ينسب إلى لويس التاسع، ملك فرنسا، أنّه استخلص بعد فشل حملته الصليبية السابعة (1248م)، ووقوعه أسيراً مع أخويه وزوجته لمدة شهر في دار إبراهيم بن لقمان، قاضي قضاة المنصورة في مصر، أنّ من الصعب هزم المسلمين عسكرياً لأنّ عقيدتهم الدينية متينة، وأنّ الوسيلة الوحيدة لقهرهم تكمن في استثمار عناصر خلافاتهم وتناقضاتهم. الأمر الذي سيجري التعبير عنه بعد قرون، بالشعار الكولونيالي البريطاني الشهير: فرّق تسُد. ولعل نابليون بونابرت قد سبق البريطانيين في استخدام ذلك الشعار، عندما شنّ حملته العسكرية على مصر، في نهاية القرن الثامن عشر، إذ هادن الصوفيين المصريين، وتردد إلى احتفالاتهم، وحاول عزل المماليك عن الشعب المصري عبر الحديث عن أصولهم غير العربية. كذلك كلف جهازاً من الأقباط ونصارى الشام بجمع الضرائب، وأنشأ خليفته كليبير ميليشيا من المسيحيين المصريين بزعامة المعلم يعقوب، وهي أشبه بجيش لحد في جنوب لبنان. علماً أنّ الكنيسة القبطية رفضت التعاون مع المحتل الفرنسي، وألقت الحرم على يعقوب. وحتى تكتمل الصورة لا بد من الإشارة إلى الوجهاء المسلمين الذين تعاونوا مع المحتل الفرنسي، ومن بينهم كبار المشايخ العرب ممن انتظموا في ديوان القاهرة.ويمكن أن نقف على أثر القاعدة التي رسمها لويس التاسع في شطر كبير من تاريخنا الحديث، وفي عمق ثقافتنا السياسية. ففي مطالع القرن الماضي مثّل تي. إي لورانس ألوية عربية بزعامة الشريف حسين لقتال المسلمين العثمانيين، ولمصلحة البريطانيين، فأدى «نضال» تلك الألوية إلى ارتسام خريطة «سايكس بيكو»، وقيام الدويلات العربية ودولة إسرائيل وضياع فلسطين. ولا يزال ورثة «الشريف» المذكور يواصلون مسيرته، تارة عبر تصفية المقاومة الفلسطينية في أيلول الأسود في 1971، وتارة أخرى عبر إعلام الإسرائيليين بموعد حرب أكتوبر ـــــ تشرين الأول في 1973، أو عبر التحذير من الهلال الشيعي بعد احتلال العراق لمصلحة الهلال الأميركي ـــــ الصهيوني، وأخيراً عبر لسع الرئيس بشار الأسد من الخلف، في خضم الاضطرابات التي تشهدها سوريا.
بيد أنّ الأثر الأهم والأقوى لخلاصة لويس التاسع يكمن في ثقافتنا السياسية. فنحن لا نزال ننظر إلى أنفسنا بمرايا غربية، أي بوصفنا عناصر متضاربة ومتصارعة: شيعة وسنّة بدلاً من مسلمين، وبوصفنا اثني عشرية وزيدية وفاطمية ودرزية وإسماعيلية وفرق أخرى داخل الشيعة، وبوصفنا حنابلة وشافعية ومالكية وحنفية وصوفية وفرق أخرى داخل الإطار السني، وبوصفنا أكثر من 12 طائفة وفرقة مسيحية. ومن بعد نحن عرب وأكراد وكلدان وأشوريون وشيشان وبربر وسوننكي وولوف وتكارير... الخ، داخل الفضاء السياسي الذي يضم العالم العربي.
ولعل معظم الخطر يكمن في مراكزنا البحثية التي تستخدم عناصر التفتيت كمفاتيح منهجية في إنشاء الأبحاث والدراسات، وبالتالي تشكيل تركة ثقافية تنطوي على كوابح صلبة، أمام مشاريع النهوض على أسس توحيدية أو مكافحة للثقافة السياسية التفتيتية. ويمكن القول إنّ موازنات مالية أجنبية معتبرة، تبذل للسهر على دوام هذه الثقافة وتهميش محاولات التصدي لها، ومساعدة معظم النخب العربية على الدفاع عن التفتيت الطائفي والاثني بوصفه تعددية، وعن التراشق الطائفي بوصفه نعمة الرأي والرأي الآخر، وعن الانشقاقات الإثنية بوصفها جزءاً لا يتجزأ من حق تقرير المصير. بل نصل أحياناً إلى حد تكريم مستشرق من طراز ارنست رينان، كان يجادل في أنّ الفلسفة العربية لا وجود لها، بدليل أنّ ابن رشد وابن خلدون وابن سينا وغيرهم، من أصول غير عربية. بكلام آخر كان يرفض صيغة الاندماج والتعايش الحضاري العربية والإسلامية التي أنجبت هؤلاء الفلاسفة، وغيرهم.
تطيح ثقافة التقسيم الطائفي والإثني النتائج الإيجابية لقرون من التعايش المشترك والناجح في سياق الحضارة العربية الإسلامية، التي لم تعرف مجزرة شبيهة بمجزرة سان بارتليمي الطائفية في فرنسا. فقد أسهم التعايش الناجح في حماية المكوّنات غير العربية وغير المسلمة في هذه الحضارة، عبر شروط الاندماج الميسرة أو التعايش الخلاق، في إطار الاختلاف الديني. ومعلوم أنّ قرون التعايش والاندماج الطويلة ساعدت على أن يستنبط العرب والمسلمون حلولاً ناجحة لمشاكلهم الداخلية، وبالتالي أن يسودوا أكثر من نصف العالم، قروناً طويلة.
وإذا كان مفهوم الأقليات والأكثريات الإثنية والدينية المتصارعة رائجاً في العالم العربي، فهو النقيض للتعايش الناجح في إطار حضارة واحدة. ولعل رواجه جزء لا يتجزأ من علاقة التبعية التي تربط العرب بالقوى المسيطرة على هذا العالم. فالتابع يسأل عن عناصر تبعيته، وفي المقابل لا يسأل أحد المتبوعين عن جرائمهم (إبادة الهنود الحمر وحروب فيتنام والهند الصينية والعراق... الخ) ولا يسألون عن انقساماتهم، بل يبدو الحديث عن الأصول الأجنبية لأكثر من 18 مليون فرنسي ضرباً من الهرطقة، في دولة تملك وسائل رادعة لكل من يجرؤ على فتح ملف الأقليات والأكثريات داخل ترابها الوطني، وحيث تغيير الاسم والسحنة، وكل ما يمت بصلة الى الأصل الأجنبي، وسيلة ضرورية لاتقاء نتائج التمييز الذي لا يفصح عن اسمه.
في سياق هذه الثقافة السياسية التي تعد بصراع أبدي بين الأقليات والأكثريات، جرى التعرض للحكم البعثي في العراق، وتحطيم تجربة صهر المجتمع العراقي بعناصره المختلفة، ومن ثم لبننته وتطييفه. وفي ظل هذه الثقافة يحاكم النظام البعثي في سوريا بوصفه طائفياً، ويجري السكوت عن طائفية الأنظمة العربية المحمية بالمظلة الأميركية والغربية.
وإذ يصبح التفتيت الطائفي والاثني في اللاوعي العربي الإسلامي وسيلة حاسمة لقياس السلوك ولتقويم المواقف، فإنّ كل عمل تأتي به دولة ما أو منطقة عربية أو إسلامية، سيكون بالضرورة طائفياً وإثنياً، بل ستكون صفته التفتيتية غالبة على كل الصفات الأخرى. هكذا كانت الأقليات الطائفية متهمة في التاريخ العربي والإسلامي بموالاة الغزاة الأجانب، وإن كانت هذه التهمة ظالمة في حالات كثيرة، فإنّ الأقليات نفسها مكروهة اليوم، لأنّها تقاتل ولا تطيع الغزاة والمحتلين الأجانب، أي لسبب معاكس تماماً، فنرى انقلاباً مذهلاً للأدوار.
والواضح أنّ شعار الهلال الشيعي قد أطلقه عرش عمان، الذي نشأ لمكافأة العائلة الملكية الأردنية على الخدمات التي قدمتها إلى بريطانيا، خلال الحرب العالمية الأولى، في القتال ضد العثمانيين المسلمين، الذين لم يلغوا الخلافة الإسلامية بعد. وفي الواقع يأخذ الملك الأردني على الشيعة قتالهم للاحتلال الأميركي والإسرائيلي، وانتظامهم في محور صدامي مع أعداء الأمة العربية والإسلامية برفقة حركة حماس. ولعله يفضل أن ينتظموا تحت رايته في التبعية للأجنبي، وأن يكونوا حيث أريد لهم أن يكونوا ظلماً، أنصار الغزاة والفاتحين الأجانب. علماً أن دواعي الإنصاف تقتضي القول إنّ ما ينطق به الملك الأردني بصوت عال، يفكر فيه معظم الرؤساء العرب بصوت منخفض.
تبقى الإشارة الى انشقاق الإثنيات المسلمة عن العرب المذهولين لذلك، بعد قرون من التعايش. وفي ظني أنّ الذهول يتبدد تماماً عندما نعود الى الوراء، فنرى أنّ مجمل الإثنيات غير العربية تعايشت مع العرب وانتصرت لقضاياهم، وكانت شريكة لهم عندما كانوا سادة العالم. أما اليوم حين يوالي معظم العرب الأجانب، فمن غير المنطقي أن يطلبوا من شركائهم أن يكونوا أقل مرتبة منهم في التبعية والولاء للأجنبي أو تابعين للتابع.
خلاصة القول إنّ الثقافة السياسية العربية التي تكوّنت في إطار الغلبة والتبعية للأجانب، ما انفكت تحمي الموقع العربي التابع والمغلوب، سواء عبر تأبيد مفهوم الأقلية والأكثرية الإثنية والطائفية العبثي، أو عبر الحكم القاطع على الناس وفقاً لانتمائهم، لا لما يقولون ويفعلون. وبناءً عليه، ليس مفاجئاً اتهام المقاومة اللبنانية، التي سجلت أول انتصار جدي على الصهاينة، بأنّها مذهبية، وليس مستغرباً اتهام النظام السوري، الذي يمثل القلعة الأخيرة في الدفاع عن قيم العروبة والسيادة والاستقلال والامتناع عن طاعة الأجانب، بأنّه أقلوي. ففي الحالتين، يعيد السوريون واللبنانيون، فضلاً عن حركة حماس، النظر في معادلة الغالب والمغلوب، وثقافة التابع والمتبوع. وفي الحالتين، يسلطون جميعهم أضواءً كاشفة على الأغلبية الساحقة من الأنظمة العربية التابعة والذليلة والمُهانة.
* كاتب لبناني مقيم في باريس