لم تكن «أحداث حمص» قبل فترة (اقرأ: مجازر حمص الطائفية المستمرة حتى لحظة كتابة هذا النص بأشكال مختلفة) خارجة عن سياق الصراع ضد النظام في سوريا. فالصراع مثله مثل تجلياته الدموية المتأخرة، كان طائفياً بقدر ما كان «طبقياً». بكلمة أخرى، كان صراعاً مركّباً منذ البداية، وهو ما لا يريد بعض الواهمين ابتلاعه حتى الآن. فهؤلاء لا يزالون، رغم كل شيء، يحاججون بأنّ الصراع لم يبارح مربعه «الطبقي» إطلاقاً، أي انّه بحسبهم نضال ضد السلطة المافياوية بوصفها كذلك فحسب. من الممكن طبعاً أن يأخذ صراع الطبقات الشعبية ضد السلطة التي تنهبها شكلاً مماثلاً، غير أنّ ذلك يتطلب أن تكون تلك السلطة مجرد تعبير عن مجموعة مصالح وامتيازات وانحيازات طبقية ضد الفقراء ومحدودي الدخل (وهي ليست كذلك تماماً). فذلك تحديداً هو التوصيف الكلاسيكي لصراع الشعب (أو جزء كبير منه) ضد السلطة. لكن عندما يكون النظام الذي نناضل «لإسقاطه» أو تغييره جذرياً، أكثر من مجرد سلطة مقطوعة الجذور (كما في حالتي مبارك وبن علي)، لا يعود الصراع ضده كلاسيكياً وبسيطاً إلى هذا الحد. ولو كان بسيطاً حقاً، وكلاسيكياً بالمعنى الذي يرطن به البعض، لأمكن حشد أوسع عدد ممكن من الناس وراءه. غير أنّ امتناع كتل جماهيرية كبيرة عن الانخراط في فعل الصراع (حتى الآن)، يعني أنّها تدرك ببساطة حجم تعقيداته، وتدرك أكثر أنّ انخراطها ذاك لن يقدم أو يؤخر كثيراً في سيرورة صراع جماعاتنا الأهلية. قد تبدو العبارة الأخيرة (جماعاتنا الأهلية) ملتبسة بعض الشيء و«طارئة» على وعي السورييين لذاتهم، ولطبيعة التشكيلات الاجتماعية التي ينخرطون فيها. وهي تشكيلات شبه بدائية بالمعنى الذي يعرفه اللبنانيون، ويرتبون في ضوئه تموضعاتهم السياسوية المبتذلة. والمؤسف في الأمر أنّنا لم نكتشف مدى تأثير تلك الأنساق البدائية على وعينا الجمعي إلا عندما «بدأت الدولة بالتفكك»، تاركة «للنظام الذي فكّكها» وللمجموعات (اقرأ: مسلحو الحراك) التي تحاربه، أمر إعادة صياغة الوظيفة الاجتماعية للتشكيلات أعلاه. فمثلاً، قبل أن يباشر الجيش مسنوداً «بميليشيات النظام» وأمنه، حملته العسكرية الأخيرة، كانت السيطرة على الأرض معقودة «بشكل شبه كامل» لمسلحي الانتفاضة (وهؤلاء «مواطنون عاديون» حملوا السلاح لا «منشقون عن الجيش»، كما تشيع الرواية السائدة والمبتذلة). والسيطرة على الأرض هنا، لها طابع رمزي عنوانه تقليص هيمنة النظام على المجال الاجتماعي إلى حدود معينة، هي حدود تسيير حياة المواطنين فحسب. أما وظائف الأمن والشرطة فباتت خارج السياق تماماً، إلا في «المحافظات الموالية»، أو في تلك التي انتفضت وأعيدت السيطرة عليها بقوة الجيش الفاشية. تخيّلوا مثلاً أنّ الأمن لم يعد قادراً في فترة من الفترات على مغادرة مفارزه، خشية تعرضه لكمائن المسلحين التي تنشط ليلاً. وإذا حصل وتحرك، لا يفعل ذلك إلا عندما تسانده قوة من الجيش. وتلك الظاهرة لا تعبّر عن تآكل قبضة النظام الأمنية فحسب، بل أيضاً عن إعادة صياغة فعلية لدور الجيش، بما يتناسب مع انحسار الوظيفة الاجتماعية للنظام في المناطق الساخنة. لذلك بات المرء «يستمرئ» أحياناً سماع توصيفات لم يكن يستمرئها سابقاً، كمثل أن يقول أحدهم (في ما يشبه «الوجدان الجمعي»): هذا ليس جيشنا، هو جيش النظام فحسب. طبعاً عندما ينسحب الأمن من وظيفته الزجرية (بفعل تآكل النظام «لا الدولة»، وتقدم التشكيلات العصبوية)، ويتركها للجيش، يبدو النظام الذي قرّر فعل ذلك، كمن يخرج عفاريت الانقسام الأهلي من قمقمها. بذلك المعنى يصبح الجيش الخارج من ثكنه والدالف إلى أزقة المدن والأرياف صنواً للقسر والقهر لدى البعض. لكنّه ليس كذلك بالنسبة إلى البعض الآخر. فذلك البعض يرى الجيش بوصفه «صماماً للأمان» وعائقاً أمام تمدد المجموعات المسلحة وسيطرتها على ما تبقى من الحيّز العام. لنتفق أولاً أنّ زجّ الجيش في هذا الحيز الملتبس سيجعل منه (وقد فعل) مدار انقسام «الجماعات السورية»، لا مدار إجماعها، كما كان عليه الأمر سابقاً. لكن لنلاحظ شيئاً هنا: الانقسام حول طبيعة ما يحدث في البلد كان سابقاً لزجّ الجيش في الأزقة، وما فعله ذاك الزجّ هو التأكيد على فكرة الانقسام ليس إلا. حتماً سيقضّ هذا التوصيف غير السّهل مضاجع كثيرين في النظام ومعارضاته، وسيعمدون «في مواجهته» إلى سوق حجج هزيلة من قبيل أنّنا «شعب واحد»، وأنّ سوريا ليست لبنان. لاحظوا هنا أنّ من يذمّ لبنان (بعدما دمّر نقاباته ومقاوماته وأحزابه الوطنية) ومن يمدحه (من باب التملق والتذلّل للعائلة الحريرية الحاكمة) متفقان على أنّ «لبنان السياسي» ليس نموذجاً صالحاً للقياس! حسناً. لبنان ليس نموذجاً صالحاً للقياس بحسب نظامنا «الفاشي» ومعارضاته «العميلة»، لكن هنالك من يعتبر (ممن «يحتقر» النظام ومعارضاته معاً) أنّ لبنان تحديداً، هو أصلح نموذج نقيس عليه حالنا البائسة في سوريا. لنبدأ أولاً بالعام 1975. في ذلك العام، جرّ اليمين الطائفي العميل للغرب لبنان إلى حرب أهلية مدمرة. من جهتها، استسهلت الحركة الوطنية التي مثلت المعارضة الراديكالية آنذاك عملية استدراجها إلى الحرب من جانب اليمين، ولم تنتبه كفاية إلى أنّ توسلها لخيار الحسم في مواجهة نظام متماه مع «جماعة بأكملها»، سيضعها في مواجهة الجماعة، لا في مواجهة النظام الذي يحتمي بها فحسب. وفضلاً عن ذلك، اعتقد بعض أركان الحركة الوطنية المنتمين إلى هذه الجماعة بالاسم وشهادة الميلاد، أنّ انسحابهم منها سينزع الشرعية عن نظام يزعم أنّه يحمي «المسيحيين». غير أنّهم اغفلوا في المقابل حقيقة بقاء الكتلة الأكبر داخل الجماعة إلى جانب النظام. وهو أمر صعّب كثيراً من فكرة الحسم التي نظّّرت لها الحركة الوطنية طويلاً. فالحسم لا يكون في مواجهة الجماعات الأهلية عادة، حتى لو كانت تلك الجماعات معبأة أيديولوجياً وعسكرياً، على نحو يجعل منها مؤهلة لخوض حرب طاحنة. لاحقاً، تراجعت مظاهر العسكرة قليلاً، وبدأت التصدعات بالظهور داخل الجسم الأيديولوجي للجماعة ــ الطائفة. لكن ذلك لم يحصل إلا بعد تصدع البنية المجتمعية اللبنانية بأكملها، وإعادة إنتاج الانقسامات الاجتماعية داخلها على قواعد أكثر امتثالاً للهيمنة الطبقية ــ الطائفية الجديدة.ماذا نفهم من ذلك كلّه؟ الأرجح أنّنا «لن نفهم شيئاً»، والسبب في ذلك أنّ سياق التصعيد الممسوك فوقياً من جانب النظام و«معارضاته» النفطية المتأمركة لن يتيح للمرء شروطاً موضوعية لايصال ذاك الفهم إلى أوسع شريحة ممكنة من السوريين. ومع ذلك، تبقى محاولة الإجابة عن سؤال الاعتبار من التجربة اللبنانية قائمة وممكنة: العبرة من اقتتال الجماعات في لبنان ليست بسيطة، لأنّ السياق الذي أفضى إلى اقتتالها مختلف عن السياق الحالي في سوريا. لكن ذلك لا يمنع وجود عوامل مشتركة يمكن استخلاص العبر منها. وأهم تلك العوامل، وأكثرها قدرة على تصويب طبيعة الصراع في البلد هي جدلية الطائفي والطبقي داخله. ويتعيّن هنا على القوى الراديكالية المنخرطة في عملية «التغيير الجذري» (حزب العمل الشيوعي وتجمع اليسار الماركسي تحديداً) أن تحدد موقفها تماماً من تلك الجدلية. وتحديد الموقف منها يبدأ بجملة أسئلة: هل تعتقد تلك القوى أنّ الصراع الطبقي ممكن فعلاً في بيئة لا يبدو أنّها ناضجة له كفاية؟ وهل كتب علينا أن نمر بمرحلة من الصراع الطائفي المرير حتى نصل إلى ما نعتقد، عن سذاجة مطلقة، أنّه «صراع الطبقات» (يحلو للبعض هنا استحضار تنظير مهدي عامل للطائفة ــ الطبقة في معرض تسويغ الرجل للنضال ضد اليمين الطائفي اللبناني)؟ على أي حال، التجربة اللبنانية تكاد تجيب عن تلك الأسئلة جميعها، والخلاصات التي وصل إليها كثير من اليساريين اللبنانيين، بعد مراجعة تجربة الحرب تؤكد استحالة الجمع، في سياق واحد، بين العاملين الطائفي والطبقي. فالطبقية هي حاضنة الانتفاضات والثورات دائماً، أما الطائفية فهي المعوّق الأساسي للاثنتين. علينا إذاً أن نتعظ من عبثية الصراع الذي أفضى إلى الحرب الطائفية في لبنان، لا أن نعيد إنتاجه في سوريا على نحو أكثر دموية. ذلك أنّ التغيير الجذري (لا الصّوري) لن يحصل في هذا البلد إذا كان حامله الموضوعي غير متوافر. والحامل الموضوعي للتغيير الراديكالي، في بيئة شديدة الانقسام كبيئتنا، لن يكون إلا طبقياً (كما أسلفت)، أي صراع فقراء وطبقات متوسطة عابرة للطوائف، ضد سلطة مافياوية مسؤولة عن الإفقار واندثار الطبقة الوسطى. وما يحصل هنا أنّ الإجماع حول مافياوية السلطة (وهي طائفية تعريفاً) وانحيازها الطبقي، ليس تماماً كذلك. فهو متوافر بكثرة في بيئة المنتفضين (فقراء السنّة)، وغير متوافر أبداً في بيئات أخرى يتخذ منها النظام «درعاً لحمايته» (فقراء العلويين مثلاً، وهؤلاء مقتنعون بأنّ النظام هو من يحميهم لا العكس)! لدينا إذاً سلطة ذات طابع تجزيئي، ولدينا أيضاً (وهو الأهم) فقراء يخوضون، بالأصالة أو الوكالة، صراعاً ضد فقراء آخرين. بالمناسبة، إذا لم يكن صراع فقراء بعضهم ضد بعض ذا طابع طائفي، فماذا عساه يكون؟ طبقياً أم أيديولوجياً؟ درس لبنان يقول لنا إنّ صراعاً لا يقوم على أساس طبقي، ولا يسعى إلى تفكيك التموضعات الطائفية، هو صراع لا طائل من ورائه.
* كاتب سوري
6 تعليق
التعليقات
-
الخلط و التركيبيحاكي كاتبنا منظري وقواد الحركة العمالية في القرن التاسع عشر لكن بآسلوب ميكانيكي بائس لطالما إستنكره لينين - آحد قواد الحركة العمالية المظفرين. ووجه الميكانيكية المؤلم هنا تحليل التركيب الطبقي للمجتمع السوري تسرب بغير قصد كما يبدو، يخلط بين فئات إجتماعية و طبقات إجتماعية في حمى هجوم على الديكتاتور السوري و طائفته! لقد أصبح النظام الإستبدادي السوري العائق الوحيد لكاتبنا، ومن لف لفه، في إنجاز مهام التحرر الوطني السوري ومقارعة العدو الصهيوني وإسترداد الأراضي المحتلة، بشكل يفرض النوم في مضاجع الإمبريالية و الدعوة للعودة للعهد الكولونيالي تركيا-فرنسيا بمسحة بريطانية-أمريكية، عن اللجوء لحل وطني سلمي بعد أن إرغام النظام السوري - و لا يزال مرغما - على التغيير. إن كان هذا التبصر لا يعبر عن إنتهازية عمياء، دعونا نلغي كلمة ّإنتهازية ّ من قاموس لغتنا العريقة.
-
سورية بشار الأسد باقية على العهد ولو فقئت أعينكممتى تستفيق أيها المنظر " المنتظر للمجهول " من هذا الحلم الأسطوري ؟!!! سئمناكم وسئمنا تنظيراتكم الكريهة .. أفيقوا نحن الآن على أبواب سنة 2012 وأنتم ما زلتم تعيشون في سنة 1939 .. افهموها يا ماركسيين .. فلسفاتكم للورق وليست للبشر .. فالشعب في وادٍ وأنتم في مغاوركم المظلمة التي لم تصلها الكهرباء حتى الآن .. أستغرب من جريدة الأحبار أن تنشر لكم مقالاتكم .. إذا كنتم كمالة عدد .. فلتنقص من صفحاتها ورقة أو ورقتين بدل هذا الكلام الفارغ المضمون .. سورية بشار الأسد باقية على العهد ولو فقئت أعينكم .. قالت قرارها وكتبته على جبين الشمس .. وأنتم مازلتم في نومٍ عميق .. وعندما تستفيقوا على انتهاء الأزمة على يد القائد العربي الوحيد " وأشدِّد على العربي الوحيد " .. عندها سنقول لكم : صح النوم ..
-
سوء فهملأ ومسميه "رؤية مغايرة" كمان عم تتوجه للقراء ولا عم تناقش نفسك بصوت عالي؟ بس بتعرف كان ممكن الإنسان ياخد تحليلات حضرتك إنت والدكتور بو خليل (لن أضمن الأخ كيلة، هنيك يتحدث إلينا من مجرة أخرى) حول عدم انخراط أغلبية الفئات بعين الإعتبار لولا إنو هذه الفئات لم تبقى صامتة، بل نزلت تأييداً وليس مرة، بل عشرات المرات وليس لثلاثين ثانية بل لساعات وأيام منعرف إنو شغلة صعبة كتير عالمثقفين أمثال حضراتكن يبتلعوها، أو يستوعبوها (بما إنو حضرتك بالمقابل افترضت أننا "لن نفهم شيئاً" من عبقرية رؤيتك المغايرة) ، وعشان هيك كل يوم تحكون الرؤوس محاولين استنتاج السبب الغريب العجيب يللي بيخلي الشعب يقف ويدعم قيادة إنتو ما طايقينها مثلاً ونحن منتفهم إرتباككن على فكرة فكما نحن "ما رح نفهم عليك" يا أستاذ كاسوحة أنت أيضاً لن تفهم علينا قط لكي تفهم لغتنا، عليك أن تقف في معسكرنا مفهوم؟
-
كان فيك تختصر بهل جملة .."ماذا نفهم من ذلك كلّه؟ الأرجح أنّنا «لن نفهم شيئاً»"
-
راييا صاحب الرأي يبدو ان نظرك لا يمتد لابعد من انفك في سوريا فقدت الحكومة شرعيتها و احترامها منذ اللحظة التي اختارت فيها الحل العسكري لذلك ابشرك بزوال هذه الحكومة بإذن الله لانها ظلمت و استعانت بالقوى الظالمة و الظلم لا يدوم يا فهوم