الطريقة التي تكوّنتت فيها مؤسسة الصحافة، تشير إلى أنّ المطلوب كان أن تكون ذاتاً بديلة للأكاديميا. هويتان تعزّزان بعضهما بعضاً بالتناقض: الأكاديمي العلمي، الموضوعي، العميق، النقدي، مقابل الصحافي السطحي، الذاتوي، الانتهازي.فوبيا الإعلام، والخطاب الآيكونوكلاستي المتوتر لبيار بورديو يؤكدان أنّه لا بوادر لحلٍّ «داخليٍّ» للهوة الأيديولوجية بين الإعلام والأكاديميا. فالوعي الحداثي قام أساساً على التوتر الابستيمولوجي بين المؤسستَين.
في مرحلة ما بعد الحداثة (أو الحداثة المتأخرة أو السائلة، أو أيّ اسم يُطلَق على التحوّلات الخطابية التي طرأت ما بعد الحرب العالمية الثانية)، هناك ضرورة لعقد جديد بين المفكر ومجتمعه، وإعادة صياغة بنود العقد ستؤدي بالضرورة إلى تحوُّل مؤسساتي يَعكس التحوّل الخطابي. ذلك أنّ عدم الجرأة على تطوير مؤسسة المفكر بالتوازي مع تطوّر الخطاب ما بعد الحداثي هو في أساس «الركود الفكري» الأطول منذ قرون، ذلك الذي نشهده منذ منتصف الثمانينات. فلا نقاش ولا تجديد ولا نصوص خلافية تحرك المياه الآسنة في الأكاديميا، بل طقوس تكرارية واجترار لنصوص جيلٍ «ذهبيٍّ» وَلّى.
يُشير إدوارد سعيد إلى أنّ وفاة ميشال فوكو ورايموند وليامز أَعلنت نهاية حقبة فكرية دون أن تتضح لنا معالم الحقبة التي تليها. ومحاولات ترميم مبنى الأكاديميا ــ عبر عودات ارتكاسية للمؤلِّف والإنسان والحقيقة ــ لم يكن من شأنها إلا تكريس الركود.
يَحلو لأقسام الإنسانيات الجامعية أن تعزو ذلك الركود إلى «الزمن الرديء»، زمن الصورة والإنترنت والنيوليبرالية... لكن ما هي إنجازات العلوم الإنسانية بعد قرنين على ولادتها؟ وإذا كانت جامعة همبولدت قد جَسّدت الحداثة مؤسساتياً، فأين هو التجسيد المؤسساتي لما بعد الحداثة؟ أي، أين هو مبنى «ما بعد همبولدت»؟
في 2010، صَدَر في لندن تقرير براون، الذي أوصى بإلغاء الدعم الحكومي لأقسام الإنسانيات الجامعية، مقابل إبقاء دعم أقسام الطبيعيات والهندسة. براون في تقريره يَكتفي بالحديث عما يسميه «أقساماً ذات أولوية» لا تَشمل الإنسانيات والعلوم الاجتماعية. على مدى سنتَين، تظاهر عشرات آلاف الطلاب في لندن متّهِمين الحكومةَ باستهداف الوعي التاريخي والنقدي للشعب.
ضرورة الإنسانيات لا تساوي ضرورة الإنسانيات الجامعية، ويمكنها أن تَزدهر في مؤسسات جديدة مختلفة. والأكاديمية الملكية البريطانية، التي أَصدرت كتبياً للدفاع عن الإنسانيات، لم تستوعب أنّ الأكاديميا هي مؤسسة عابرة، كما أيّ مؤسسة أخرى، اللهم إلا إذا كانت الجامعة هي مؤسسة كنسية ضرورتها قَبْلية (transcendental).
ما جرى هو أننا فَقَدنا الثقة التي مَنَحنا إياها المواطن في القرن التاسع عشر. حينها وَعدْنا المواطنَ بأنّنا سنحقِّق علوماً إنسانية صلبة كما الفيزياء (عند التجريبيين) والرياضيات (عند التأويليين والظواهريين). كانت العلوم الطبيعية الأمنية السرية لعلماء الإنسانيات، «يَعترف» كلود ليفي ــ ستروس. انتهى القرن التاسع عشر مع أجواء ربيعية، وأصبحنا في ربع الساعة الأخيرة لتحقيق «علوم» إنسانية. وتَجسَّد هذا الوعد العلمي في مؤسسة الجامعة ــ المختبر الانثربولوجي؛ لذلك فإنّ فشل الجامعة ابستيمولوجي وليس تواصلياً أو إدارياً، فهي لم تتمكّن من تحقيق وعدها باستخراج التفسير العلمي للظاهرة أو التنبؤ بمآلها أو التحكم فيها.
أدوات إقصاء الصحافة هي ذاتها استُخدمت لإقصاء المواطن العادي «common man»، المفتقِر المنهج «العلمي». في الوقت الذي يَرى فيه الفردُ العاديُّ الحركةَ السطحيةَ للأشياء، فإنّ عالِم الإنسانيات مستخدماً المناهج العلمية يرى حركةَ البنى العميقة، تماماً كما يرى طبيب الأشعة بنى الجسد الداخلية في حركتها وتحكُّمها في ما هو ظاهري.
لكن مع ما بعد الحداثة، تحوّلنا من مؤسسات تتمحور حول «مسألة العلم»، إلى مؤسسات تتمحور حول «مسألة الصوت». بمعنى أنّ هدف المفكر لم يعد تحقيق «علم» للإنسان، بل «تحرير» أصوات مقموعة. ميشيل فوكو تحدث عن المعارف المقموعة، وجاك دريدا عن المسكوت عنه في الخطاب، وإدوارد سعيد عن القراءة الطباقية، حيث نَقرأ في ثنايا النص نصاً آخر مقموعاً. ريتشارد رورتي تحدث عن «المفردات التي أفضِّل». المفكر بات وسيطاً بين الفرد والفرد الآخر، لا بين الفرد والحقيقة.
إنّ أدبيات ما بعد الحداثة، وخاصةً الأركيولوجيا وفكرة رصد اللُقى في تَبعثرها، هي ردّ فعل على بؤس مسيرة التفسير العلمي في الإنسانيات. «نحن دائماً نزيِّف الأدلة»، يقول سعيد.
في أوائل السبعينيات، أسس فوكو لقطيعة مؤسساتية ابستيمولوجية: «مجموعة معلومات السجن». هدف تلك المجموعة ليس تحرير بحوث علمية حول وضع السجناء، بل تأمين منبر للسجناء ليتكلموا من خلاله عن أنفسهم. نحن أمام ممارسة فكرية جديدة: المفكر كمؤمِّن لمنبر، بدل أن يكون عامل مختبر؛ المفكر كمدير حوار، بدل أن يكون محاضراً نبياً، وصياً على الحقيقة. إنّها استراتيجية «دع الآخر يتكلم».
يبيع أكاديميّ الإنسانيات اليوم صكوك الغفران لا أكثر، وممارساته هي ذاتها ممارسات الكنيسة في عهد مارتن لوثر: إخفاءٌ للحقيقة عن الجمهور، وإبقاءٌ للكتاب المقدس خارج نطاق فهم الفرد العادي. عدّل لوثر في العلاقة بين الفرد والنص المقدس من جهة، وبين الفرد والكاهن من جهة أخرى. واليوم نحن بحاجة إلى إصلاح للعلاقة بين الفرد والمفكر من جهة، وبين الفرد واختباره لتجربة وجوده من جهة أخرى.
المطلوب اليوم، هو جعل التفلسف شأن كلّ الموجودين، بدل الزعم أنّنا قادرون على اكتناه حقائق وجودنا بمناهج علمية نختصّ بمعرفتها دون غيرنا. إنّها «أُنطولوجيا ديموقراطية»: حق المواطن العادي في التفلسف. إذا كان تأويل النص المقدس قد جُعل شأناً فردياً، فما بالنا بتأويل النصوص الفكرية؟
إنّ أزمة العلوم الإنسانية اليوم هي تماماً أزمة الميتافيزيقا في القرن الثامن عشر، حين اعتُبِر أنّ الميتافيزيقا غير قابلة للتقدُّم والمحاكمة العلمية، فجرى إعدام كمّ نصّي هائل تحت شعار «نقاش لا جدوى منه». واليوم نواجه الأمر ذاته مع العلوم الإنسانية: «نقاش لا جدوى منه»، وعلينا أن نتقدّم باتجاه أشكال أكثر ديموقراطية وأقل وهماً. مهمة المفكر كمدير للحوار، بدل اكتشاف الحقيقة هي استعادةٌ للسفسطائيين اليونان، الذين كان ميدان اشتغالهم الفعل الديموقراطي (أي حقّ الإنسان العادي في الاختيار)، الاختلاف، المنبر، والصوت. هنا يصبح مطلب أسعد أبو خليل في مقاله الأخير في «الأخبار» (العدد ١٥٩٤ السبت ٢٤ كانون الأول ٢٠١١) «نسف صيغة المثقف وفئته من أساسها كي يَنفتح المجال أمام الجميع من مختلف الفئات والطبقات للمساهمة في النقاش الثقافي والسياسي»، مشروعاً مؤسساتياً مع التذكير بأنّ «مجتمعاً دون بنى سلطوية هو وهم» (فوكو). الإنسانيات لا تموت، إنّها وجودنا الواعي نفسُه. كل ما هناك أنّ مؤسساتها تتغيّر، وهذا ما لم تَستوعبه الجامعة بعد. وكما سَهَّل دمارُ الحروب النابليونية الإصلاحَ الجذري للمؤسسة الفكرية فكانت جامعة همبولدت، يمكننا أن نستغلّ الأزمة المالية العالمية لتحقيق إصلاح جديد وتكريس عقد، عابر وتاريخانيّ ولا شك.
إنّ مؤسسات الأبحاث التي تعرف باسم «think tanks» الراهنة يمكنها أن تُؤدي دوراً أساسياً في انتشال المفكر من مؤسسة «النظام القديم». ذلك أنّ تلك المؤسسات تقوم على أربعة أعمدة، هي الباحث، والصحافي، والسياسي، ورجل الأعمال؛ والعلاقة الفكرية هي بالضبط بين مكونَيها الباحث والصحافي، وبالتالي فإنّ علاقة جديدة تَنشأ في ظل الـ«think tanks» تَجسر الهوة الأيديولوجية بين المفكر والإعلام، وإنْ كان ذلك يجري حتى الآن دون رؤية واضحة، على أمل أن تُطلَق مبادرة بهذا الصدد قريباً.

* صحافي لبناني