اندلعت في الأشهر الماضية الاحتجاجات الشعبية التي نظمتها قوى التحالف الفلسطيني في لبنان، وجزء من حركة فتح ( بقيادة منير المقدح)، على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى «الأونروا». احتجاجات ما لبثت أن تطوّرت إلى استهداف المدير العام لمكتب لبنان سلفاتوري لومباردو، بعدما تبيّن لقادة الاحتجاجات أنّه سبب رئيسي في الحالة التي وصلت إليها الوكالة، وعقبة رئيسية في وجه مطالب الناس، حتى شبّهه أحد أقطاب الاحتجاجات بأنّه يتصرف كزعيم عربي يستمر حكمُه بالعقوبات (الإدارية) للموظفين العاديين، وبتقريب كبار الموظفين، وبالوعود المعسولة للشعب الذي يتبيّن له أنّ تلك الوعود لم تعطِ نتيجة تُذكر، بل زادت المأساة. عند هذا التشبيه طُرحت فكرة «الحاكم الظالم يحتاج إلى ثورة شعبية»، وجرت عندها مطالبة لومباردو بالرحيل، على غرار التجربة مع الأنظمة العربية والربيع العربي. إذا نحّينا الجانب السياسي السلبي الذي يتحكّم في عمل الأونروا في لبنان، وكذلك في خدماتها، وتغاضينا عن التحكم الأجنبي في أعمالها الإدارية والميدانية، وتجاهلنا العرقلة المقصودة التي تقوم بها الإدارة المتنفذة في مكتب لبنان، فإنّ العودة إلى التذكير بمطالب اللاجئين أمرٌ لا مناص منه، من أجل توضيحٍ جديدٍ وضروريٍ لصورة الخدمات التي تقدمها الأونروا.
أولاً، في المجال الصحي، رُفع الدعم إلى 40%، وهذا الرقم «ملغوم»، لأنّ المبالغ المُدْرجة فيه مأخوذة من مخصصات خدمات أخرى، وهذا الدعم يجب أن يكون على الأقل بين 70 و80%، وهو رقم حقيقي، غير «ملغوم». والمطلوب صحياً أيضاً التعاقد مع مستشفيات ذات كفاءة عالية وسمعة جيدة، خصوصاً في عدد من الأمراض المستعصية أو التي تحتاج إلى عناية فائقة ودقة متناهية، وقصص الإهمال التي يحكيها المرضى عن تعرّضهم لها كثيرة. والمطلوب أيضاً ألا يُهان اللاجئون في بحثهم عمّن يدعم تغطية عملية جراحية ذات كلفة باهظة، أو مبلغاً شهرياً لأدوية الأمراض المزمنة...
والمطلوب أيضاً آلية عملية سريعة للدخول الطارئ إلى المستشفيات، لكي لا يموت رجل محترق مثل وليد طه (توفي في آذار 2011)، أو طفل على أبواب المستشفى مثل الطفل محمد نبيه طه (شباط 2011)، بانتظار التأكد من موافقة الوكالة على دخولهما إلى المستشفى.
أما في التعليم، فلا تزال مادة «تاريخ وجغرافيا فلسطين وقضيتها» غائبة عن المناهج الرسمية لمدارس الأونروا، في حين تسري شائعات غير مؤكدة عن إمكان تدريس مادة عن الهولوكوست وغيرها. والمطلوب أيضاً زيادة عدد الصفوف من أجل خفض عدد الطلاب، وفقاً لما وعد به روجرز ديفيد، المدير الذي يتولى ملف التربية، بعدم تجاوز عددهم 33 طالباً في الصف، الأمر الذي لم يُلتزم به حتى الآن. ويتذرّع المسؤولون في الأونروا بالنقص في عدد المعلمين، ويطرح ذلك قضية التوظيف والتثبيت للمعلمين المياومين الذين ينتظر بعضهم أكثر من خمس سنوات، ثم «تكتشف» إدارة التعليم أنّه ليس على قدر المسؤولية، و«يصادف» أيضاً أنّه لا ينتمي إلى الفئة التي تحظى برضى إدارة الأونروا، فيجري تثبيت آخر من فئة مرضيّ عنها!
أما المنح الجامعية فقد أُثيرت قضيتها في العام الماضي، وجرى التنبيه إلى الخلل في المعايير، غير أنّ الأونروا لم تستجِب للتحذيرات. وتمثّل حالة «كليّة سبلين» قضيةً كاملة، إذ لم تبذل الأونروا جهداً في طلب الاتفاق مع وزارة التربية لمعادلة شهادتها مع الشهادات الجامعية، فضلاً عن أنّ موازنة «كلية سبلين» أُحيلت في مكتب الوكالة في لبنان على «قسم المشاريع»، ولم تعد من صلب الميزانية التعليمية الأساسية. والخطورة في الأمر أنّ بقاءها بات مرهوناً بدعمها من الجهة المانحة، ولم يعدْ مرتبطاً بالأونروا وقدرتها وبقائها.
وفي ما يخصّ مخيم نهر البارد، فإنّ تسريع إعادة الإعمار أمر مُلحّ وضروري، ولم يعد يتحمّل التأخير. وما دامت أموال الرزمتين الثانية والثالثة متوافرة، فلماذا تأخر إعمار «الثانية» ولم يبدأ إعمار «الثالثة»؟ بل إنّ الرزمة الأولى تأخر تسليمها عاماً كاملاً! ولماذا تُلزّم الرزم إلى شركات انعكس تأخرها في الإعمار مأساةً فوق مأساة اللاجئين، ورغم ذلك لم يجرِ تغريمُها وفق البند الجزائي، بل تغاضت إدارة الأونروا عن ذلك لتسيير مصالح معينة لديها (وذلك باعتراف لومباردو نفسه، لكون الشركات الملزّمة إعادة إعمار المخيم مقرّبة من مرجعيات سياسية لبنانية).
لذلك، ومن أجل تسريع وتيرة الإعمار، فإنّ الحل الأمثل هو عدم تلزيم أيّ من الرُزم الباقية إلى تلك الشركات، وتلزيمها إلى مقاولين محليين في المخيم، كي لا تحتجّ الشركة بالترخيص الأمني لدخول العمال والمهندسين، فضلاً عن ضرورة السعي إلى تحسين مواصفات البناء العام والخاص، على مستوى الجودة والسعة (إعادة النظر في المخططات التوجيهية)، والأخذ في الاعتبار تأمين منازل المتزوجين الجدد في مخيم نهر البارد، الذين استثناهم الإعمار من التعداد، كأنّ الزواج ممنوع بين منكوبي مخيم نهر البارد.
أما الأزمة الأخيرة التي أعلنت الأونروا عجزها عنها، وبدأت تشهد احتجاجات وتحركات محلية في مخيم نهر البارد (تقتصر على الطلاب حتى الآن)، فهي عدم توفير وسائل نقل لطلاب منطقة البركسات، بحيث يضطر الطفل الذي يحمل حقيبة تزيد على عشرة كيلوغرامات إلى السير مسافة تناهز كيلومترين للوصول إلى المدرسة، فضلاً عن أنّ الطريق الموصل إلى المدرسة محاذٍ للبحر، ما يعني استحالة وصولهم إلى المدرسة في أيام الشتاء.
ماذا عن الشؤون الاجتماعية والبنى التحتية؟ حتى الآن لم يبدأ تطبيق مشروع الأمان الاجتماعي بمعايير موضوعية، وهو مشروع يُفترض أن يضمن مستوى اجتماعياً محدداً للاجئين، ويُخرج بعض من هم تحت خط الفقر (بلغت نسبتهم 66%) من الزواريب الخلفية إلى مواجهة الحياة، بقدرةٍ على تحقيق أهدافهم وتيسير أحوالهم.
أما المنازل الآيلة إلى السقوط فلا يزال مشروع ترميمها وإعادة إعمارها غير واضحين، ولم يُطرحا موضوعياً على الخبراء من الفلسطينيين لاستشارتهم، ولا تزال القرارات الخاصة بها تُعرف فجأة من طلائع تنفيذها على المستفيدين. كذلك فإنّ تأمين الأموال الكافية لذلك لم يتمّ بعد.
من جهة أخرى، بدأت تضيق المقابر بالأموات، وبات الدفن في القبور القديمة للأقارب عادةً في مخيم عين الحلوة، وبات عدم وجود قبر قديم لأقارب الميت الجديد يُسبّب أزمة جدية، والمشكلة ستمتدّ قريباً إلى مخيمات البرج الشمالي والبداوي ونهر البارد، وغيرها. ورغم الاحتجاجات، فإنّ الأونروا لم تحرك ساكناً حتى الآن، رغم وعود المدير العام الكثيرة. ولا يقتصر الأمر على الأموات، فبعض العائلات من الأحياء لا تزال بلا مساكن، رغم أنّ وضعها القانوني لا يختلف عن غيرها من اللاجئين.
وذلك فضلاً عن فساد شبكات وخزانات المياه التي أُنشئت في بعض المخيمات، وتبيّن أنّها لا تعمل. بل إنّ تجربة بعضها أثبتت فسادها فنياً، وهو ما حدث في مخيم مار الياس، حيث رشحت الخزانات وتسرّبت المياه منها، فأُوقِف تشغيل المياه في المشروع رغم انتهاء العمل فيه، ريثما يجدون حلاً للمشكلة.
تبقى مسألة الفساد الإداري عقبة كبيرة في طريق إصلاح الأونروا. فأمام كل تلك المطالب، تحتجّ الوكالة بأنّ المشكلة تكمن في ضعف الميزانية، وأنّها باتت تعتمد على منح المشاريع، وأنّها خفضت الاعتماد على ميزانيتها الأساسية في المساعدات، الأمر الذي يدعونا إلى الشكّ، لكون إدارة الوكالة الحالية توظف عدداً كبيراً نسبياً من الأجانب (44 موظفاً) برواتب عالية جداً، ويجري تعيينهم في أماكن حسّاسة في مجال التفتيش والمحاسبة وتنفيذ المشاريع، بحيث يكون مسمّى بعضهم نائب مدير دائرة أو منطقة، أو مدير أو مراقب مشروع، فيصبح الآمر الناهي، حتى على المدير الأصيل. والمثال الأوضح هو في راتب مدير المنطقة الذي يبلغ نحو 3 آلاف دولار، فيما يتجاوز راتب نائبه الأجنبي 10 آلاف دولار. وظهرت في المطالب العلنية برفع يد المدير الأجنبي في الشمال عن التحكم في كل صغيرة وكبيرة، متجاهلاً المدير الفلسطيني للمنطقة.
من أجل ذلك، يطالب اللاجئون بوقف توظيف الأجانب، وتوظيف لاجئين فلسطينيين من كل الفئات السياسية (شهد العام الماضي توظيفاً جديداً وترقية لموظفين قدامى، بلغت نسبة المحسوبين على فصائل منظمة التحرير نحو 70%، والباقون توزّعوا على الولاء لكبار الموظفين، فيما لم يحصل المحسوبون على قوى التحالف الفلسطيني على أكثر من 10%، علماً بأنّ بعض الامتحانات ألغيت وأعيد إجراؤها لينجح المستهدفون في التوظيف فيها). لذلك، المطلوب أيضاً إنهاء الفساد الإداري، واعتماد الشفافية والنزاهة والموضوعية في عمليات التوظيف، والابتعاد عن المحسوبيات والمزاجية فيها.
ماذا لو لم يستجب المدير العام لهذه المطالب؟ تفيد المصادر المقرّبة من قيادة الاحتجاجات بأنّ جولة جديدة من التظاهرات والاعتصامات ستشهدها مراكز الأونروا إذا لم تستجب الإدارة للمطالب المذكورة. وهم يخططون لاستراتيجية جديدة لم يعلنوها حتى الآن، ستستفيد من التجربة الأخيرة وستبني عليها، حتى تحقيق الأهداف، وخصوصاً أنّهم يؤكدون حصولهم على معلومات من أشخاص موثوقين بخصوص ما يجري من فساد مفترض، يتحدثون عنه بثقة كاملة.

* كاتب فلسطيني في لبنان