منذ أشهرٍ قليلة، أصدرت حكومة فلاديمير بوتين قانوناً يتيح لها إغلاق المنظمات الأجنبية «غير المرغوب فيها» وطردها من البلاد، وكانت المنظمة الأميركية المعروفة، «الوقف القومي للديموقراطية»، الضحية الأولى للقانون. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، سنّت روسيا تشريعات شديدة الليبرالية في ما يتعلّق بالمنظمات غير الحكومية، وتدفق التمويل الأجنبي، حتى في مشاريع تمس المجال السياسي الداخلي.
ولو أنّ القرار الروسي جاء في زمنٍ مختلف، لكانت هناك وجاهة في اتهامه باستهداف الحريات، وأنه ــ كما كتب رئيس «وقفية الديموقراطية» كارل غيرشمان ــ تعبير عن انهيار شعبية بوتين (الذي يحظى بأعلى معدلات تأييد منذ دخوله السياسة في روسيا).
إلا أنّه صار هناك، منذ الثمانينيات، تاريخٌ طويل خلف هذه المؤسسات، من «المعهد الأميركي للسلام» وملحقاته، الى «فريدوم هاوس»، وعدد كبيرٍ من المنظمات والصناديق الخاصة (كمؤسسة «سوروس») تدعم خططها وترفدها؛ وسجلٌّ موثق من النشاط السياسي في دعم الانقلابات و«الثورات» في دولٍ لا ترضى عنها أميركا، الى درجة أنه لم يعد من الممكن النظر إليها كمؤسسات خيرية تبغي التنوير، بل كلاعب سياسي أجنبي وليس أي شيء آخر. صار هناك عددٌ كبير من الوثائق والكتب حول نشأة هذه المنظمات والهدف السياسي من إيجادها، وكيف أنها تولّت العديد من المهمات والوظائف التي كانت، سابقاً، في يد وكالة الاستخبارات المركزية. حتى إنّ الأوراق الخاصة لبيل كاسي، مدير وكالة الاستخبارات في عهد ريغان ومهندس أهمّ هذه المؤسسات، تحوي على رسالة منه الى البيت الأبيض، تشجع على إنشاء «الوقف القومي للديموقراطية» وتشير الى ضرورة إخفاء دور المخابرات الأميركية في الموضوع («لا يجب أن نكون في الواجهة في تطوير هذه المنظمة، ولا نريد أن نبدو كممولين ودعاة لها»).
يدلّ صعود هذه «المنظمات (السياسية) غير الحكومية»، إذا قرأنا أدبيات مؤسسيها وأبرز وجوهها، على طموحٍ بتجاوز الفعل الاعتيادي للسياسات الاستعمارية. تاريخياً، كانت إمكانيات الدول الغربية للتأثير على الجنوب محصورةً بالأنظمة والاقتصاد والتحالف مع نخبٍ حاكمة. الّا أنّ دعاة «نشر الديموقراطية»، من جين شارب الى الإسرائيلي ناتان شارانسكي، يحاججون بإمكانية التأثير على المجتمع مباشرة، على ثقافة الناس، وعلى المجال السياسي «من تحت»؛ وهو مستوى من الهيمنة لم تصل إليه العديد من الأنظمة والحكومات في العالم النامي.
وفي مثالٍ ساطع على تداخل القوة والمعرفة، صعد ــ فوراً وبالتوازي ــ مصطلح «المجتمع المدني» في الأكاديميا الغربية، ليطغى على دراسة السياسة المقارنة (وخاصة في شرق أوروبا والشرق الأوسط) على طول التسعينيات. كتبت ليزا أندرسون أيّامها، بسذاجة ولكن بنيّة حسنة، أنّ مفهوم «المجتمع المدني» يسمح لجيلها، لأول مرة، بالتوفيق بين معتقداتهم السياسية (الديموقراطية والحرية) واهتماماتهم البحثية. إلا أنّ المفهوم، بالمعنى البحثي، ذوى وخرج من التداول؛ ولم ينتج المشروع الضخم الذي موّله «مجلس أبحاث العلوم الاجتماعية» ــ المرموق ــ عن «المجتمع المدني في الشرق الأوسط»، والكتب بنفس العنوان تحت إشراف أوغسطس نورتون، عن أجندة بحثية مثمرة، بل زادت الشكوك حول فائدة المفهوم وقيمته. كيف نفرّق بين «المجتمع المدني» و«الشعب»، أو «المواطنين»؛ وإن كان «المجتمع المدني» يُفهم ضمن تمايزٍ عن الدولة، فهل «القاعدة»، مثلاً، مجتمع مدني؟
اختفى التعبير تدريجاً من عناوين الدراسات والكتب، وصار يستخدم في أدبيات المنظمات غير الحكومية، والصحافة، والمخيلة الشعبية، ببساطةٍ كإحالة الى شبكة المنظمات غير الحكومية والممولة ــ غالباً ــ من الغرب، والتي صار لها لغتها وثقافتها وتكتيكاتها «المعولمة». وأضحت قادرة على حيازة تأثير معتبر بعد سنوات من النشاط والمراكمة، وغياب منافسين في مجتمعات فقيرة، تخلّت عنها دولها، وليس فيها قوى مجتمعية حية ورساميل وطنية مندمجة في قضاياها المحلية وتعوّض عن التمويل الأجنبي. إلا أنّ «المجتمع المدني»، لأنه عبارة عن شبكة مصالح سياسية وطبقية، ولأنه «طرفٌ» في نزاعات الداخل والخارج، يتصدّع ويأخذ صفةً إقصائية عند كلّ اختبار. في أوكرانيا، مثلاً، يصير الانقلابيون الموالون للغرب، وميليشياتهم، «مجتمعاً مدنياً»، فيما المنظمات الموالية لروسيا هي «ميليشيات». وفي العراق ولبنان أيضاً، هل يضمّ «المجتمع المدني» فقراء مدينة الثورة والخندق الغميق؟ هذا كان امتحاناً ليلة أمس في بيروت، حين صُدم نشطاء (يدّعون على الدوام تمثيل «الشعب» وفقرائه) بشعبهم هذا، وشبابه المقهور، الذي يشتعل الضيم في صدره كلّ يوم، ويبحث عن فرصة كي يفجّره في فرهود، وقد صدّق كلامهم عن الغضب والانتفاض وإسقاط النظام.