اللحظة الراهنة في مصر هي لحظة حرجة، لأنّها اللحظة التي يتقاطع فيها منطقان: الأول ينطلق من أنّ الثورة انتصرت وحققت أهدافها، ففتحت الأفق لصيرورة ديموقراطية هي التي سترسم طابع النظام الجديد. والثاني يرى أنّ ما تحقق لا يفي بتحقيق مطالب الشعب الذي انتفض، والذي تحدد في العمل والأجر والأرض والتعليم والصحة، والدولة المدنية، لأنّ الوضع لا يزال كما هو، والدولة التي تتكوّن لا تختلف عن دولة حسني مبارك، ملفوفة بثوب أصولي. وهذا التقاطع هو الذي يوجد الصراع القائم الآن، والذي يمكن أن يستمر، لأنّهما منطقان متناقضان.لا شك في أنّ المنطق الأول هو الأقوى، لأنّه يقوم على أربعة عناصر مهمة، و«مغرية». العنصر الأول يتعلق بكون الأمور سارت نحو الانتخابات، وإنشاء مجلس شعب تكون مهمته كتابة دستور جديد، يرسي أسس النظام الجديد. وذلك مطلب كبير، لطالما رددته «النخب» والأحزاب طيلة عقد كامل (على الأقل) من الصراع من أجل الديموقراطية. ولقد تمحور الصراع طيلة العقد الأول من الألفية الجديدة، حول رفض التمديد والتوريث، وهو ما كان يبدو تركيزاً على شخص الرئيس وعائلته. وربما كان من ذكاء المجلس العسكري أنّه حقق هذا المطلب، مما أدى إلى موجة فرح هائل في ميدان التحرير، ولدى الشعب المصري عموماً. وبالتالي، تأثرت فئات مجتمعية عديدة بذلك «الوعي»، وأصبح الخروج من الأزمة يمرّ بالانتخابات، وبالنتائج التي تفرزها. لذلك مالت لدعم خيار الانتخابات، وشاركت فيها، وأصبحت تعتقد بأّن المتظاهرين مشوشون، على أقل تقدير. وهو الوضع الذي فرض مشاركة كبيرة في الانتخابات، وتقليص الفئات المشاركة في ميدان التحرير.
العنصر الثاني يتعلق بالموقف من الجيش، ومن الاعتقاد بأنّه وقف مع الانتفاضة، وأسهم في انتصارها، كما أنّه جيش وطني، حارب الدولة الصهيونية، وطرد الملك وأسس الجمهورية قبل ذلك، وهو فوق «الشبهات»، وممنوع المسّ به. لذلك، أصبح هناك من يوافق على السياسات التي يتبعها المجلس العسكري، ومنها الانتخابات. وبات هناك من يريد أن يعطيه فرصة من أجل تحقيق المطالب الأخرى.
العنصر الثالث يتعلق بالمعارضة التقليدية، بما فيها جماعة الإخوان المسلمين، التي تساوقت مع منطق المجلس العسكري، وأصبحت ترى أنّ الانتفاضة انتهت، وبات من الضروري الانتقال إلى «نظام ديموقراطي» من بوابة الانتخابات التي ستأتي بمجلس يجعلها تصوغ هي الدستور الجديد. وتلك الأحزاب لم تشارك فعلياً في الانتفاضة، لكنّها تريد الآن أن تصبح هي المنتصرة، وأن تكون هي السلطة الجديدة.
والعنصر الرابع يتعلق بكلّ الفئات التي ظلّت تدافع عن نظام مبارك، والتي مثّل قسم منها القاعدة التي أنتجت البلطجية، فيما كان قسم آخر يرفض الانتفاضة ويحرّم الخروج على الحاكم، وهي القاعدة السلفية التي كانت سند سلطة مبارك، وستكون سند السلطة الجديدة. فهي باتت تدافع عن المجلس العسكري، وعن سياساته، وتعمل على فرض منطقه، ونجاح الخطوات التي يقوم بها، لأنّها تخدم الطبقة الرأسمالية المافياوية التي يعمل هؤلاء لديها، أو يرتبطون برابط نفعي معها.
لذلك، فإنّ الوضع العام يشير إلى أنّ الميل الشعبي هو نحو إنجاح الانتخابات، ودعم خطوات المجلس العسكري. وبالتالي يصبح كل استمرار للتظاهر أو الإضراب أو أي شكل من أشكال الاحتجاج «تخريباً»، و«تآمراً». إنّها «مطالب فئوية»، من منظور أنّها ضد مصالح الشعب ككلّ. ولذلك، فإنّ ميزان القوى، نتيجة تلك العناصر، يميل إلى دعم «الديموقراطية» بواسطة فئات شاركت في الانتفاضة، وأخرى لم تشارك أصلاً فيها، أو كانت ضدها. وموقف تلك الأخيرة نابع من معاداتها للانتفاضة أصلاً. ويكون «النصر» هو لذلك الخيار، الآن على الأقل. فالأمور تبدو كأنّها تسير نحو تأسيس دولة ديموقراطية، ستأتي بالحلول لمشكلات الشعب، كما عممت الأحزاب المعارضة كلّها قبل الانتفاضة، وأيضاً خلالها.
لكن الشعب لا يزال في الشارع، وميدان التحرير لم يخلُ من مئات الآلاف، وأشكال الإضراب والاعتصام والتظاهر تملأ كلّ شوارع مصر. لذلك، فإنّ المنطق الثاني الذي يتعلق باستمرارية الانتفاضة يُمارس واقعياً من قبل فئات مجتمعية، هي ليست كل المشاركين في انتفاضة «25 يناير»، لكنّها جزء مهم من هؤلاء. هؤلاء لا يقعون في وهم «التغيير الديموقراطي»، بل إنهم اكتشفوا أنّ المجلس العسكري «ضد الثورة»، وأنّ الانتخابات الآن لا تفعل سوى إعادة إنتاج نظام مبارك مغطى بآيات الله الحسنى التي يغدقها حزب «الحرية والعدالة» (واجهة جماعة الإخوان المسلمين). ما يجعل هؤلاء يكتشفون كل ذلك هو أنّهم من الفئات المفقرة إلى حدّ أنّها لا تستفيد من كل التغيير «الديموقراطي»، وربما لا يهمها أصلاً، وبالتالي ستبقى تقاتل من أجل تحقيق مطالبها في العمل والحد الأدنى للأجر، والظروف المعيشية الأفضل. هي فئات فقدت أبناءها في الانتفاضة ولم يجرِ تعويضها، إلى جانب الفئات الشبابية التي أدت دوراً محورياً في الانتفاضة، واكتشفت لعبة المجلس العسكري، مما فرض تجذير مواقفها، ودفعها إلى السعي نحو فرض قيادة مختلفة للمرحلة الانتقالية، هي مجلس رئاسي مدني يختاره الشعب، وأجندة أخرى تبدأ بإقرار دستور جديد.
وإذا لم يكن من خيار أمام الفئات المفقرة سوى الاستمرار في حراكها إلى حين فرض تغيير النمط الاقتصادي، بما يسمح بإيجاد فرص عمل وزيادة حقيقية للأجور، وإعادة بناء التعليم والصحة، فإنّ الفئات الشبابية سوف تلمس أنّ طرحها قد تجاوزه الزمن، لأنّ هناك من يعتقد بأنّ الانتخابات قد أصبحت أمراً واقعاً، أو لأنّه يجب أن يرتبط بتغيير النمط الاقتصادي، إذ إنّ كل الذين يمكن أن يتألف منهم المجلس الرئاسي، على أساس التوافق، هم ممن ليس لديهم خلاف عميق مع النمط الاقتصادي الريعي المافياوي القائم، ومن لديه ملاحظات فهي لا تطاول النمط ذاته (أي لا تسعى إلى بناء الصناعة وتطوير الزراعة، وتعزيز دور الدولة لتحقيق ذلك). وربما هذا الوضع هو ما يجعلهم أضعف الآن، إذ لا يبدو أنّ الخلاف سيكون كبيراً في الحال الراهنة (أي عبر سياسة المجلس العسكري) أو وفق الصيغة التي يطرحها هؤلاء، التي قد تؤسس لديموقراطية «جدية»، أو تجذير بنية النظام الديموقراطي (وليس ذلك مؤكداً). فالديموقراطية الممكنة في ظل اقتصاد ريعي هي «ديموقراطية» حسني مبارك، وربما أوسع قليلاً. وقد يكون هذا السياق هو سياق تبلور وعي الفئات الشبابية وتجذيره، لأنّ في ذلك تبلور التطابق السياسي لأهداف الانتفاضة، وفتح أفق التغيير الحقيقي، الذي يحقق مطالب الطبقات الشعبية. الآن، سيبقى المنطقان يتصارعان، وإذا كان المنطق «الديموقراطي» سيفرض تأسيس برلمان يصوغ دستوراً «جديداً»، فإنّ ميدان التحرير سوف يبقى نشطاً نتيجة استمرار الحراك من قبل الفئات الشعبية المفقرة. وما سيزيد من فاعليتها هو التحوّل الذي سيجري في موقف الفئات الشعبية التي تراهن الآن على الانتخابات. فموقف تلك الفئات ليس نابعاً من تمسكها بالديموقراطية، بل نتيجة شعورها بأنّ ما يجري سوف يوصل قوى تحقق مطالبها، وهي هنا تراهن على الإخوان المسلمين، أو على بعض الأحزاب الليبرالية. وهي المطالب التي تتعلق بالعمل والأجر. وبالتالي سوف تتلمس بالتجربة أنّ الأحزاب التي ستصل إلى السلطة لا تمتلك حلولاً لهذه المطالب، وأنّها تتمسك بالنمط الاقتصادي القائم، الذي أوصلها إلى وضعها الراهن. والإخوان هم كذلك ليبراليون في الاقتصاد، وسيحافظون على الوضع القائم فيما إذا ألّفوا الحكومة (كما يبدو من نتائج الانتخابات). هذا الأمر سيدفع المفقرين إلى الالتحاق بميدان التحرير، إذ لم يعودوا يستطيعون انتظار تحقيق مطالبهم. وهذا الوضع هو الذي سيعيد الانتفاضة إلى الواجهة، ويفرض توسيع الحراك، وتصاعد الصراع. مما يفرض انقلاب الوضع لمصلحة التغيير الثوري.
الشعب سوف يعود إلى الميدان بالضرورة، وبالتالي ستسقط المراهنة على طريق الانتخاب. وستسقط الأحزاب التي جرت المراهنة عليها، أي الإخوان المسلمون خصوصاً، لكن هل يكون الشباب الثوري قد أسس حزبه القادر على تسلّم السلطة لتحقيق مطالب الطبقات الشعبية؟ هنا يكمن التحدي.
* كاتب عربي