوء أسس معينة. وهم لا يزالون متمسكين بأن يتسلم المجلس الانتقالي ذاك السلطة.
في المقابل، لم يرق اللقاء المشترك الذي يمثّل قوى المعارضة أن يعيّن الشباب الذي يقود الحراك المجلس الانتقالي، فلجأ إلى تشكيل مجلس وطني. وكان يبدو الخلاف بين الشباب وقوى المعارضة واضحاً في الموقف من المبادرة الخليجية، إذ رفضها الشباب وتعامل اللقاء المشترك معها، وقبل بها. ولذلك سنلمس أنّ قوى المعارضة تراوح بين دعم الانتفاضة والقبول بحل وسط ينطلق من المبادرة الخليجية.
المبادرة الخليجية تطرح حلاً ينطلق من أن يقود نائب الرئيس المرحلة الانتقالية، ويحضّر لانتخابات رئاسية وبرلمانية قريبة. نحن هنا نلمس تكرار الحالة التونسية المصرية، والهدف هو الحفاظ على بنية السلطة مع تعديل «ديموقراطي» فيها. أي الحفاظ على جوهر السلطة والمصالح التي تمثلها مع إنهاء احتكار آل صالح لها. وهنا يجري الحفاظ على الاتفاقات مع الولايات المتحدة والتبعية للسعودية، ومن ثم البقاء ضمن السياسة الخارجية ذاتها. في الوقت الذي لا يجري فيه تغيير النمط الاقتصادي، وفقط تغيير شكل السلطة لكي تكون «أكثر ديموقراطية»، فتستوعب قاعدة سياسية أوسع من خلال دور أكبر لبعض قوى المعارضة.
لا شك في أنّ المعارضة تحاول الاستفادة من الانتفاضة لتوسيع «الديموقراطية»، وتكبير القاعدة السياسية للسلطة. وربما توسيع الفئات المستفيدة منها. لهذا تناور، وتضغط، وتحاول كسب الموقف الأميركي والخليجي. وكذلك تحاول التمايز عن الانتفاضة وترفض منطقها، قابلة بتعديل بنية السلطة لا إسقاطها. فقد بدت أنّها ضد احتكار السلطة لا ضد طبيعة السلطة وما تعبّر عنه.
فرض ذلك الوضع «استعصاء» الانتفاضة، وطول أمدها رغم الملايين التي تتظاهر، وتستمر في الاعتصام منذ أكثر من ثمانية أشهر. فالشعب يريد سقوط السلطة، والرئيس يتلطى خلف بعض القوى العسكرية الموالية بشدة له، التي يقودها أبناؤه وأبناء إخوته، وتحكمها «عصبية قبلية»، ومصالح لا حدود لها.
ما طرحته الانتفاضة منذ البدء هو سلميتها، ورغم انضمام قطاعات عسكرية مهمة، إلا أنّ الشباب رفض أن تستخدم في حرب ضد قوات صالح، ولذلك باتت تحمي المتظاهرين فقط. وحتى حينما انضمت القبائل المسلحة، ظل منطق الشباب ينطلق من عدم استخدام السلاح. لكن كيف يمكن أن تسقط سلطة تقوم على القوة والعنف دون قوة وعنف؟ الشباب الثوري يريد تأسيس معادلة جديدة تنطلق بأنّه من خلال سلمية الثورة سيسقط السلطة. هل سيتحقق ذلك؟ وإذا كان الشباب يرفض التدخل الأميركي الخليجي، ولقد رفض الصيغة التي طرحها هؤلاء للحل، إلا أنّه يريد الضغط على علي عبد الله صالح من أجل الرحيل وتسليم البلد للمجلس الذي اختاروه هم. وتلك معادلة صعبة، لا إمكانية لها، لأنّ هؤلاء يريدون تمرير الحل الذي يطرحونه، فهو الذي يخدم مصالحهم. ولقد فرح الشباب بمحاولة الاغتيال التي تعرّض لها، وظنوا بأنّه انتهى، لكنّه عاد لهم بعنف أشدّ، وبميل لسحق الانتفاضة أكبر مما كان قبلاً.
لذلك نلمس الاستعصاء الذي يحكم الانتفاضة، رغم الإصرار الشديد من قبل الشباب على الاستمرار بها إلى النهاية، التي تعني إسقاط النظام. لكن كيف يمكن أن يسقط النظام؟
ما يبدو واضحاً هو أنّ المنطق الذي يحكم الانتفاضة (والانتفاضات العربية الأخرى، ما عدا ليبيا) هو أنّ الشعب يستولي على الشارع، وينتظر سقوط النظام. وها هو الشعب اليمني يستولي على الشارع، ونلحظ الاستعصاء الذي يطيل أمد الانتفاضة، ويربط انتصارها بـ«تنحي» الرئيس، أو الانقلاب عليه من داخل السلطة ذاتها. وإذا كان شباب اليمن حاول الاستفادة من التجربة المصرية لجهة فرض سلطة بديلة، فإنّه لم يجد طريقاً مختلفاً في إسقاط النظام، إذ لا يزال يمارس الاستراتيجية ذاتها التي حكمت الانتفاضة المصرية، أي احتلال الميدان وانتظار السقوط. والحسم المسبق بحتمية سلمية الانتفاضة. إذاً، كيف سيسقط النظام؟ وخصوصاً حينما يعتقد الرئيس بأنّه قادر على الحسم، أو أن لا خيار أمامه إذا سقط إلا المحاكمة والسجن أو القتل. وفي الوقت ذاته يمتلك القوة العسكرية القادرة على حمايته ضمن تلك المعادلة القائمة التي أشرنا إليها للتو؟
تلك هي المعضلة الآن. وبالتأكيد لا ينحكم حلها لعنصر الملل، أو الاقتناع بالرحيل، أو الخطف من قبل الدول الإمبريالية (عبر مجلس الأمن). ولقد طلب علي عبد الله صالح ضمانات خليجية وأوروبية وأميركية، لكن لا أظن أنّه كان جاداً.
لا شك في أنّ الانتفاضات العربية (ما عدا ليبيا) مالت إلى اتخاذ شكل السيطرة على الشارع، والتأكيد على «اللاعنف»، وبالتالي على «اختفاء» السلطة دون حاجة لـ«الهجوم». كان هذا الدرس هو الذي يُتلى على الناشطين منذ انهيار النظم الاشتراكية، التي بدا انهيارها مثالاً واضحاً لطريق التغيير. وأصبح الشكل الأرقى لبرامج الانتقال من الاستبداد إلى الديموقراطية. وهو الدرس الذي عملت النخب الشبابية العربية على تطبيقه. وإذا كانت اعتقدت بأنّه نجح في تونس ومصر، ثم تبيّن أنّ الانتفاضة لم تنتصر بعد. وما حاول شباب اليمن تجاوزه عبر عدم قبول بديل من داخل السلطة، إلا أنّ هؤلاء لم يجدوا طريقاً آخر غير الطريق ذاته في ما يتعلق بسقوط النظام. أي أنّ آليات التغيير ظلّت كما هي. أي أن يرحل الرئيس ويسقط النظام. أن يرحل بإرادته.
ليس من خيار في هذا الوضع سوى انتظار «تفكك» السلطة وتحوّل جزء منها لامتصاص النقمة العامة من خلال تغيير شكلي في السلطة، كما لاحظنا في تونس ومصر، أو الانقضاض على السلطة وانتزاعها، وبالتالي فرض البديل الذي يمثل الشعب. الخيار الأول يُبقي الطبقة المسيطرة، والبنية الصلبة في السلطة مع تعديل شكلي فيها، والخيار الثاني هو الذي يمكن أن يحقق تغييراً أعمق، وربما يفتح على تغيير طبقي لطبيعة السلطة.
هل السلمية غير مناسبة لتحقيق التغيير في بلدان كبلداننا؟ ربما تشير تجربة اليمن إلى ذلك. والمسألة هنا تعيدنا إلى الفهم «التقليدي» لتسلّم السلطة، إذ لا بد من الزحف على «قصر الشتاء»، ومن الضروري أن تتحوّل الانتفاضة الشعبية في لحظة إلى انتفاضة مسلحة لكي تكسر قوة السلطة. فالطبقة المسيطرة ستدافع عن سلطتها بالضرورة، وهي تمتلك القوة لذلك، ولقد جاء «التغيير» من داخل هذه القوة كما حدث في تونس ومصر، لكن لم يكن ذلك سوى تبديل في «الوجوه» خدمة للطبقة المسيطرة ذاتها. وهذا ما لا يبدو أنّه ممكن في اليمن رغم انشقاق الجيش، وبالتالي يصبح لـ«الخارج» دور أساسي في فرض التغيير، لكن صيغة هذا «الخارج» مرفوضة من قبل الشباب. وبالتالي، سيبدو الوضع كأنّه في مأزق: إما تغيير شكلي أو استعصاء طويل. وما يبدو هو أنّ الشباب مصمم على الاستمرار في الصراع، ربما على أمل أن تنهار السلطة ذاتها، ويُفرض الحل الذي يطرحونه.
ما دامت هناك طاقة ثورية فلا بد من الاستمرار، هذا مؤكد.
* كاتب عربي