من باكستان، إلى لبنان أخيراً وليس آخراً، يستمرّ فتح ملف محور «الممانعة». تحضر في ذاك الملف كلّ العناوين والاتهامات والممارسات والتهديدات والعقوبات، التي تؤكد جميعها أنّ الملف لن يُغلق في وقت قريب. الولايات المتحدة خصوصاً، وبالأصالة عن نفسها، وبالنيابة عن إسرائيل وحلفائها العرب، تضع على الطاولة الآن مجمل «المآخذ» على كلّ من سوريا وإيران وحلفائهما في لبنان وفلسطين (باستثناء العراق نسبياً الذي كانت فيه نقاط التقاطع مع إيران توازي أو تفوق نقاط التباين). فتح هذا الملف أثمر حتى الآن وضع محور «الممانعة» في موقع دفاعي. يمكن القول أيضاً، بكلّ تأكيد، إنّ الولايات المتحدة وحلفاءها، يسجّلان المزيد من النقاط لمصلحتهما على أمل أن يتحقق لهما الانتصار بالنقاط، إذا تعذّر توجيه «ضربة قاضية».
خطاب السيّد حسن نصر الله الأخير شاء أن يعطي انطباعاً مغايراً. ربما كان الهدف منه رفع المعنويات. نعم، رفع المعنويات أمرٌ مطلوب، بل هو واجب كلّ من يخوض معركة.
ومع ذلك، فلا بدّ، في العمق، من الانطلاق من الوقائع الفعلية، هنا وهناك، في سبيل بناء الدفاعات، وفي الإعداد للمواجهة في صورها القائمة والمتوقعة، القريبة والبعيدة.
تتميّز الهجمة الأميركية الراهنة بتوسيع نطاق القوى المشاركة فيها. الولايات المتحدة لم تعد وحدها التي تنفرد وتتفرّد. ثمّة دور أوروبي بارز في المخطط الأميركي. أوروبا «الهرمة» والمستبعدة في مشروع «الشرق الأوسط الواسع» الذي قاده بوش الثاني و«المحافظون الجدد» في إدارته، باتت اليوم شريكاً يُحسب له حساب واضح في التخطيط والتنفيذ والمغانم.
ملامح الهجمة الأميركية الجديدة بدأت بالتبلور فعلياً، منذ أواسط العقد الماضي، بعد «إخفاقات» الغزو الأميركي للعراق، وتقديم خلاصات لجنة بيكر ـــــ هاملتون إلى الإدارة الأميركية السابقة. ومنذ ذلك التاريخ أيضاً، وُضع الأساس لإنهاء الالتباس والتباين مع الأنظمة الحليفة للولايات المتحدة التي تدير أنماط حكم شديدة التخلف والاستئثار والرجعية. يتجسّد ما نشير إليه هنا، في الدور النشيط الذي باشره «مجلس التعاون الخليجي» بشأن البحرين أوّلاً، ثم في دور «جامعة الدول العربية» بشأن الأزمة السورية راهناً.
مكّنت تلك المراجعة الولايات المتحدة الأميركية من أن تنهي نسبياً، مرحلة «الإخفاقات»، وأن تبدأ، فعلياً، مرحلة النجاحات. إنّها الآن تنسحب عسكرياً وتعود سياسياً، لكن يجب القول أيضاً إنّ من يساعدها على تخطّي صعوباتها وخسائرها، إنّما هم خصومها أنفسهم. فواشنطن التي تلقّت ضربة جديّة في انهيار نظامين حليفين لها أحدهما (المصري)، ركن أساسي من أركان خططها وتحالفاتها، ما لبث أن قادت حملة هجومية مضادة. وتستخدم واشنطن في تلك الحملة الشعارات والمطالب الشعبية نفسها. وتستخدم أيضاً في تشويه الحقائق وتمويه الأهداف، شبكة هائلة من الدول والمؤسسات الدولية والإقليمية والسياسية والإعلامية. وترتكز في جزء أساسيّ من حملتها على أخطاء الفريق «الممانع» وتقليدية أساليبه، وخصوصاً تفرّده وانفراده، وعجزه عن الانتقال إلى تكتيكات مواجهة تجنح نحو المشاركة والإصلاح بدل القمع والتشدّد، في التعامل مع المعارضة الداخلية. فالمعارضة السورية تتباين مواقفها بشأن أمور عدّة داخلية أو خارجية، لكنّها تتفق جميعاً، على عدم الموافقة على الحوار مع النظام الذي يتحمّل هو، قبل سواه المسؤولية الأساسية عن هذه القطيعة. والوضع الداخلي في إيران قد تصبح تناقضاته وصراعاته وعدم قدرة النظام هناك على إيجاد الصيغ المقنعة للمشاركة والمعارضة وحرية التعبير، مدخلاً أيضاً لدور خارجي يبقى متربّصاً. وسيكون تأثير الخلل الداخلي أكثر فداحة من التدخل الخارجي سواء كان بصيغة عمل عسكري أو بصيغة عقوبات وحصار.
لا يحدّ من جموح اندفاعة الحملة الأميركية إلا الموقفان الروسي والصيني. لقد فاجأ تصلّب هذين الموقفين الخطط الأميركية. كانت واشنطن تحسب أنّ روسيا خصوصاً، لن تذهب إلى ذاك الحدّ في دعمها للنظام السوري، وفي تعاونها وتواطئها مع النظام الإيراني. استبعاد روسيا واستمرار محاولات استهدافها أمنياً من الخارج والداخل، عزّزا نزعة الاستقلال والمواجهة لدى قيادتها السياسية، ونزعة التطلّب والمنافسة لدى كتلها الاقتصادية النامية. أما الصين، فإلى ذلك، يغريها، ما تلمسه من ضعف لدى الولايات المتحدة التي تتراجع قدرتها على الردع، وتتزايد على نحو ملموس أزماتها الاقتصادية.
لا شك أنّ الدعم الروسي نقطة قوّة لمحور الممانعة. هو ضروري، لكنّه غير كاف. لا يُستبعد أن يجري التأثير في الموقف الروسي عبر الترغيب أو حتى الترهيب. معالجة الخلل الداخلي تبقى الأساس. إذا كان لم يفت الأوان بعد، مطلوب من النظام السوري، والإيراني أيضاً، اتخاذ خطوات إصلاحية ذات مغزى فعلي وجديّ وملموس وسريع. لا تكون مواجهة قادة السعودية ودول الخليج بالقول «نرضى في بلدنا ما ترضَوْنه في بلادكم»! تكون المواجهة الفعلية بمعالجة النزف الداخلي الذي تحوّل أداة ثمينة وفعالة وربما، قريباً، قاتلة، في أيدي الأعداء والخصوم.
وللبنان، بالطبع، نصيبه الكبير من الحملة الأميركية. فحلفاء محور الممانعة فيه، وخصوصاً «المقاومة الإسلامية» وسلاحها، هم هدف مستمر لواشنطن وفريقها الخارجي والعربي، والإسرائيلي خصوصاً. لقد نجح هؤلاء الحلفاء في منع استخدام الموقف الرسمي اللبناني في المعركة ضدّهم. لكنّهم انتقلوا أيضاً إلى الموقع الدفاعي في مسائل تمويل المحكمة الدولية والموقف من الأحداث في سوريا والوضع الأمني الذي تتزايد ثغره العامة وعلى نحو خاص في منطقة الشمال اللبناني، فضلاً عن الوضع الاجتماعي ـــــ الاقتصادي المتردّي، الذي تزداد انعكاساته السلبية في ظلّ استمرار سوء المعالجة.
لا شكّ أنّ خصوم الحكومة الحالية يتعجّلون رحيلها. ثمّة بينهم من لا يقف عند أيّ خطوط حمراء في ما يتعلق بمصلحة البلاد والشعب اللبناني، في الحفاظ على الحدّ الأدنى من الاستقرار ريثما تنتهي العاصفة.
هذا الواقع يملي على الأطراف الأكثر حرصاً، اعتماد مقاربة مسؤولة في إدارة البلاد، وفي التعامل مع الملفات الخلافية. لا بدّ بطريقة ما، من سحب الصاعق التفجيري الذي يمثله موضوع تمويل المحكمة الدولية. ليست تلك دعوة إلى التنازل، بل هي دعوة إلى المرونة، وإلى عدم إدخال البلاد في نزاعات لن يكون طابعها السياسي هو البارز، مع أنّه هو الأساس، بل طابعها المذهبي.
لا بدّ من القول في امتداد ذلك، إنّ الوضع الناشئ في سوريا، الذي سيستمرّ، إلى فترة ليست قصيرة، متوتراً ومتصاعداً، يملي على القوى السياسية اللبنانية جميعها، وفي المقدّمة منها القوى المتحالفة مع سوريا (وهي الآن التي تدير السلطة في لبنان)، موقفاً جديداً. ولا شكّ أنّ من العناصر الأساسية لهذا الموقف، ودون الإخلال بالأساسيات، إيلاء أهمية أكبر لضبط التناقضات الداخلية، ومنع تفجيرها لحسابات فئوية داخلية، أو تحريض أميركي.
* كاتب وسياسي لبناني