فجأة، وفي غفلة من الزمن، اصبحت صحة التمثيل أهم من صحة الوطن، هذا اذا ما سلمنا أنّ صحة التمثيل تتأمن فعلاً عبر قانون اللقاء الارثوذكسي الذي يَقترح ان تنتخب كل طائفة نوابها في البرلمان اللبناني. هذا ما تحاول مجموعة مذهبية اقناع اللبنانيين به، وتسوِّق له بلا كلل وكأنّه اكتشاف العصر أو انّه يحل مشاكل لبنان ومعضلاته المتشعبة. فاللبنانيون لم ولن يتمكنوا من بناء وطن، ولا يحق لهم ان يحلموا بغير الطبقة المذهبية الغرائزية لتمثيلهم. فوفق هؤلاء، صحة التمثيل لا تصح الا عبر التمثيل المذهبي الذي يعني تطبيقه ان تستعر الغرائز الطائفية دون ضوابط، وان يمتطي كل طامح جواد الخطاب الانعزالي ليستحق عن جدارة لقب نائب الجماعة الدينية. فقانون «كل جماعة تنتخب مذهبها» هو الكارثة الجديدة بحق لبنان، ويجب على الشباب اللبناني ان يقف في وجه مشاريع مماثلة، لا تؤسس لوطن جامع، بل تكرس فكرة المزارع وتزيد من حدة الخطاب الطائفي والمزايدات المؤدية للحروب.ليس صحيحاً انّه لا يوجد خيار آخر لقانون انتخابي افضل، وليس صحيحاً أنّ الحل البديل هو النسبية أو قانون الستين او المحافظة المطاطة بحسب الحاجة. كذلك ليس صحياً ولا صحيحاً ان يهدف قانون الانتخاب فقط الى تحقيق صحة التمثيل التي تعكس اليوم صورة الوطن المريض بداء الطائفية. لكن هدف القانون هو حمل الوطن إلى الشفاء وإجبار ممثلي الامة على حمل همّ المواطَنة وبناء الدولة.
لم يُصَبْ الفكر اللبناني بالعقم الكامل بعد، الا أنّ امراء الطوائف والتجمعات المذهبية لن ينجم عنهم الا مشاريع طائفية بعيدة عن طموحات الشباب اللبناني، وتبعدهم عن مشروع المواطنة الحقيقية. ففي وقت تناقش فيه الدول العربية دساتير وقوانين انتخاب عصرية، يبقى لبنان اسير شعارات تحوِّل فصوله الى خريف دائم.
هذا النداء هو محاولة للكف عن الاستسلام للأمر الواقع، وهو دعوة ايضاً إلى طرح وبلورة فكرة تقوم على معالجة معضلة قانون الانتخاب من دون الوقوع بين سندان الطائفية ومطرقة مخاوف الاقليات الدينية. فما الذي يمنع مثلاً، ان نبقي التوزيع المذهبي على حاله، انما يكون الانتخاب على قاعدة ان المسيحي ينتخب المسلم والمسلم ينتخب المسيحي، وفق لبنان دائرة واحدة. يكون في هذه الدائرة لكل مواطن الحق في الاقتراع لـ64 نائباً من الطائفة الاخرى. وبالتالي، عبر قانون مماثل، نحقق الاهداف التالية.. أولاً، يضطر الطامحون الى تمثيل اللبنانيين الى اعتماد خطاب وطني جامع والى الاعتدال في مسلكهم، فهم ابناء بيئتهم إلا انّ من سيعطيهم صوته هو «الآخر». ثانياً، تجري المحافظة على العيش المشترك في أبهى حلله، ليكاد فعلاً أن يصبح عيشاً واحداً، وتعم المحبة وتصبح مدن لبنان ساحات تلاق، وينتفي منطق التحاصص الجغرافي والسياسي. ثالثاً، تصبح الكفاءة هي المعيار الاول للتوظيف، وتفقد «خدمات النائب» من اهميتها، لكون لبنان دائرة واحدة ولا يمكن التفضيل على هذا الاساس، انما تنتقل المنافسة بين النواب إلى الممارسة المطلوبة من ممثلي الشعب، وهي التشريع والرقابة والمحاسبة.
رابعاً، تحتفظ الطوائف بالتوزيع الحالي، وبالتالي تتبدد هواجس الأقليات، وتصبح لدينا اكثرية مسلمة تنتخب اقلية مسيحية، واقلية مسيحية تختار ممثلي الاكثرية المسلمة، في ممارسة تشكل تلاقياً ومصلحة وطنية بدل نظام العزل المطروح. خامساً، تبتعد الطوائف اللبنانية عن التناحر في ما بينها، وتصبح المنافسة على الافضل. سادساً، تبتعد تلك الطوائف عن البحث عن قوى خارجية تدعمها، وتصبح بحاجة بعضها الى بعض. سابعاً، يعود لبنان وطن الرسالة والتسامح والمحبة بين ابنائه الذين ارتضوا في اوج صعود التعصب والتطرف في العالم ان يعتمدوا طرحاً يطمئن الاقليات، ويؤسس لدولة مدنية عادلة. دولة تضمن وصول المعتدلين من جميع الطوائف إلى مواقع المسؤولية، وينقرض فيها أصحاب المشاريع الطائفية.
يمكن اضافة وسرد الكثير حول هذا الطرح الذي يبقى طرحاً وطنياً مجنوناً، الا انّه اقل جنوناً من الحرب والقتل على الهوية، علّه في يوم ما يقع الاختيار على قانون كهذا بعد أن نكون قد استهلكنا كل الخيارات الممكنة، وهي اصلاً لم تعد كثيرة.
حان الوقت لتحرك شعبي لا يُجيَّر ولا يستغل من اي طرف سياسي، ويكون هدف ذلك التحرك وضع قانون انتخاب يضمن حقوق الوطن والمواطن. واذا كان هذا الطرح طوباوياً حالماً، فيكفِي منه هدفاً ان اطرحه في اطار صراع الافكار، وفي مواجهة من يحاول ان يصوّر لأبناء هذا الوطن انّ لا سبيل فيه غير الانعزال.
* اعلامية في قناة «المستقبل»