يتناوب طرفا الحكم في «الموالاة» و«المعارضة» أو في «الأكثرية» و«الأقلية»، في تحالفي 14 و8 من آذار، على السلطة وعلى «المعارضة» أيضاً! ودون إسقاط (أو التقليل من) التباينات حول بعض المسائل المهمة أحياناً، بين الطرفين، فكلاهما يدير من العلاقات ويعتمد من السياسات ما ينطوي على مشتركات أساسية. وإذا انطلقنا من حاجة اللبنانيين إلى التغيير في الكثير مما هو قائم: في نظامهم السياسي والاقتصادي، وفي ممارساتهم وفي علاقاتهم في ما بينهم، ومع الآخرين في الخارج، لتبيّن أنّ الفريقين يمارسان السلطة والمعارضة بوصفهما وجهين لنهج واحد، وإن اختلفت التعبيرات وبلغت التباينات، أحياناً، تخوم التقاتل الأهلي! وتدور هنا مفارقة تكاد تكون ماركة مميّزة لـ«الصيغة الفريدة» اللبنانية. فالعلاقة بين طرفي السلطة في لبنان، تؤمّن للنظام السياسي الراهن، في حال الاتفاق، مقوّمات التجدد والاستمرارية، لكنّ الأمر ينقلب إلى نقيضه في حال الخلاف، أي التنافس والصراع على تحديد السياسات والعلاقات والأدوار والحصص، إلى مستوى الانخراط في حرب أهلية قد تمتدّ سنوات وحتى عقوداً. تملك القوى النافذة المتناوبة على السلطة اليوم، الكثير من العناصر التي تمكّنها من تأمين استمرارية المعادلة المذكورة. فهي تستخدم كلّ مقوّمات ومؤسسات السلطة في سبيل ذلك. وتستخدم أيضاً قانون الانتخابات والعصبيات والغرائز والفساد! كما تستخدم شبكة ضخمة من المؤسسات الأهلية المساندة في الحقول والميادين كافة. وفي امتداد ذلك أيضاً، يستخدم طرفا الحكم، على نحو يزداد وثوقاً وتوسّعاً، الدعم الخارجي. وهو دعم متعدّد الأشكال والوجوه: مادي وسياسي وأدبي وتربوي، فضلاً عن الأبعاد الدينية أو الطائفية التي تشغل، هي الأخرى، حيّزاً مهماً من تفاعل الوضعين الداخلي والخارجي في معادلة السلطة والحكم في لبنان. ويؤدّي كلّ ذلك إلى ما هو لبنان عليه اليوم من الصراعات والتجاذبات والارتهان، ومن عدم القدرة على بناء وطن حصين وسيد ومستقر ومستقل.
تمتلك قوى السلطة في لبنان، في حالتي الموالاة والمعارضة، كلّ تلك العناصر وسواها، التي من شأنها تأمين استمرارية الحكم والنظام، لكنّها «تمتلك» أيضاً غياب المنافسة، أي المعارضة، من موقع جدي وجذري. ويتفاقم الأمر، في المرحلة الراهنة، إلى حدود غير مسبوقة، لجهة ضعف المنافسة والبدائل، سواء كان ذلك في صيغة منفردة أو في صيغة عمل جبهوي تحالفي، على غرار ما كانه واقع بعض أحزاب التغيير في السبعينات من القرن الماضي، أو ما كانت عليه صيغ جبهوية في تلك المرحلة وبعدها، كـ«الحركة الوطنية اللبنانية»، وبعض المحاولات الجبهوية اللاحقة. قد يُقال إنّ هذا الكلام تقليدي. وهو ينتمي إلى مرحلة سابقة. ويضيف قائلوه إنّ التغيير يأتي اليوم سريعاً وعفوياً وشاملاً دون إنذار أو دون إعداد أو دون أحزاب ومؤسسات. ذلك القول صحيح جزئياً، لجهة الدفع والتحريك وأشكال الصلة والمبادرة، لكنّه غير صحيح بنسبة عالية، لجهة المسارات والنتائج والمحصّلات. وكلا الأمرين تقدّم بشأنهما انتفاضات «الربيع العربي» نماذج واضحة، بل وحتى حاسمة. ففي الدول التي حصل فيها التغيير بسرعة فعلية أو نسبية، ثم حصلت فيها انتخابات، لم تتساوق أو تتناسب، إلى حدّ بعيد، المقدمات مع المحصّلات والنتائج. لا شكّ أنّ عملية التغيير لا تزال مستمرّة، رغم كلّ ما تحاوله الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون وعرب النفط و«الاعتدال». وهي لذلك لم تخلق من النتائج إلا ما يتناسب مع التوازنات في صيغتها الراهنة، لا في متحوّلاتها الكامنة والكاملة، لكنّ ذلك ينبغي ألا يحجب أنّ في واقع كلّ بلد مجموعة من العناصر التي لا يمكن تجاوزها. فهنا وهنالك، تتفاعل عوامل موضوعية لجهة حضور هذا الطرف أو غياب ذاك، ولجهة النشاط والمبادرة والتنظيم والقدرة على التفاعل مع القديم ومع الجديد في الوقت عينه. إنّ المبادرة إلى إطلاق حركة احتجاج لم تكن تعني اختزال ممكنات مسار احتجاج ما أو انتفاضة ما، بالطرف المبادر، وخصوصاً أنّ انفجار الاحتجاج أو اندلاع الانتفاضة أو الثورة، قد اتخذ أحياناً طابعاً عفوياً، ردّ فعل مثلاً، على غرار ما حصل بعد إقدام الشاب الشهيد التونسي محمد البوعزيزي على إحراق نفسه احتجاجاً.
لقد استنهضت حركات الاحتجاج والانتفاضة قوى الاعتراض جميعاً. وهي أفسحت المجال رحباً للقوى الأكثر تنظيماً والأكثر إعداداً، وهي قوى، عموماً، كانت تعاني القمع والمنع والسجون والنفي والإرهاب، وكانت بالتالي، موضع تعاطف أكثرية المجتمع التي كانت بدورها ضحية التعسّف والبطش والاحتكار والفساد والدكتاتورية والاستبداد والاستئثار...
يقودنا ذلك، على نحو أساسي، إلى استنتاج أكيد، وهو أنّ تصاعد منسوب العفوية والمبادرة الشبابية والشعبية في إطلاق حركات الاحتجاج والانتفاضات والثورات، لا يعني أبداً إلغاء الحاجة إلى العمل المنظم المثابر والمبرمج، والقادر على صنع التغيير أو على توجيه الاحتجاج في الاتجاه الملائم حين وقوعه على نحو عفوي أو مفاجئ. ووفق منطلقات مشاريع التغيير واستهدافاتها، قد تكون هذه المشاريع جزئية أو شاملة، محدودة أو جذرية، سياسية أو اقتصادية أو الاثنتين معاً.
وفي ظروف لبنان الموضوعية، تصبح الحاجة إلى التغيير مسألة تتعدّى السعي إلى التقدّم والتطوير، لتبلغ مستوى الحاجة الإنقاذية والمصيرية. ولا بدّ لمشروع التغيير أن يضع في صدارة أهدافه السعي من أجل إيجاد أسس راسخة وعصرية لإقامة دولة موحّدة وحصينة ومستقرة. إنّ لبنان كلّه لا يزال وطناً قيد الدرس. وهو كيان مشروخ وغير مستقر ومهدد بالتشظي بالانقسام. ويعود ذلك إلى ما جرى اعتماده من نظام طائفي ـــــ مذهبي يفرّق ولا يوحّد، ويستدرج التدخلات الأجنبية أو يغري بها. ولبنان كان دائماً الحلقة الضعيفة التي ما إن امتلكت بعض عوامل القوة، حتى مثّل ذلك نفسه، أي فعل المقاومة في صيغتها الراهنة، عنصراً جديداً من عناصر الانقسام الداخلي والتدخل الخارجي المتفاعل معه. ذلك إضافة إلى ما يعانيه لبنان من فوضى وعدم استقرار واستشراء الفوضى والفساد والنهب وتعطيل المؤسسات العامة لمصلحة الدويلات الخاصة، بما يترك أيضاً أثاراً سلبية على تقدّم لبنان، وعلى الوضع الاجتماعي والمعيشي للأكثرية الساحقة من المواطنين.
إنّ من حق اللبنانيين الذين يعانون الوضع الراهن الحصول على خيار آخر. خيار يقوم على رفض الثنائية الراهنة وتقديم بديل جذري لها: بديل يستند إلى حاجات لبنان وتناقضات المجتمع اللبناني، ويستلهم، في صيغ وأساليب عمله، مبادرات شباب «الربيع العربي» وتراكمات تجربة القوى الثورة العربية، لا صيغ السلفيات السياسية، مدنية كانت أو دينية، قديمة أو جديدة، ولا حتماً، مزاعم واشنطن وأنظمة القرون الوسطى، في رعاية عمليات التغيير والثورة. أما برنامج مشروع التغيير، مشروع المعارضة الحقيقية، ومن ثمّ قوى هذا المشروع وصيغه، فيتطلّب متابعة أخرى.
* كاتب وسياسي لبناني