في حلقة حوارية على قناة «إم.تي.في»، قبل أيام، توجّه وزير العمل الدكتور شربل نحاس مباشرةً إلى اللبنانيين، أي إلى أكثريتهم، حاثّاً إياهم على التحرّك من أجل مطالبهم. لقد بدا المشهد غير مألوف: الوزير يعارض وممثل الحركة النقابية يوالي. الوزير يحرّض وممثل الاتحاد العمالي العام يبرّر ويتلعثم. ممثل الدولة يطالب بالكثير، وممثل الحركة النقابية العمالية يكتفي بالقليل.لم يكن الوزير الصديق شربل نحاس يمثّل «الدولة». كان بالكاد، يمثل اتجاهاً في «التيار الوطني الحر» يسعى إلى أن يعطي لشعار «الإصلاح والتغيير» معنىً جديّاً، بل يمكن القول إنّ ما حظي به اقتراح الوزير نحاس من تأييد من قبل أكثرية وزراء «التيار الوطني الحر»، قد فاق المتوقع!
قد يعترض الوزير نحاس على هذا التوصيف، إذا لم نستدرك بالقول إنّ تمثيل الدولة هو غير تمثيل السلطة فيها، في هذه المرحلة أو تلك. وإنّ مصلحة الدولة لا تتعارض، بل لا ينبغي أن تتعارض مع مصلحة أكثرية مواطنيها. ويصحّ هذا الأمر خصوصاً على بلد كلبنان، حيث يجري كلّ يوم، إضعاف الدولة لمصلحة الدويلات، ويجري انتهاك المصالح العامة لخدمة المصالح الفئوية والخاصة. ومعروف أنّ ذلك يترك أخطر الأثر على دور الدولة كطرف ينبغي أن يوفّر الاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني لمصلحة الوطن والمواطن، على حدّ سواء.
نعم، من قبيل التدقيق والدقة، يجب القول، إذاً، إنّ الوزير نحاس لم يكن يمثّل السلطة أو الحكومة. وهو كذلك لم يكن، بدرجة أكبر، يمثّل المعارضة الجديدة المؤتلفة في تحالف 14 آذار، التي لا تزال شريكة في السلطة، ومقرّرة في معظم المواقع الإدارية في الحقول كافة، رغم غيابها عن الحكومة منذ مطلع السنة!
شربل نحاس، يمثّل في الواقع، وهو في موقع الوزير الممارس، صوت الحركة الشعبية والنقابية التي لا صوت لها، في هذه الأيام! لا يمثل هذا التوصيف افتئاتاً على أحد: لا على الاتحاد العمالي العام، الذي يكتفي من التمثيل الشعبي والعمالي بالمقرّ والاسم وببعض المظاهر الإعلامية، وربما المكاسب الشخصية، ولا على من يواصلون الاعتقاد بأنّهم يمثّلون الحركة المطلبية عموماً، والعمالية خصوصاً، من قبيل الاستمرارية أو الوراثة أو المعادلات النظرية! ويقتضي الإنصاف تمييز حركة المعلمين. إنّها حركة حريصة ومثابرة، لكنّها مع ذلك، ظلّت في برامج ومطالب حتى أكثر قطاعاتها تقدّماً (التعليم الثانوي)، حركة مطلبية صرفاً، شُغلت بمسألة الرواتب والأجور (وهي مسألة مهمة طبعاً) عن المسألة الأشمل، وهي الدفاع عن التعليم الرسمي، والسعي إلى تطويره في وجه محاولات تصفيته الجارية على قدم وساق.
ولم يكن من قبيل الصدفة، بهذا المعنى، أن يعترض ممثل التعليم الخاص في الحلقة الآنفة الذكر على إيراد الضمان الصحي للبنانيين في مشروع الوزير شربل نحاس، لأنّ من شأن ذلك أن «يضيع مطالب المعلمين ويغرقها في مسائل عامة يتطلب تحقيقها سنة»... على حدّ تعبيره!
من البديهي أن نقول، في امتداد ذلك، إنّ الخلل الأساسي، بعد موقف السلطة التي لم تتصرّف يوماً وغالباً إلا لاعتبارات فئوية، إنّما يكمن في واقع حركة الاعتراض الشعبية. فتلك الأخيرة تفتقر اليوم إلى الحضور والصيغة.
وما هو قائم من ذلك، إنّما هو بعض الاحتجاجات والاعتراضات والمطالب التي رغم جديّة وكفاحية القائمين بها، لا تستند إلى مشروع متكامل، وإلى حركة واسعة تسعى من أجل التغيير والإصلاح في لبنان. وهذا الواقع هو ما كنا قد أشرنا إليه ويشير إليه سوانا، من أنّ السلطة في لبنان، تحتكر «المعارضة» أيضاً، في لعبة، تتقارب فيها المصالح الاقتصادية بين مكوّناتها إلى حدّ التماثل، ولو تباعدت المواقف السياسية، أحياناً، إلى التقاتل: وخصوصاً عندما تتعاظم الصراعات على المواقع والنفوذ، وعندما تتفاعل العوامل الإقليمية مع العوامل الداخلية وسط ترابط وثيق بين الطرفين الداخلي والخارجي، يبلغ حدود الارتهان والتبعية بالنسبة إلى الطرف الداخلي، الذي هو دائماً الأضعف في لوحة الصراع والعلاقات والمحصّلات...
إنّ التوقّف عند تلك المسألة لم يعد مسألة تحتمل الهروب أو المراوحة أو التأجيل. وما يعبّر عنه بعض دعاة التغيير الآن، من خيبة ومن يأس، إنما يجد سببه الأوّل، في واقع الحركة الشعبية الراهن، وفي ضعف قواها، وفي تشتّتها وفي غياب مشروعها... والأخطر هو غياب المساعي في هذا الاتجاه: فالبعض، استبدل تلك المساعي باليأس أو بالتكلّس وبالجمود وبالشعارات الجوفاء أو البهلوانية، التي تجانب الواقع والحقيقة، وتمارس أحياناً هروباً إلى الوراء لا يُسمِن ولا يُغني من جوع!
إنّ التناقضات الاجتماعية تتفاقم الآن أكثر من أيّ مرحلة سابقة، موضوعياً تتزايد شكوى المتضرّرين.
ويؤدّي ذلك أيضاً، إلى عجز أطراف السلطة عن ضبط حركات الاحتجاج أو احتوائها كما كان يحصل سابقاً. أكثر من ذلك، فإنّ الأولويات السابقة، وهي أولويات المقاومة والتحرير، لم تعد أولويات وحيدة أو الأولويات المطلقة.
وهذا الأمر واضح الآن في تعثّر أداء الطرف الأساسي في تحالف 8 آذار، الذي لم يأتِ إلى السلطة والحكومة، لا ببرنامج سياسي اقتصادي ـــــ اجتماعي لذلك التحالف، ولا له، هو، كفريق أساسيّ فيه. ولا ينبغي من هذا الكلام هنا «الحط على العين» كما يفعل البعض. فالمطلوب الانطلاق من هذا الواقع، للضغط من أجل تغييره. ومادة التغيير الأساسية والفعّالة هي تعبئة القوى المتضرّرة، وتوحيد جهود هذه القوى ما أمكن في برنامج مطلبي اقتصادي اجتماعي، يكون بدوره جزءاً من مشروع الإصلاح والتغيير والديموقراطية في لبنان.
إنّ بلورة مشروع للإصلاح الاقتصادي تُعدّ مهمّة أساسية في هذه المرحلة. وينبغي أن يقترن ذلك بخطة متكاملة لعمل نقابي، يكاد في بعض القطاعات يبدأ من الصفر، بسبب ما لحق العمل النقابيّ فيها من إهمال أو أخطاء أو تخريب. إنّ التغيير في لبنان ورشة متكاملة، مثابرة وملحة ومبتكرة. وهو لذلك ليس مجرّد لحظة يجري خطفها قياساً على ما حصل في بعض البلدان والتجارب. وهذه الورشة لا تبدأ حتماً، كلّها، من الصفر. إنّ في تاريخ النضال الوطني والديموقراطي الشعبي والسياسي في لبنان، الكثير من الإشارات الهادية إلى المسار الصحيح. كذلك فإنّ في بعض التجارب الراهنة ما يمكن الاستفادة منه وتطويره، وخصوصاً في القطاعات التربوية.
تجدر الإشارة أيضاً، إلى كثرة المحاولات راهناً، وخصوصاً في صفوف الشباب، التي تجتهد لكي تفعل شيئاً أو تضيف شيئاً. إنّ النوايا الإيجابية التي تحرّك هذه المحاولات، لا ينبغي أن تكون بديلاً من التفتيش عن الاتجاه الصحيح.
والاتجاه الصحيح هو العمل في المؤسسات، وخصوصاً التي تجمع عشرات الآلاف في كلّ من القطاعين العام والخاص، ولا سيّما منها الجامعات والمعاهد الرسمية والخاصة. فما يطغى على هذه المؤسسات هو التنافس المرتكز غالباً على التعبئة الطائفية والمذهبية، وغالباً في نطاق فرقاء السلطة
أنفسهم.
إنّ هذه جميعاً، مسائل تحتاج إلى متابعة ونقاش وعمل!
* كاتب وسياسي لبناني