ليست موضوعة «الأمة العراقية» بنتَ يومنا، والمصطلح ذاته والمفهوم الذي يستبطنه، ليسا جديدين البتة. فثمة أحزاب عراقية حملت هذا الاسم، ونشطت خلال العهد الملكي، الذي أوجدته بريطانيا، لتفريغ الثورة العراقية الكبرى في 1920، من مضمونها التحرري. ثمة أحزاب أخرى تحمل الاسم نفسه، انبثقت ونشطت ضمن العملية السياسية الأميركية، التي أُطلِقَت بعد الغزو في 2003. وقد عُرِفَت قيادة أحد تلك الأحزاب، بعلاقاتها الحميمة والعلنية مع الكيان الصهيوني، وزيارات زعيمه مثال الآلوسي إلى إسرائيل في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ العراق.
الجديد في موضوع «الأمة العراقية»، تمثل في موجة نشاطات إعلامية تقوم بها مجاميع من الناشطين السياسيين على مواقع التواصل الاجتماعية، كفايسبوك وتويتر وغيرهما، وتشكيلهم لجماعات، وفتحهم لصفحات بهدف التبشير بوجود «الأمة العراقية»، والدفاع عنها. ومع ذلك، لا يمكن المرء، مهما كان رأيه في موضوعة ومفهوم الأمة العراقية، إلا أن يؤيد تلك النشاطات ويتفاءل بها خيراً، لكونها، أولاً، سلمية تعتمد الحوار عبر وسائل الاتصال الحديثة. ولأنّها، ثانياً، تعكس حَراكاً فكرياً وسياسياً يمتاز بالحيوية والمتابعة، في أجواء ساد فيها الخواء وفقدان الأمل والفساد الشامل كيانات الأحزاب السياسية العراقية التقليدية، ولأنّها، ثالثاً، قد تؤدي إلى نتائج قد تكون غير مقصودة أصلاً من قبيل رفع السوية الفكرية والثقافية والسلوكية للمشاركين بها، وترسيخ آداب الحوار والاختلاف واحترام حق الآخر في التعبير عن رأيه.

في مقابل تلك الثلاثية الإيجابية، لا يمكن المراقب المنصف أنْ يغض الطرف عن ثلاثة أخطار تحدق بتجربة كتلك، أو تنجم عن استمرارها في أجواء غير طبيعية، وتتلخص في الآتي:
- استغلال تلك التجربة وتجييرها من قبل عناصرَ انتهازية ومتسلقة سياسياً، بحثاً عن دور في السوق السياسي العراقي.
- تمرير وترسيخ الكثير من الأوهام السياسية والنظرية العدمية والانعزالية الخطيرة التي تستهدف هوية العراق الحضارية، العربية الإسلامية، بحجة الخصوصية العراقية، وبزعم مهاجمة الأصنام القومية المتطرفة من النوع البعثي، فيما هي تؤسس لأصنام لا تختلف نوعاً عن تلك.
- تسطيح النقاشات حول هذه القضية المهمة وإغراقها في النثر الإنشائي السطحي والشعارات البلاغية العاطفية، وفي الاتهامات المجانية للمخالفين والمختلفين بسبب المستوى الفكري المتواضع للمشرفين على تلك التجربة، وعدم إلمامهم بأيٍّ من العلوم التجريبية والإمبريقية ذات المساس بالموضوع.
ومساهمة في تسليط الضوء على مصطلح ومفهوم «الأمة العراقية»، وبهدف ترصين الجانب النظري العلمي له، نقدم في الفقرات التالية محاولة استعراضية وتحليلية موثقة، مؤجلين البحث في «الأمة» بعامة لمناسبة أخرى.
أول مشكلة جدية تواجه الراصد والفاحص علمياً لهذه التجربة هو خلوها من أية ركائز أو أساسات نظرية ورصينة منشورة، يمكن الركون إليها فحصاً وتحليلاً وتفكيكاً. فعوضاً عن النصوص الأساسية أو الركائز النظرية، لا يعثر المرء إلا على نتف من نصوص متناثرة وبسيطة، تعاني ما يعانيه النثر السياسي العراقي السائد، إلا ما ندر، إذ يضرب التشوش أطنابه، ويسود
« التسفيط» والانطباعية الأقرب إلى «حكي المقاهي».
بعد بحث طويل، عثرنا على نص بعنوان «وثيقة أريدو لإحياء الأمة العراقية»، موقعة باسم «اللجنة المبادرة لمشروع الأمة العراقية». وبمطالعة هذا النص بعناية وتركيز، نصل إلى خلاصة مؤسفة، مفادها أنّ الأمر برمته لا يتعدى كونه محاولة تفريغ رغبات سياسية معينة، عبر الإنشاء العاطفي السطحي والانطباعات السياسية البدائية، المخلوطة بنتف عشوائية منتزعة من تآليف ذات منزع أورومركزي أوروبي. فعنوان النص يقول، إنّ الجماعة التي أصدرت الوثيقة تريد «إحياء الأمة العراقية». والإحياء والبعث والخلاص من المفردات العزيزة على قلوب وأقلام الجماعات «السياسية الرومانسية» المغلقة على نفسها، والدائرة حول أوهامها، تلك الأوهام المصعَّدة إلى أقصى درجات التعالي والتسامي العرقي المتفرد.
لكنّنا، منذ السطر الأول، نكتشف أنّ «الأمة العراقية» التي يريد الأصدقاء أصحاب وثيقة «أريدو» إحياءها ليست ميتة، بل هي قائمة وموجودة، فالوثيقة تقول حرفياً «إنّ قراءة دقيقة وفاحصة لحركة التاريخ والأحداث والأطوار التي عانتها، ومرت بها الأمة العراقية، نجد أنّ أشد الصور تعاسة وخراباً هي فقدان الهوية الشاملة والجامعة لكل العراقيين، وتشظِّيها إلى هويات فرعية...». فالأمة العراقية إذاً موجودة، وقد مرت بأحداث وأطوار عديدة في حركة التاريخ، وعانت ما عانت، لكن التعاسة والخراب، مثلما تفيدنا الوثيقة، يتمثلان في «فقدان الهوية الشاملة والجامعة لكل العراقيين». واضح أنّ اللغة التي ترطن بها تلك الوثيقة لا علاقة لها بعلم الاجتماع، أو بأي علم تخصصي آخر ذي مساس بالموضوع.
للتدليل على انعدام القيمة السوسيولوجية لهذا الكلام، يمكن أن تستبدل عبارة «الأمة العراقية» بعبارات أخرى من قبيل «الشعب العراقي»، أو «الجماهير العراقية»، أو «المجتمع العراقي»، دون أن يتغيّر المضمون. لمزيد من التوضيح، في الخطاب السياسي العادي والسائد منذ العهد الملكي، والمعاني المجازية التي يكررها هذا الخطاب دون ملل، نجد الشيء ذاته، فلا شيء سوى الكلمات العائمة في خطاب سيّال، له بداية لكن ليس له نهاية. وعلى هذا يمكننا أن نستنتج أنّ الذين أطلقوا على أحزابهم في الأربعينات من القرن الماضي اسم «الأمة» أو «الأمة العراقية»، لم يكونوا يختلفون عن دعاة «الأمة العراقية» اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي. فهم كانوا يقصدون ضمن ترسيمات النثر الإنشائي، الشعب أو المجتمع أو الجماهير أو الناس... إلخ، دون أن يتأثر المعنى. والسبب بسيط جداً، إذ لا وجود لأيّ معنى محسوب بدقة علمية. إنّهم لا يقصدون الأمة كمصطلح ومفهوم علمي محدد ذي اشتراطات وسمات واضحة ومبرهَن عليها.
لكن، لكي لا نظلم أصحاب الوثيقة، علينا التعريج على محاولات تعريف للأمة تعريفاً يشي بشيء من العلمية. لنقرأ مثلاً قولهم «فالعراقيون اليوم أمة متميزة عن باقي الأمم بهذين العنصرين الأساسيين الهوية والانتماء». لكن هل هناك أمم أخرى تحيط بالأمة العراقية حرمها القدر نعمتي الانتماء والهوية؟ وما معنى انتماء وهوية؟ لا شيء تماماً خارج المعروف من المعنى السائد. فالهوية المعرفة علمياً بأنّها تلك النسبة أو الصفة التعريفية الدالة على تحديد الماهية لتكون التعريف الكُنْهي للمتماهي، أي لحامل الهوية، لا وجود لها هنا. ثم إنّ التعريف المبتور في الوثيقة لا ينطبق على مواطن العراق فقط، بل أيضاً على الكرسي العراقي والفرات العراقي والبطيخ العراقي... إلخ.
أما «الانتماء»، فهو كلمة إنشائية عائمة أيضاً، وليست ذات محتوى علمي يمكن رصده وحسابه. فهنا يمكن أن تتساوى «الأمة العراقية» التي ينتمي إليها المواطن العراقي مع القبيلة أو النقابة أو الحزب أو الجامعة أو العصابة التي ينتمي إليها المواطن ذاته، دون أنْ يتغيّر المعطى الكُنْهي «الماهوي» للمفردة.
نعثر أيضاً على تعريفات أخرى للأمة، مبثوثة في هذه الوثيقة، كقولهم «فالأمة هي وعاء الضمير الجمعي لأيّة تكتلات بشرية...». وحين تفكك التعريف إلى مكوناته اللغوية البسيطة، لا تجد محمولاً نظرياً يمكن التعويل عليه، فهناك: وعاء. ضمير. جماعة. تكتل. بشر. ولا شيء آخر ينتج عن جمعها في صياغة مفهومية قابلة للاستيعاب النظري. وحتى لو حاولنا جمعها، فسنكون كمن يجمع البرتقال بالباذنجان بأقلام الرصاص بحبات الحمص... الخ.
التعريف الأكثر امتلاءً بالمفردات «العلموية»، الذي يمكن أن يصلح نموذجاً للإنشاء، هو التالي «فإنّ الهوية العراقية كونها منظومة قِيَمّية فهي أيضاً منظومة ثقافية متغيرة... تتغذى بالتاريخ والجغرافية وتمثل استجابة مرنة تتحول مع تحول الأوضاع الاجتماعية والجيوسياسة، وتتغيّر مع حركة التاريخ وانعطافاته»، لكن ماذا عن مكونات الأمة العراقية؟ لا تنسى الوثيقة تلك المكونات، وها هي تعددها: «وطن، لغات، عقائد وأديان، أعراق وأقوام، حضارات، وجميعها تمثل حراكاً ممتزجاً ودائماً ومتواصلاً... ينتج لنا قالباً جامعاً يسمى «الأمة العراقية»». نحن هنا أمام خلطة من تعريفين شهيرين: الأول هو تعريف ستالين الشهير للأمة، الذي يشترط لوجودها «اللغة، والأرض، والحياة الاقتصادية والتكوين النفسي، الذي يتجلى في خصائص الثقافة الوطنية»، مع تعديلات طفيفة. فبدلاً من الأرض استعملت الوثيقة «الوطن»، وبدلاً من الخصائص الثقافية الوطنية أوردت الوثيقة مفردات عقائد وأديان وحضارات والوثيقة. بذلك تتراجع الوثيقة من مستوى تعريف ستالين الوثيق الصلة بما يسميه سمير أمين «الماركسية المبتذلة»، إلى تعريفات إرنست رينان السابق له بعدّة عقود، والأكثر تخلفاً منه.
ربما نكون قد قسونا على الأصدقاء في «وثيقة أريدو ــ الجماعة المبادرة لمشروع الأمة العراقية»، لكنّهم والحق يقال، يختلفون عن مجموعات أخرى ويستحقون الاحترام لأنّهم على الأقل حاولوا أن يقولوا شيئاً عن أفكارهم، على عكس مجموعات أخرى لم تنتج شيئاً على صعيد الفكر التأسيسي لمبادرتها الراهنة.
*كاتب عراقي