يبدو الموقف الروسي مفصلياً، على المستوى الدولي، في ما يتعلق بالوضع السوري، إذ لا يزال يتمسك برفض إدانة السلطة، برغم كل العنف الذي تمارسه، وكل الوضوح بأنّها آيلة إلى السقوط. هل لذلك التمسك علاقة بالمساومات التي تجرى عادة مع الولايات المتحدة خصوصاً؟ أو يمكن اعتبار أنّ روسيا اليوم هي ذاتها الاتحاد السوفياتي السابق؟لا شك في أنّ روسيا خسرت كثيراً في العقدين السابقين، ورغم كل ما قدمته من تنازل للغرب، لم تحصل على وضع يسمح بتطوّرها الداخلي السلس، وتحوّلها إلى رأسمالية تُعامل بتكافؤ مثل الرأسماليات الأخرى. فقد ظلّت تشعر بأنّها محاصرة، في سياساتها كما في اقتصادها. وظلت تحسّ بأنّ ذلك «الغرب» لا يزال يعمل على تقليص مناطق نفوذها، وحتى تفكيك مناطقها. لقد خسرت أسواق سلاح كانت لها، كما خسرت أسواقاً تجارية عدّة، دون أن يُفتح لها باب يسمح بتجارة مناسبة مع وضعها وضمان تطورها. ولم يكن يظهر بأنّ هناك من يريدها منافساً، أو يحسب لمصالحها حساب.
لكن سياساتها كانت مرتبكة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وأسهم «الغرام بالغرب» الذي حكم تلك السياسات زمن بوريس يلتسين، الرئيس الأول بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، في وضع كارثي حاول الرئيس الجديد حينها، فلاديمير بوتين، الحدّ منه. لكن وضع روسيا لم يكن يساعد كثيراً نتيجة وضعها الاقتصادي الكارثي (بفعل التدمير الذي مارسته مافيات يلتسين)، عدا أنّها قوة عسكرية كبيرة، وتمتلك الأسلحة النووية. ولذلك فرضت الولايات المتحدة الدرع الصاروخية رغماً عن إرادتها، وهي مستمرة في ذلك، حتى وهي تتراجع عالمياً بفعل أزمتها الاقتصادية العميقة. وكانت قد سحبت العراق منها بعد احتلالها، وعملت وتعمل على حصارها في كثير من مناطق العالم، ومنها إيران.
ورغم العلاقة الروسية مع النظام الليبي، فقد وافقت روسيا على قرار يجيز التدخل العسكري، رغم أنّها ادّعت بأنّ موافقتها ارتبطت بحماية المدنيين. وكان واضحاً بأنّ ليبيا دخلت في إطار المساومات العالمية الروسية، التي كان منها الموافقة الأميركية على دخول روسيا منظمة التجارة العالمية. وإذا كان المسؤولون الروس قالوا بأنّهم تعلموا من الدرس الليبي في سياق تعاملهم مع الأزمة السورية، فإنّ الأمور سوف تظهر أعقد من هذا «التعلم»، ما دامت روسيا تعمل على ترتيب وضعها العالمي في إطار الصراع، لكن التفاهم أيضاً، مع البلدان «الغربية». وبالنسبة إليها، فإنّ سوريا موضع من بقايا الماضي الذي لا يزال يشمل «مصالح» معينة، هي ليست كبيرة، لكنّها مهمة في المساومات العالمية. فالعلاقات الاقتصادية السورية هي ليست مع روسيا، عدا عمليات شراء الأسلحة الذي تراجع في العقد الأخير نتيجة العجز المالي السوري. وربما المهم هو «القاعدة البحرية» في طرطوس التي تبدو أساسية لوجود الأسطول الروسي في البحر الأبيض المتوسط. ولذلك، فإنّ النظر إلى الموقف الروسي يجب أن ينطلق من فهم المصالح العامة لروسيا عالمياً، والذي يشير إلى إمكانات مساومة وتغيير حال تحقيق مصالح تعتبر القيادة الروسية أنّها ذات أولوية لها.
لقد وضعت روسيا الفيتو ضد القرار «الغربي» في ما يتعلق بسوريا، من أجل وضع «حدّ» للسياسات الغربية، ولرسم وضع عالمي جديد، كما قالت. وهي بالتالي تنظر إلى وضعها العالمي وهي تدافع عن السلطة في سوريا، وتحاول تعزيز مواقعها في وضع تدفعها البلدان الإمبريالية لخسارة كل ما كان لها. ولهذا، لا تزال تناور حماية للسلطة، وتعمل بشكل حثيث على «التحكم» في «القرار السوري» من خلال ما تقدمه من «نصائح»، لكي تُنجح «معركتها» العالمية تلك. ورغم أنّ أميركا لم تتراجع عن الدرع الصاروخية، وبدأت بالفعل نصبها في بولندا، فإنّ الروس يحاولون نقل الصراع إلى البحر المتوسط عبر إرسال بوارج حربية إلى الشاطئ السوري. وربما تكون قد حصلت على شيء الآن، إذ أصبحت عضواً في منظمة التجارة العالمية بعد رفع الفيتو الأميركي.
إذاً، هل سيبقى الموقف الروسي «صلباً» كما هو الآن؟
في كل الأحوال، سيبقى الوضع السوري جزءاً من مناورة القيادة الروسية في توضعها العالمي الذي يواجه معارضة «غربية»، أميركية خصوصاً، رغم أنّ وضع واشنطن الراهن يشير إلى إنهاكها وضعف قدراتها العالمية، وتخوّفها من انهيار اقتصادي جديد، سيكون أضخم من انهيار 2008. لكن سيبقى الموقف الروسي عنصراً في جملة العناصر التي تتحكم بالتفكير الأميركي والأطلسي في إمكان التدخل العسكري في سوريا. وهنا سيكون عنصراً مانعاً، لأنّ التدخل سيكون أوسع من أن يتوقف عند سوريا.
بالنسبة إليّ، هذا يكفي. لكن ما يجري تسويقه هو أنّ السلطة السورية محمولة على «دعم خارجي وإقليمي»، وأنّ هذا الوضع الإقليمي يمنع سقوط السلطة. لا شك في أنّ هذا السيناريو الإعلامي يُطرح على ضوء الشعور بالضعف الداخلي، الأمر الذي فرض الاستعانة بالوضع الإقليمي والدولي للتأكيد أنّ السلطة مدعّمة بكل قوة الروس. ولذلك يستخدم الموقف الروسي (كما موقف حزب الله) كمؤشر على أنّ هؤلاء لا يريدون سقوط السلطة، وأنّهم سيدافعون عنها. لكن سنلمس بأنّ للروس هدفاً من ذلك، ربما يختلف «قليلاً» عما تريده السلطة، التي تريد تعزيز وضعها الداخلي المتدهور إزاء استمرار الانتفاضة، وفشل كلّ محاولات سحقها أو تخفيفها. فما يراد هنا هو الحفاظ على تردد المترددين، وتخوّف المتخوفين، من الشعب، لكي لا تصل الانتفاضة إلى مواقع وفئات تفرض حسم الصراع ضد السلطة. وهنا يجري القول بأنّ الروس والحلفاء الإقليميين لا يسمحون بسقوط السلطة، ولهذا يجب التخوّف من ردود فعلهم، أو القول بأنّه مهما بُذلت من جهود داخلية لإسقاط السلطة فلن تفلح نتيجة هذا الموقف الروسي الإقليمي.
ربما يؤخّر ذلك في حسم نتيجة استمرار تردد قطاعات مجتمعية، وخوف بعضها، لكن لا يبدو أنّه سوف يؤدي إلى تراجع الانتفاضة أو انهيارها. ففي كلّ الأحوال، المراهنة هي على الحسم الداخلي، وعلى الوصول إلى مشاركة الكتلة الأهم من الشعب في الانتفاضة، إذ إنّ ذلك هو الذي سوف يفرض التغيير.
وإذا كان الموقف الروسي وفق هذه السياسة يقود إلى أن تخسر روسيا «شعبيتها» عربياً، فربما تكون مناورة الروس تلك هدفها أن تكون العنصر المؤثر في التغيير الداخلي، وأن يأتي هذا التغيير لكي يحافظ على مصالحها. ولا أظن بأنّ ميزان القوى الواقعي سوف يكون بعيداً عن ذلك.

* كاتب عربي