كان ممكناً المضي أكثر في تجذير سردية نقد النظام «الفاشي» ومعارضاته «العميلة»، لولا ما حصل في «جامعة المستعمرة القطرية» أخيراً. فحين أعلن الوكيل الحصري لأطلسة المنطقة واستعمارها (استعمار لايت طبعاً) المدعو حمد بن جاسم، سلسلة العقوبات على سوريا، بدا كأنّه يرفع الحرج عن كثير من المحرجين من انزلاق الصراع إلى قعره الطائفي الكولونيالي. فهؤلاء كانوا حتى وقت قريب يربطون نقدهم الجذري للنظام بآخر أقل جذرية لعملية احتواء ذاك النقد نفطياً وكولونيالياً. اليوم بات بإمكانهم أن يتحرروا من عبء رميهم اعتباطياً بشبهة العمالة للنظام كلما حاولوا تصويب وجهة الصراع في سوريا. والوجهة هنا مركّبة كالعادة. لنقل إنّه نسق ديالكتيكي، يتفاعل مع الصراع من منطلق أنّه صراع باتجاهين: في سوريا أولاً وعليها ثانياً. طبعاً عندما بدأت الاحتجاجات لم تكن طبيعة الصراع ولا هوية الفاعلين فيه قد حسمت بعد، لكن وجهته كانت كذلك. لم يكن ممكناً في ذلك الوقت الوقوف طويلاً أمام تعقيدات الواقع السوري وتناقضاته، والسبب في ذلك بسيط وواضح: شعار «الشعب يريد» كان أقوى من قدرة أي منا على إجراء حسابات باردة لما ستؤول اليه الأمور فيما لو انكسر التوازن الهشّ داخل البنية المجتمعية السورية. فعندما يكون «الشعب» (أو جزء كبير منه) هو قاطرة التغيير، لا يعود ممكناً أخلاقياً تركه يواجه العسف الأمني وحده. وصراع «الشعب» ضد السلطة التي تنهبه أو تقمعه، هو صراع طبقي بالضرورة. لذا انخرطنا حينها في الصراع، كلّ من موقعه، وعيننا على من لم ينخرط بعد، أو على من وقف حائراً لا يعرف ماذا يفعل، أو كيف يصوغ شكل انخراطه من عدمه. لقد تراءى لنا آنذاك في اليسار الراديكالي، أنّنا جزء من الصراع، لأنّه أولاً وقبل كل شيء صراع طبقات مفقرة ضد سلطة ديكتاتورية سلالية منحازة طبقياً (وهو لا يزال في جزء بسيط منه كذلك). وما ساعد على تجذير تلك الرؤية «الساذجة» هو بقاء الصراع حتى وقت قريب داخل مربعه الأصلي، أي صراع طبقات ريفية (غالباً) مفقرة ضد من أفقرها وسحق كرامتها. هنا كانت ثنائية الخبز والكرامة لا تزال تتفاعل وتفرض ذاتها علينا، وعلى كل من انخرط في النضال ضد النظام من زاوية «محض طبقية». وبما أنّ الانخراط من هذه الزاوية تحديداً هو الذي سيوفر للصراع قاعدته الحقيقية، فإنّ استعصاءه كلياً اليوم (أي الانخراط) سيدفع بالقطاعات التي انخرطت على أساسه إلى الخروج تدريجياً من الصراع ضد النظام. وقد حصل ذلك فعلاً، إذ بدأ كثيرون بمراجعة تجربة انخراطهم بعدما اكتملت ملامح الاستيلاء النفطي الطائفي الكولونيالي (بواسطة أدوات سورية وعربية) على كامل الحراك داخل سوريا. ما عاد بإمكان هؤلاء أن يقبلوا بأن يكونوا مادة للابتزاز النفطي القذر (القطري والسعودي). وإذا كان البعض قد قبل بذلك فهذا شأنه. أما من لم يقبل ومن لم يساوم أساساً على قضيته ويتركها نهباً لرجعيات الخليج السلالية، فتقع عليه مسؤولية إعلان الآتي: لم يعد هنالك من مكان لليسار الراديكالي المعارض داخل حيّز يلفظ شيئاً فشيئاً كل من يعترض على ابتزاز سلالتي آل ثاني وآل سعود للمعارضتين الوطنيتين اليسارية والناصرية. واستطراداً أقول: ماذا يعني أن «يهرع» حقوقي رصين وشجاع كهيثم مناع (خيبتنا الأخيرة، كما سمّى ناجي العلي محمود درويش يوماً) للقاء وليم هيغ الذي ارتكبت قوات نظامه الخاصة جرائم حرب موصوفة في ليبيا؟ وكيف يمكن تبرير سكوت أحزاب الاتحاد الاشتراكي والعمل الشيوعي والتجمع الماركسي عن الحصار الذي فرضته سلالة آل ثاني على سوريا البلد والشعب (لا النظام يا سيد حسن عبد العظيم)؟ أصلاً ما هي جدوى أن تكون يسارياً إذا لم تكن يساريتك المزعومة تلك متعارضة مع الأجندة الرجعية العميلة للغرب التي يعدنا بها راعي معارضاتكم النفطية المدعو حمد بن جاسم؟ لقد بات الانخراط في الصراع ضد النظام في سوريا مع أطراف كهؤلاء «مهزلة حقيقية». وأفضل ما يمكن فعله اليوم هو فضّ الشراكة الافتراضية معهم (ريثما يثوبون إلى رشدهم)، ونقل الصراع مع النظام إلى حيّزه الديالكتيكي الفعلي (لا الصوري). حيّز يجعل من الصراع فعلاً مركباً، ولا يغفل من الأجندة المحددة له بعداً مركزياً هو البعد الاستراتيجي والجيوسياسي (الصراع على سوريا). حتى الآن بقي هذا البعد غائباً تماماً عن أجندة المعارضات السورية «العميلة» والوطنية والحراك في الداخل والخارج. ويبدو أنّ تغييبه لم يأت بمحض الصدفة إطلاقاً. فعندما تقرّ كمعارض للنظام ببعض حقائق المؤامرة التي تحاك ضد البلد (لا النظام فحسب)، تكون كمن يدعم السردية التي جاهر بها النظام من اليوم الاول، ودفع بها في مواجهة سردية الانتفاضة. إذاً نحن هنا إزاء واقعة مركّبة ومعقّدة بعض الشيء: لدينا أولاً نظام لا يعترف بالانتفاضة، ويعتبرها جزءاً من المؤامرة فحسب، ولدينا أيضاً انتفاضة لا تقرّ بالمؤامرة، ولا تتعامل معها إلا من منطلق دحض دعاية النظام السوداء. كيف يمكن التعامل مع مأزق كهذا من دون الوقوع في فخ الدعاية المبتذلة لكلا الطرفين؟ فأنت اليوم ضد النظام ولكنك لست تماماً مع مآلات الحراك ولا مع مرجعياته المتذللة جزئياً أو كلياً للخارجين النفطي والاستعماري. صحيح أنّ التموضع في موقع مستقلّ إلى هذا الحد، سيسهّل على المرء رؤية الصراع من منظور مغاير لمنظور النظام ومعارضاته، إلا أنّه سيصعّب عليه فكرة استدراج الطرفين إلى حيز الإدماج بين سرديتي الانتفاضة والمؤامرة. لا نريد من النظام أن يدمج بين السرديتين، لأنّه يرفض إحداهما أساساً. نريد ذلك من «الحراك الشعبي» حصراً. معنى ذلك أنّ الحراك اليوم أمام امتحان حقيقي: إما أن يعترف بوجود مؤامرة فنغدو وإياه معاً ضد النظام الذي «يستدرج المؤامرة»، أو أن يرفض وجودها فيغدو من حيث لا يدري «جزءاً من مؤامرة» نرفضها تماماً كما نرفض تحميله مسؤولية استدراجها من جانب النظام وأبواقه. لاحظوا هنا أنّ النظام ومعارضاته يتنصلان من تهمة استدراج المؤامرة إلى قلب الصراع، فيما هما جزء منها، وكل من موقعه. طبعاً كل هذا الكلام عن المؤامرة يعني أنّها موجودة فعلاً بخلاف الهراء الذي تطالعنا به المعارضتان الكولونيالية و«الوطنية» ليل نهار. هي موجودة في السلاح الذي يتدفق علينا من كل حدب وصوب، وفي العقوبات التي لم تفرض على بلد (لا على نظام فحسب) كما فرضت علينا، وفي النهش الذي تمارسه أبواق سلالات النفط في جسد البلد، وفي التحريض الطائفي النفطي على مذاهب بعينها (لم تصدر عن هيئة التنسيق الوطنية إدانة واضحة لعمليات الخطف والقتل على الهوية في حمص وإدلب، واكتفى حسن عبد العظيم في حديثه الأخير إلى «الأخبار» بوضعها في سياق «ردود الفعل» على بطش النظام!)، وأخيراً في الحصار الذي يريد تركيع سوريا الدولة (لا النظام) ومحاصرة أفرادها في لقمة عيشهم. وهؤلاء الأفراد ليسوا جميعهم موالين للنظام كما تريد فضائية مبتذلة وشوفينية كـ«الدنيا» إقناعنا. «بعضهم» أو «أغلبهم» معارضون راديكاليون له ويريدون «إسقاطه» اليوم قبل الغد. لكن كيف «يسقطونه»، وهم لا يجدون (أو لن يستطيعوا أن يجدوا قريباً) في بيوتهم زاداً يعينهم على ذلك. من غير المناسب هنا أن نذكّر بعبارة أبي ذرّ الغفاري الشهيرة: «عجبت من امرئ لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج إلى الناس شاهراً سيفه». فهذه المقولة كانت مناسبة لسياق معين هو سياق خروج الناس في درعا وحمص وريف دمشق واللاذقية وبانياس (في البدايات الوردية) شاهرين غضبهم ضد من أفقرهم ووضع كرامتهم تحت جزمته الفاشية. أما اليوم فقد بات الحصار حصارين، ولم يعد النظام وحده مسؤولاً عن ذلك. اذ دخل على الخط لاعبون جدد أكثر خبثاً وحذاقة من النظام (سلالات النفط وبعض عربها). والخبث والحذاقة هنا يتمثلان في ظهور هؤلاء بمظهر من يدعم «الحراك الشعبي» مالياً وإعلامياً ولوجستياً. هم «يدعمون» الحراك فعلاً، غير أنّ «دعمهم» ذاك قد بدأ ينعطف نحو اتجاهات غير تقليدية. اتجاهات تستبطن الخطاب الامبريالي وتمرّره تحت غطاء دعائي أجوف: «دعم الشعب» عبر معاقبة نظامه (اقرأ: دعم الشعب عبر معاقبته)! هكذا، عاد طيف بلاد الرافدين ليحوم من جديد، وأعادت سلالات النفط إلى الأذهان سيرتها الأصلية: مستعمرات موضوعة في خدمة السيد الأميركي الأبيض. هي ذاتها المستعمرات التي موّلت حرب صدام حسين على إيران، وعادت لتموّل حرب أميركا عليه بفصلها الأول تحديداً. اليوم احتاجتها الامبراطورية مجدداً إلى تسديد دفعة على الحساب: إعادة إنتاج فكرة الحصار على العراق، لكن من دون العراق وصدّامه هذه المرة. وبدلاً من صدام حسين لديهم اليوم بشار الأسد، ومن يدري من يكون غداً، عبد العزيز بو تفليقة، ربما؟ هذه حلقة جهنمية لن تنتهي إلا بنضوب نفط الخليج وتحريره من سلالاته ومستعمريه البيض القذرين؟ والمشكلة اليوم أن إقناع كثير من الناشطين السوريين والعرب بتلك الوقائع (لا السيناريوهات) بات يحتاج إلى بذل الكثير من الجهد. مثلاً جرّب أن تفاتح أحدهم بالدور الوظيفي الموكل إلى النظام القطري السلالي من جانب سادته الأميركيين وراقب ماذا سيكون ردّهم: لولا قطر و«جزيرتها» لما أسقطنا نظامي مبارك وبن علي، ولما أجبرنا علي عبد الله صالح على توقيع المبادرة الخليجية! طيّب. ماذا عن إغفال «جزيرة» الديموقراطية وحقوق الإنسان لقصف الناتو للمدنيين الليبيين وصمتها المفزع عن جرائم الحرب التي ارتكبتها ميليشيات المجلس الانتقالي العميل هناك؟ سيأتيك الجواب سريعاً: المهم أنّنا تخلّصنا من ديكتاتورية القذافي! حسناً. لنجرّب مرّة أخيرة: لماذا قوبلت دعوة أمير قطر لحضور افتتاح المجلس التأسيسي في تونس بسيل من الانتقادات الرافضة للوصاية القطرية القذرة على «العملية الديموقراطية» هناك؟ هنا لا يأتيك الجواب بالوضوح ذاته. ممتاز. وصلنا في النهاية إذاً إلى نتيجة معينة: المنطق الصوري الذي أجبرتنا «جزيرة» قطر على العيش داخله بدأ يتقوّض ولكن ببطء شديد. لكن ما علاقة كل ذلك بالوضع في سوريا؟ الوضع في سوريا، مثله مثل الوضع في تونس ومصر واليمن، خاضع بدرجات متفاوتة لاستلاب كامل تجاه المادة الإعلامية السامة التي تأتينا من مستعمرات الخليج وفضائياته. والتحدّي الحقيقي اليوم هو إقناع الحراك داخل سوريا بأنّ الصراع الذي يخوضه ضد النظام لا ينفصل عن الصراع الذي يخوضه آخرون ضد الدأب النفطي (القطري تحديداً) على استدراج أنماط استعمارية معدّلة إلى منطقتنا. طبعاً، ليس وارداً أبداً أن نخوض صراعاً ضد سلالات النفط بالوكالة عن النظام (بعدما تفكّك التحالف الوثيق بينهما)، لكن من غير المنصف أيضاً أن نخوض صراعاً ضد النظام بالوكالة عن سلالات النفط والغرب الذي يرعاها. المعارضة الكولونيالية (المجلس «الوطني» الهزيل) تفعل ذلك اليوم، وتحاول أن تجرّ معها هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي (أرجو ألا يتورّط الرفاق السابقون في الهيئة أكثر من اللازم في هذا المستنقع). لكن ماذا عن «الحراك الشعبي»؟ هل يقبل بأن يحاصر مرّتين (مرّة من النظام ومرّة أخرى من سلالات النفط)، وبأن يستعمل حصاره في كلّ مرة وقوداً لصراع سلالات النفط ومن ورائها أميركا وفرنسا مع النظام؟ * كاتب سوري