طرحت جامعة الدول العربية، في محاولة منها لإيجاد حل للأزمة السورية، وقف العنف وانسحاب الجيش من المدن، ثم بدء الحوار بين السلطة والمعارضة. لا يبدو أنّ لتلك المبادرة أفقاً حوارياً، كما ظهر خلال الأسابيع الماضية، بل إنّها زادت الضغط على السلطة، بعد قرار تعليق عضوية سوريا في الجامعة، وفرض عقوبات اقتصادية. ورغم الضغط الروسي من أجل موافقة السلطة على المبادرة، إلا أنّها لم تستطع التزام وقف القتل وسحب الجيش من المدن. فهي تعرف أنّ ذلك سوف يفضي إلى «انفلات الشارع»، وهو الوضع الذي قررت فيه العنف لمنعه منذ البدء.لكن يبدو أنّ هناك من لا يزال يأمل في «حل سياسي» في سوريا، يقوم على الحوار بين السلطة والمعارضة من أجل الانتقال إلى نظام ديموقراطي تعددي، على نحو «سلمي» و«آمن»، بعد كل هذا الدم الذي نُزف، وكل هذا العنف الذي مورس. وبالتالي، يتضح هنا العجز عن فهم الواقع في الأساس، وفهم الظروف التي جعلت الشعب ينتفض. وجعلت ما كان ممكناً يصبح مستحيلاً.
الأزمة السورية ترتبط بعناصر متعددة، منها السلطة ومنها الشعب، لكن منها كذلك قوى المعارضة بتلويناتها المختلفة. وأيضاً هناك الدول الإمبريالية التي لها مصالح، وهي مرشحة للتدخل العسكري، بعدما باتت تمارس كل أشكال الضغط الاقتصادي والسياسي، لكن يبقى الأمر مرتبطاً أساساً بطرفين، هما السلطة والشعب.
هل يمكن أن تقوم السلطة بإصلاح ذاتها من أجل أن تصبح قادرة على استيعاب المشكلات التي أفضت إلى انتفاض الشعب؟
ربما كان العقد الأول من هذا القرن هو عقد المطالبة بالإصلاح في سوريا. فمنذ «خطاب القسم» والنخب وأحزاب المعارضة في غالبيتها تطالب بتحقيق الإصلاح، وتدعو إلى تحقيق الانتقال من الاستبداد إلى الديموقراطية. وهي هنا كانت تدعو السلطة ذاتها، وترسل الإشارات إليها من أجل تحقيق ذلك عبر الحوار مع المعارضة، لكن رغم ما تضمنه «خطاب القسم»، ثم ما قرره المؤتمر القطري لحزب البعث في 2005، ظلت الوعود على حالها، إلا ما تعلق بالاقتصاد. فقد تحققت هنا عملية إصلاح شاملة حوّلت الاقتصاد من اقتصاد تؤدي الدولة دوراً محورياً فيه إلى اقتصاد ليبرالي ريعي بكل معنى الكلمة. وهو الوضع الذي كان في أساس الانفجار الاجتماعي الذي نعيشه، إذ أصبحت نسبة البطالة 33% تقريباً، وأصبحت الفئات المفقرة تزيد على نصف المجتمع، وانهار التعليم لمصلحة التعليم الخاص، وكذا الطبابة، التي انهارت لمصلحة المشافي الخاصة.
وبدل أن يخدم ذلك التحوّل دمقرطة الدولة، خدم تعزيز الاستبداد. فقد أصبحت «الطبقة الجديدة» (رجال الأعمال الجدد الذين ينشطون في الخدمات والعقار والسياحة والاستيراد)، التي باتت تسيطر على السلطة بعدما كانت السلطة هي التي تسيطر على «كبار موظفين» نهبوا وأثروا من خلالها، باتت معنية بالحفاظ على الطابع الاستبدادي للسلطة لأنّها تنشط في «الأسود» من جهة، ولأنّ سيطرتها تلك جعلتها قادرة على إخضاع البرجوازية التقليدية، ودمجها في سياق آلياتها الاقتصادية من جهة أخرى. وأيضاً لأنّ النشاط الاقتصادي الذي تمارسه هو نشاط نهب وفساد (سيطرة على الأرض، ونهب القطاع العام، والتهريب) وهو لا يحتاج إلى قانون، بل إلى غياب للقانون من جهة ثالثة، إضافة إلى أنّ السلطة هي التي توفر لها الوضع الاحتكاري رابعاً.
لذلك، تمظهرت السلطة في فئة تحتكر الثروة، يدور حولها قطاع من المستفيدين، وتُخضع قطاع من البرجوازية التقليدية. وهي التي تمسك بالسلطة الأمنية العسكرية. وترى الآن أنّ أيّ تعديل في بنية السلطة لمصلحة إعطاء فسحة ديموقراطية تسمح بالنقد والصراع ووجود الأحزاب، وبالتالي التنافس في انتخابات (حتى وإن لم تكن نزيهة)، ترى أنّه يضرّ بسلطتها، وأساساً احتكارها الاقتصادي لأنّه سوف يعطي فسحة للبرجوازية التقليدية لتعديل العلاقة القائمة الآن، وهي علاقة تبعية وفرض. إضافة إلى مستتبعات ذلك من حيث فتح الملفات، وهذا ما عبّر عنه رامي مخلوف في صحيفة أميركية، حين أكد أنّهم اتخذوا قراراً بخوض الصراع إلى النهاية. فهم يعرفون أنّ أيّ تغيير سوف يقود إلى فتح ملفين بالضرورة، الأول هو ملف الاعتقال، وبالتالي وضع الأجهزة الأمنية في بنية السلطة، وسيطرتها على كل شيء، ولا شك في أنّ تقزيم دور الأجهزة الأمنية يعني بالضرورة إضعاف سيطرة هذه الفئة على الاقتصاد، وفتح أفق «تنافس» ليس من مصلحتها. والثاني هو ملف الفساد والنهب، الذي مورس خلال العقود السابقة، وهذا يطاول تلك الفئة بالتحديد، لأنّها من نهب كل ما أنتجه القطاع العام، وما كدح الشعب من أجل توفيره.
وكما رأينا في تونس ومصر وليبيا، وما هو مطروح في اليمن، فإنّ هذا الطابع البوليسي المافياوي للنظم هو من نتاج احتكار فئات مافياوية للاقتصاد، التي لا ترى إمكاناً لتعديل بنية السلطة على ضوء مطالب الشعب، ولا هي معنية بتخفيف النهب من أجل توظيف العاطلين من العمل أو زيادة الأجور، وتعرف أنّ أي انفراج ديموقراطي سوف يفتح على حراك طبقي واسع. وهو الأمر الذي دفع فئة من السلطة في تلك البلدان إلى «الانشقاق» من أجل تحقيق «مرونة» ما، تسمح بتحقيق انفراج ديموقراطي أوسع. بمعنى أنّه لا بد من إزالة الاحتكار المهيمن لكي يصبح ممكناً تحقيق أفق لإعادة صياغة السلطة. وذلك ما نلمسه في سوريا، إذ إنّ الفئة المتحكمة في الاقتصاد والأمن والسياسة تعرف أنّ الوضع الذي هي فيه لا يمكن فكفكته، أو تغييره، لأنّ ذلك سيقود إلى نهايتها. ذلك ما جعلها تقاتل منذ اللحظة الأولى بكل عنف، وتستمر في ذلك. رغم كل الوعود والقرارات التي صدرت من أجل «الإصلاح»، والتي لم تكن سوى إعادة صياغة لوضع السلطة دون أيّ تنازل، حتى في المستوى الشكلي.
بالتالي، فإنّ كل إمكان لحوار من أجل تحقيق انتقال سلمي من الاستبداد إلى الديموقراطية ليس قائماً، وليس من العقل المراهنة عليه، أو توقّع أن تتنبه السلطة ذاتها إلى ضرورة تحقيق هذا الإصلاح. ولا شك في أنّ الدم الذي نزف عبر آلاف الشهداء لا يُبقي أي خيط ممكن في هذا السياق. ولهذا سيبدو أي موقف ينطلق من فرضية إمكان الإصلاح، أو «التغيير من خلال الحوار مع السلطة»، موقفاً انتهازياً، أو مبنياً على فهم غاية الخطأ.
لم تكن بالتالي، الطبقات الشعبية، تنتفض لأنّها تعتقد بأنّ السلطة يمكن أن تُصلح، ولو كانت ظنت ذلك لما انتفضت أصلاً، وربما كانت قامت بأشكال احتجاج أخرى، مثل الإضراب أو الاعتصام، لكنّها توصّلت بعد حديث طويل عن الإصلاح (منذ 1990 يدور الحديث عن الإصلاح، ثم خصوصاً منذ 2000) إلى أنّ هذه السلطة لا يمكن أن تُصلح. ولقد أسهم في ذلك تراكم الاحتقان مع استمرار انهيار الوضع الاقتصادي إلى اللحظة التي فرضت تفجّر الانتفاضة.
وبالتالي فإنّ تحوّل الطبقات الشعبية من حالة الركود والسكون والانتظار إلى حالة الثورة يعني بالضبط أنّ الإصلاح لم يعد ممكناً، فقد انتظرت ما يكفي، وتحملت ما جعلها تُسحق، دون أن تلمس تغييراً يأتي من طرف السلطة. لهذا أخذت أمرها بيدها، تمردت، انتفضت، وثارت. وهنا يصبح الإصلاح من الماضي. ويصبح إسقاط السلطة هو المطروح، وليس أي شيء آخر.
إذاً يصبح السؤال هو: ما هي ممكنات الحل؟
في الإطار النظري هناك ثلاثة خيارات، الأول يتعلق باستطاعة الشعب السيطرة على السلطة، من خلال السيطرة على مراكزها العسكرية والأمنية والسيادية. وهذا يبدو مستحيلاً نتيجة عفوية الانتفاضة، والعنف الذي يقابل السلمية التي تحكمها، وغياب الأحزاب السياسية التي تمتلك الاستراتيجية لتحقيق ذلك. والثاني يتعلق بأن تفضي قوة الانتفاضة واستمراريتها إلى عجز السلطة، وضعف مقدرتها على القمع، ومن ثم حدوث انهيار فيها، أو انقلاب داخلي، أو تصفيات داخلية، تقود إلى أن تمسك بالسلطة فئات تشرف على مرحلة انتقالية تفضي إلى الانتقال من الاستبداد إلى «الديموقراطية». والثالث يمكن أن يكون حاضراً إذا لم يتحقق الخيار الثاني، وتوسع القتل والعنف الوحشي، وتوسعت الانشقاقات في الجيش، لكن أيضاً قبول الدول الإمبريالية التدخل العسكري، عبر الحظر الجوي. وهذا هو الخيار الأسوأ، لأنّه سوف يحوّل الانتفاضة إلى حرب حقيقية، لكن الأخطر هو أنّ احتمالات نشوب الصراع الطائفي تصبح ممكنة، وهو الأمر الذي يفضي إلى تدمير واسع، وقتل كثير، وكذلك سلطة ضعيفة ومفككة طائفياً وتابعة.
ورغم أنّ العديد من قوى المعارضة انطلقت في سياستها من ضرورة التدخل العسكري لقناعتها بأنّ تغيير السلطة ليس ممكناً إلا عبر هذا التدخل، كما حصل في العراق وليبيا (ولقد عملت طيلة الأشهر الماضية لتحقيق هذه السياسة، وأدخلت الفكرة إلى داخل الانتفاضة ذاتها، وإن ظل ذلك على السطح) فإنّ الوصول إلى ذلك يعتمد على مصلحة الدول الإمبريالية في التدخل (التي لا تبدو متحمسة إلى الآن)، لكن في كلّ الأحوال تكون السلطة هي التي دفعت إلى هذا المآل نتيجة القتل والتعذيب الشديد والعنف الدموي، وتوسيعها القتل والتدمير في كل المناطق. وسيكون هذا المآل مرجحاً فيما إذا ظلت السلطة متماسكة ودموية، في وضع لا يبدو أن الشعب يمكنه أن يتراجع.
بالتالي يجب أن يكون واضحاً أنّ السلطة «عاجزة» عن الإصلاح، لأنّه يعني سقوط الفئات التي تحتكر الثروة والسلطة الآن. وكل أمل في هذا السياق يجب أن يُسقط. وأيضاً يجب أن يكون واضحاً أنّ التدخل الإمبريالي، سواء طرح في صيغة حماية المدنيين أو الحظر الجوي، سوف يقود إلى تدخل عسكري إمبريالي لا يخفف الدم، بل يفتح شلالاً منه، ويفتح على تفكيك المجتمع طائفياً، وتدمير البنى التحتية والمدن. ورغم أنّ السلطة هي المسؤولة عن كل تدخل، فإنّ كل الداعين إلى ذلك هم مسؤولون كذلك.
لهذا ليس الحل سوى في توسيع الانتفاضة، وتصعيد قوتها لفتح أفق التغيير. هذا هو الخيار الوحيد الذي يخدم التطوّر والدمقرطة. وهنا تكمن أهمية العمل على إدماج الفئات التي لم تشارك في الانتفاضة بعد، أو حتى المتخوّفة منها، أو من مآلاتها. فهذا كلّه هو الذي يقود إلى تحقيق التغيير، ويمنع التدخل الإمبريالي وكل مستتبعاته. لذا، فإن من لا يريد التدخل والحرب الطائفية عليه أن يشارك في الانتفاضة، من أجل تغيير حقيقي.
* كاتب عربي