ظلّت الحادثة الشهيرة التي وقعت أثناء الاحتلال الإنكليزي لمصر، دائماً، صفحة ثابتة في مناهج التاريخ المدرسية، واعتبرت إحدى صفحات الوطنية المصرية. ملخص القصة أنّه في 1906 كان جنود الاحتلال الإنكليزي يصطادون الحمام في قرية دنشواي، فأصابوا عن طريق الخطأ سيدة مصرية، واشتعلت النار في أحد أجران القمح. طارد الأهالي جنود الاحتلال، فسقط أحدهم قتيلاً متأثراً بضربة شمس. ثم عقد الاحتلال محكمة هزلية قدم لها 52 من فلاحي القرية، وحكم على 32 منهم بأحكام متنوعة بالجلد والحبس، وأعدم أربعة.
بعدها، شن مصطفى كامل حملة تشهير واسعة بجرائم الاحتلال الانكليزي في مصر، واعتبرت تلك المرحلة ميلاد الحركة الوطنية ضد الاحتلال التي استمرت في التصاعد حتى اندلاع ثورة 1919. الحادثة التي كانت دائماً عنواناً لكتب التاريخ، حاولت بنجاح تعليم تلاميذ المدارس المصرية بشاعة الاستعمار الذي تحررت منه بلادهم، ونذالة وجبن جنوده الذين دفعهم الاستهتار وعدم الاكتراث إلى إصابة سيدة وإشعال النار في جرن القمح، ولو عن طريق الخطأ. الظلم والاضطهاد الذي عكسته قصة التاريخ التي حفظتها الأجيال المتتالية من كتب التاريخ وأفلام السينما، جسدت الظلم الاستعماري البغيض الذي وضع الضحايا في قفص الاتهام وحرمهم من المحاكمة العادلة، وأصدر عليهم الأحكام وكوى ظهورهم بالسياط ونصب لهم المشانق. تعلم التلاميذ من حادثة دنشواي أنّ هذا الظلم والانحطاط هو ما فجر الغضب الشعبي في مصر وصولاً إلى ثورة 1919. لكن اليوم، بعد مرور أكثر من مائة عام على حادثة دنشواي، وبعد مرور أكثر من نصف قرن على جلاء الاستعمار، وبعد المشاهد التي حملتها وسائل الإعلام لعدد من الجنود يعرّون فتاة في قلب القاهرة، ويدوسون عليها بالأحذية، ويضربون أخريات بعنف لا يستخدم حتى ضد عتاة الإجرام ودون محاكمة، ويعمدون إلى القتل بالذخيرة الحية والتعذيب في أقبية مجلس الشعب، هل ما زالت حادثة دنشواي تحمل المغزى نفسه للأجيال القادمة؟
لا يوجد أي وجه للشبه بين حادثة دنشواي التي وقعت في 1906 وحادثة أو حوادث 2011، بدءاً بكشوف العذرية وحتى سحل الفتيات بعد تعريتهن. نعم لا يبدو وجود أي وجه للشبه، فحادثة دنشواي قام بها جنود احتلال إنكليز، لا تربطهم أي مشاعر تجاه هذا البلد، فيما حوادث 2011 قام بها الجنود المصريون الذين أسندت إليهم مهمة حماية الوطن والدفاع عنه وصونه. حادثة دنشواي وقعت في قرية صغيرة في ريف مصر لم يعرفها أحد إلا بسبب الحادثة نفسها، أما حوادث 2011 فوقعت في قلب القاهرة وعلى مرأى ومسمع العالم. الاستعمار الانكليزي الإجرامي اضطر ساعتها إلى عقد محاكمات زائفة خلت من أي عدالة لتبرير البطش بفلاحي دنشواي والتنكيل بهم. القتل والتعذيب والتنكيل في 2011 لم تنتظر أي محاكمات مزيفة أو عادلة. إصابة السيدة المصرية في دنشواي جاءت عن طريق الخطأ، كما أجمعت روايات الحادثة، وكذلك حرق الجرن. ما حدث للسيدات المصريات من كشوف العذرية وحتى التعرية في الشوارع، لم يكن عن طريق الخطأ، بل جاء بنحو مقصود. أما حريق المجمع العلمي، فالشبهات حول ضلوع الجنود في حرقه عن قصد كثيرة، ومدعومة بالصور ومقاطع الفيديو. لكن الأهم أنّه لا يوجد أي دليل أو قرينة على أنّ الجنود أو قادتهم تورطوا في أي محاولة لإطفاء المجمع وهو يحترق. المعتصمون هم من حاولوا إطفاء حريق المجمع، مثلما حاول الفلاحون في دنشواي إطفاء حريق الجرن. الأهم أنّه لا يوجد وجه للشبه أو المقارنة بين الغضب والكراهية التي صنعتها حادثة دنشواي في 1906 والتي جاءت من قبل جند الاحتلال الغاشم، والصدمة التي صنعتها حوادث 2011 المتتالية التي جاءت على أيدى الجنود الوطنيون. لا وجه للمقارنة بين الحادثين، وبالطبع لا يمكن المقارنة بين اللورد كرومر الذي أقسم على الولاء للتاج البريطاني، وقادة المجلس العسكري الذين أقسموا على الولاء للوطن وحمايته.
لا شيء يجمع بين ما جرى في 1906 وما جرى في 2011، بين ما جرى في قرية دنشواي المعزولة وما جرى في قلب القاهرة. لكن من بمقدوره أن يمنع تلاميذ الصف الثالث الإعدادي من تذكر صورة الفتاة التي سحلت معراة على أيدي الجند مع صورة السيدة المصابة برصاص الاحتلال عن طريق الخطأ؟ ومن سيمنعهم من رؤية ألسنة اللهب المتصاعدة من جرن القمح في دنشواي تخرج من نوافذ المجمع العلمي؟

* صحافي مصري