الحماسة المفرطة في تأييد الثورات باتت بحاجة إلى وقفة نقدية. تلك الحماسة عند أنصار الثورات على امتداد العالم العربي بادرة إيجابية جداً، وهي تدل على تطلّع كبير للتغيير في كل دولة عربية، لكن ــ وحرصاً على أن تؤتي هذه الحماسة مفعولها عبر الدفع باتجاه تغييرات حقيقية في البلدان العربية، وخاصة تلك التي لم تعرف الثورات ــ يبدو الحديث النقدي تجاهها مهماً في إطار النقاش المفتوح منذ بداية الربيع العربي حول الثورة وجدواها وأهدافها والمرجو منها.لابد من القول إنّ عقلنة الفعل الثوري والمزاج الثوري عملية غير ممكنة، ببساطة لأنّ طبيعة الثورة بما هي غضب متفجر يهدم البنى القائمة، لا تتوافق في كثير من الأحيان مع التفكير بعقل بارد، خاصة عندما تكون الثورة في مواجهة قمع وحشي ممنهج، لا يراعي خطاً أحمر في سبيل إجهاضها. لكن ذلك لا يعني الانسياق وراء الانفعالات بما يلغي الهدف المنشود من الثورة وجانبها الآخر الأهم: التأسيس لحالة جديدة تقوم على التناقض مع الحالة الاستبدادية القائمة، وتخلق وطناً يحتضن الجميع ويمنحهم فرصة التعبير عن ذواتهم.
من هنا يصبح الحديث عن الحالة النقدية للثورات، وما أفرزته، ضرورياً، تحديداً لأنّ ذلك الحديث يجب أن يكون أحد أهم منجزات الثورات عبر فتحها الأبواب أمام الناس لتتحدث بما تعتقده، دون خوف. لكن الحالة النقدية لمسار الثورات لم تتبلور بعد بشكل ناضج. يعود هذا في جزء منه إلى انقلاب تلك الثورات على كلّ اللغة القديمة وأدواتها، مما يجعل استخدامها نقدياً غير ذي جدوى. كذلك لم تكتمل صورة تلك الثورات بعد، حتى يمكن نقدها بنحو جاد وكامل. غير أنّ الحالة النقدية غير المكتملة تظل ضرورية، لا سيما إذا كان الأمر يتعلق باستحقاقات اللحظة والآمال المعقودة على مستقبلٍ تسوده الحرية يحمل إمضاء هذه الثورات.
يلاحظ أنّ ثلاثة أنواع من النقد ظهرت مع ظهور الثورات. النوع الأول ــ إن صحت تسميته نقداً ــ انطلق في الأساس من أبواق السلطة على امتداد العالم العربي، في ردّ فعل سريع على الحراك الشعبي المفاجئ. وتفنن هؤلاء في كيل الشتائم والاتهامات للثوار، وربطهم بأجندات خارجية معبرين عن إفلاس فكري. لكن الأكثر مدعاة للشفقة هو من حاول «فلسفة» التضاد مع الثورات، عبر تصويرها كفوضى شاملة تهدد السلم الاجتماعي والاقتصادي، وكأنّ الحكومات التي يدافع عنها كانت تدير عملية تنموية باهرة أو تحرص على تماسك النسيج الوطني.
بعض هؤلاء الكتاب حاول التراجع لاحقاً وركوب موجة الثورات، لكنّه كان مضحكاً، وآخرون حاولوا مع تزايد عدد الثورات انتقاء بعضها وتأييده ما دام هو يتماشى مع المزاج الحكومي في بلده. لكن المحصلة النهائية هي التباعد الكبير بين هؤلاء والجمهور المؤيد للثورات الذي لفظهم وأصر على وضعهم في قوائم العار للتذكير بمواقفهم.
النوع الثاني من النقد كان انتقائياً، ومنطلقه الحسابات الأيديولوجية والمذهبية الضيقة. وأصحابه تمكنوا من استثمار حالة الانقسام المذهبي حول الثورتين السورية والبحرينية، ليصوبوا سهام نقدهم راكبين موجة الجمهور المستنفر. وهؤلاء يقدمون أحياناً نقاطاً جديرة بالنقاش، لكنّهم يريدون بها باطل التسعير المذهبي وتشويه هذه الثورات وأهلها. لذلك كان من الطبيعي أن يتعاطى معظم أنصار الثورات مع حديثهم بسلبية، فالمذهبية في تأييد ثورة ورفض أخرى لا تتفق في الأساس مع الانتصار للثورة من المنطلق الإنساني والقيمي.
أما النوع الثالث والذي لم يظهر بنحو جيد وقوي حتى الآن، رغم ظهور بوادره، فهو نقد المستقلين وأنصار الثورات أنفسهم لبعض المظاهر والسلوكيات والحالات الثورية في البلدان العربية. وهذا النوع من النقد هو حاجة ملحة لهذه الثورات. فهناك مظاهر لا يمكن معها إلا تفعيل الحس النقدي، وهناك قضايا هي إشكالية بطبيعتها وأخرى مضرة بأي ثورة لابد من نقدها والإشارة إليها.
طلبات التدخل الخارجي في بلدان معينة، وظهور شعارات مذهبية أو دعوات صريحة إلى العنف، واستخدام لغة الشتائم من معارضين بحق معارضين آخرين، والمزايدة عليهم ورشقهم بما تيسر، وكذب بعض المعارضين ومبالغاتهم بشأن أحداث معينة، والخطابات الخارجة عن الإجماع الوطني التي تحاول احتكار الثورة لأيديولوجيا معينة،كلّها قضايا بحاجة إلى صوت نقدي عالٍ ونقاش مستفيض حولها، لكوننا جميعاً في إطار مرحلة تأسيسية بحاجة إلى قواعد صلبة يبنى عليها مستقبل منطقتنا.
ما يحدث هنا بالتحديد أنّ لغة إقصائية تسود بسبب الانفعال فتحجب كل رؤية نقدية وتبدأ بالمزايدات التي تصل أحياناً لاستخدام لغة تخوينية معاكسة للغة الأنظمة في التفاصيل وشبيهة بها في المبدأ. ولا يمكن تفهم الأمر عندما يصدر من نشطاء وسياسيين ومثقفين يتطلعون لبناء دول ديموقراطية ويريدون إنهاء الاستبداد برموزه وقيمه.
هذا الانفعال قد يكون مفهوماً بعض الشيء (وغير مبرر) في ظل تصاعد الأحداث وضغط القمع، لكنّه في حال تكريسه سيؤسس لمكارثية جديدة تخلف سابقتها ولا تختلف عنها. وفي التاريخ شواهد كثيرة مؤسفة على استخدام «الشرعية الثورية» من قادة ثورات شعبية وانقلابات عسكرية في تصفية الخصوم وقمع الرؤيات والأفكار المختلفة مع الثوار ومن معهم، مما حوّل هذه الحركات التغييرية إلى استمرار للحالات التي تم الانقلاب عليها مع تغيير المسميات.
يجدر بأنصار الثورات أن يعوا أنّ الثقافة الديموقراطية والقدرة على تحمل الرأي الآخر والقبول بمناقشته هو المطلب الرئيس في هذه المرحلة لينجح التأسيس لديموقراطيات حقيقية وراسخة. فلا يمكن تخيّل ديموقراطيات تقوم إذا لم توجد طليعة من الديموقراطيين الحقيقيين ترفض كل أشكال القمع وتؤمن بالتعددية، إيماناً لا تشوبه شائبة.
لا يفهم من ذلك الإحجام عن مجابهة رؤيات نقدية متطرفة أو معتدلة بالحجة والمنطق، لكن هذا الأمر الضروري والهام لا ينبغي أن يخرج عن مساره ليتحوّل إلى حفلة شتائم وتخوين، خاصة إذا كانت هذه الحفلة لا تدير بالاً للفروقات بين أنواع النقد ومنطلقاته وخلفيات الناقدين وتوجهاتهم المختلفة.
إنّ العقل النقدي هو أساس كل عمل تغييري، وقد وفر النقد للحالة الاستبدادية القائمة ــ على علاته ونقصه ــ أرضية هامة للوعي بأهمية التغيير. لذلك تحتاج الثورات، وخاصة في هذه المرحلة، لنقاشات مستفيضة تُطرح فيها مختلف الآراء حول المستقبل الذي يجب أن تصنعه. النقد هنا يبدو حاجة ملحة لا ترفاً فكرياً، وهو في هذه اللحظة أهم ألف مرة من ألف قصيدة مديح للثوار.
* كاتب سعودي