إن اعتداء تركيا، من وقت إلى آخر، على مناطق حدودية مع العراق، أو الشام مؤخراً، بحجة مطاردة من أسمتهم بـ«متمرّدي» حزب العمال الكردستاني المتحصّنين في شمالي العراق، منذ سقوط النظام السابق، أو «وحدات الحماية الكردية» التي تقاتل الجماعات التكفيرية المؤتمرة بأوامر تركيا، في أعالي الجزيرة السورية، لم يكن الاعتداء أو التهديد التركي الأوّل وقد لا يكون الأخير. فقد سبق لتركيا، وللذرائع نفسها، أن اعتدت على تلك المناطق أو هدّدت باجتياحها، منذ استيلائها، عشية الحرب العالمية الثانية، على لواء الإسكندرونة ومدينة أنطاكية، عاصمة سورية في العهد السلوقي ومركز البطريركية المسيحية في سائر المشرق. ولم تخفِ تركية، يوماً، نيتها في احتلال الموصل وحلب والجزيرة العليا، وها هي، اليوم، تتحيّن الفرصة لتحقيق أطماعها في تلك المناطق الحيوية.إن الأطماع التركيّة التاريخيّة في الهلال الخصيب - موطن الأكراد ومسرح حوادث المسألة الكرديّة – وافتقار هذا الهلال، لقرون خلت، الى دولة قوميّة مركزيّة تقف على مستوى واحد، من القوة والاقتدار، من الدولتين الجارتين المعنيتين، أيضاً، بهذه المسألة، عنيت تركيا وإيران... هذه الأطماع موصولة بانعدام السيادة القومية سبب رئيسي في انكشاف دول الهلال الخصيب كافة أمام التهديدات التركيّة وسواها من التهديدات التي تعبّر عن أطماع خارجية حقيقيّة، تارة في طور الكمون، وتارة في طور التحرك.
ونظراً للتطوّرات الاقليميّة والدولية المتسارعة في منطقة شرق المتوسط، خصوصاً تلك الجارية، حالياً، في سوراقية (سورية والعراق)، وعلى الرغم من الخطوة الأخيرة المتسرّعة التي قامت بها بعض الجماعات الكردية، بإعلانها المناطق السورية الشمالية، ذات الأغلبية الكردية، إدارة ذاتية، في إطار دولة سورية فيدرالية، وتشبث جماعات كردية أخرى في شمالي العراق بالانفصال النهائي عن العراق وإعلان شماله دولة كردية مستقلة... يبقى هنالك إمكانية لأن يُشكل أكراد الهلال الخصيب الثائرون، منذ سنين طويلة، ضد الدولة التركية وضد الأنظمة الجائرة التي سلبتهم أبسط حقوق المواطنية، سلاحاً ماضياً - إذا أحسن استعماله - لصالح القضية القومية المركزية، كقضية عامة غرضها تحقيق المساوة التامة بين جميع السوريين، على اختلاف أصولهم الإثنية وانتماءاتهم الدينية. فالأكراد، إثنياً وديموغرافياً، يشكلون أكبر مجموع سوري على الإطلاق (25 مليون)، ويُعرفون بعصبيتهم القوية ومزاجهم الحاد، ما جعلهم يحافظون، على عكس الغالبية الساحقة من سائر مكونات الشعب السوري، على خصوصية ثقافية مكنتهم من البقاء، على الدوام، مستنفرين للدفاع عن أنفسهم، بصرف النظر عن النظام السياسي الذي يتبعونه أو الحكومة التي تحكمهم.
إن الاجتياح التركي، أو التهديد الدائم بالاجتياح، والمواجهات الدامية بين الجيش التركي والأكراد في ديار بكر ولواء الإسكندرونة وسواهما من المناطق السورية المحتلة، والمتزامنة، هذه الأيام، مع الحرب العدوانية الدولية على سورية، تُعيد المسألة الكرديّة، بقوة، إلى واجهة الأحداث، بعدما تحوّلت في فترات كثيرة، من التاريخ، إلى مجرد حدث روتيني. ولذلك، إذا ربحت سورية القومية (سوراقية) الأكراد، هذه المرة، ربحت معركتها ضدّ تركيا والقوى الإقليمية والدولية المتحالفة معها، فهل ستُحسن سوراقية قيادة المعركة، أم أنها ستفشل؟ إنّ الأيام القادمة حُبلى بالمفاجآت!
من هم الأكراد؟ وهل يُشكلون نسيجاً متميزاً أم أنهم جزء لا يتجزأ من النسيج القومي لسكان المناطق السورية حيث يتواجدون؟ ما كردستان؟ وهل تشكل بيئة طبيعية خاصة أم أنها جزء من الهلال الخصيب، حيث تُشكل خاصرته الشمالية؟
ينتشر الأكراد، حالياً، في أربع دول رئيسيّة متجاورة هي تركيا، العراق، إيران وسورية/ الشام. ويربو عددهم على الخمس والعشرين مليون نسمة كما تقول مصادرهم: ثلثاهم في تركيا بحدودها السياسيّة الحاليّة والثلث الآخر في الدول الثلاث الأخرى: إيران، العراق وبلاد الشام، فضلاً عن وجود أقليّات كرديّة منتشرة في أرمينيا وأذربيجان، شمالي بحيرة أورمية وبحيرة وان.
هل يُمثّل الأكراد نسيجاً متميزاً أم أنهم جزء لا يتجزأ من النسيج القومي لسكان المناطق السورية؟

في تركيا حيث توجد أكثريّة كرديّة ينتشر الأكراد في الجنوب، لا سيما في ديار بكر، وفي شرق تركيا، عند المثلث التركي – الإيراني – العراقي. هذه المناطق جميعها التي ينتشر فيها الأكراد والتابعة، سياسيّاً، إلى تركيا الإداريّة الحاليّة، هي، جغرافيّاً، جزء من الهلال الخصيب استولت عليها تركيا العثمانية فتركيا- الفتاة، بتواطؤ فرنسي – بريطاني، في مرحلة ما بين الحربين العالميّتين.
أكراد إيران، بدورهم، هم امتداد جغرافي ديموغرافي لأكراد تركيا وهم، كإخوانهم في تركيا، غير معترف بهم قانونياً كمجموع ثقافي ذي خصوصيّة. وقد دأب كل من النظامين الإيراني والتركي، دون جدوى، على تفريسهم في إيران، وتتريكهم في تركيا، على امتداد الفترة الماضية، كما تعمّد هذان النظامان إهمال مناطقهم فعاشوا، في معظمهم، في حالة من الفقر والعوز والجهل، وما زالوا!
أكراد العراق تمتعوا، اسميّاً، بحكم ذاتي في عهد النظام البعثي السابق، أما اليوم فيأمل بعضهم في الحصول على الاستقلال التام عن العراق وإنشاء دولة خاصة به، بعدما تمكّن هذا البعض - وبمساعدة دوليّة - في العقود الأخيرة، من إقامة إدارة محليّة شبه كاملة على أجزاء واسعة من كردستان العراق. في حين أن أكراد سورية/ الشام ينتشرون على امتداد خط الحدود السياسيّة مع تركيا، في الحسكة والقامشلي، وفي حلب ودمشق أيضاً.
هذا، بالنسبة لمناطق الانتشار الكردي، أما بالنسبة إلى «كردستان» فهي هضبة تقع في الزاوية الشماليّة الشرقيّة للهلال الخصيب. يحدّها شرقاً الجزء الشمالي من سلسلة جبال زغروس (البختياري) التي تشكل الحدّ الفاصل بين الهلال الخصيب والهضبة الإيرانيّة، وشمالاً جبال كردستان التي هي امتداد طبيعي، من جهة الشرق، لسلسلة جبال طوروس الغربيّة التي تشكل الحدّ الفاصل بين الهلال الخصيب وهضبة الأناضول. أما الخرائط السياسيّة لكردستان التي تروّج لها بعض الأحزاب والقوى الكرديّة فقد تجاوزت كثيراً (ولأسباب سياسية) حدود إقليم كردستان الحقيقي، وقد تعقّب أصحابها، بعيداً، العشائر التي تحّدرت من أصول كرديّة، أو تلك التي تتحدث اللغة الكرديّة بصرف النظر عن أصولها الإثنيّة أو أماكن انتشارها أو تمددها. ذلك أن التحركات الديموغرافيّة الناشئة عن الأحداث السياسيّة، في القرون الأخيرة، قد أحدثت امتدادات لهذه الجغرافية الطبيعيّة وفقاً للامتداد السكاني، وذلك في اتجاهات عدة أكثرها أهميّة وكثافة باتجاه داخل الهلال الخصيب: غرباً في اتجاه ديار بكر، ومردين (وكلّما اتجهنا أكثر غرباً صوب الاسكندرونة وكيليكيا يضعف التواجد الكردي ويتواتر مع فئات أخرى سريانيّة وأرمنيّة)؛ وجنوباً في اتجاه الحسكة، حلب، دمشق، فلسطين، الأردن ولبنان حيث يتواتر الوجود الكردي أيضاً كلّما ابتعدنا جنوباً وشرقاً. هناك امتداد آخر باتجاه الشمال والشرق تجاوز الحدود الطبيعيّة لإقليم الهلال الخصيب: شمالاً في اتجاه أرمينيا، وشرقاً في اتجاه إيران.
لقد حصل هذا الانتشار، في كلا الاتجاهين، على شكل جماعات رعوية، انطلاقاً من منطقة المثلث العراقي – التركي – الإيراني. ففي اتجاه الشمال، دخل هؤلاء الأكراد إلى الأراضي الأرمينيّة وقد شجّعهم الأتراك العثمانيّون على ذلك في القرن التاسع عشر، بهدف زرع مناصرين لهم، ذوي أكثرية مسلمة، داخل أرمينيا. وعندما ارتكب الأتراك المجازر ضد الأرمن، إبان الحرب العالميّة الأولى، تكثف الوجود الكردي في تلك المناطق طمعاً بالاستيلاء على ممتلكات الأرمن المقتلعين من ديارهم وأراضيهم. لكن الأتراك، بعد أن استتبّ لهم الأمر في أرمينيا، وجّهوا ضربة قاسية للأكراد حدّت من وجودهم الذي انحسر هناك إلى سلسلة الجبال المحاذية مباشرة لجبال طوروس الشرقيّة، وشهدت المدن الأرمينيّة، في تلك النواحي، لجوء أعداد كبيرة من الأكراد إليها. أما في اتجاه الشرق، فقد تحرّكت الجماعات الرعويّة المنتشرة على الجبال المتاخمة لسلسلة جبال زغروس الشماليّة في اتجاه بحيرة أورمية حيث قامت عندها في عام 1947 جمهوريّة «مهاباد» التي ما لبثت أن سقطت نتيجة للمساومات الدوليّة بين إيران والاتحاد السوفياتي.
بعد الحرب العالمية الأولى، وقد دخل الأكراد طرفاً في لعبة الصراع بين الدول العظمى، كروسيا وبريطانيا، على النفوذ في منطقة الشرق الأدنى، تطوَّرت المسألة الكردية تطوراً خطيراً، ولم يعد الأكراد مجرَّد مجموعة إثنية عنصرية منعزلة على نفسها يجب إخراجها من عزلتها، بل تحوَّلوا إلى كرة يتقاذفها المتصارعون الكبار على المنطقة، بعد أن شكَّلوا كتلة بشرية هامة في أعالي المنطقة المعروفة بالمثلث السوري – الإيراني – التركي، كتلة لها وزنها في استراتيجيات القوى العظمى المعنية بالوضع الجيوسياسي للهلال الخصيب.
كان الوجود الكردي، قبل هذا التاريخ، مقتصراً على الأكراد المتواجدين في شمالي سورية، والاسكندرونة وديار بكر، وبعض المدن السورية الكبرى. وكانوا قد بدأوا في الانصهار في المجتمع السوري ولم يظهر منهم ما يشي باعتراضهم على الانصهار أسوة بغيرهم من العناصر والإثنيات الأخرى لولا بعض الحوادث المتفرِّقة التي كانت تجري، من حين إلى آخر، في الجزيرة السورية، واللواء المحتل، احتجاجاً على ممارسات «الكتلة الوطنية» الحاكمة حينذاك في دمشق. تلك الممارسات التي عبَّرت عن نعرة عنصرية عروبية معادية للأكراد ولغيرهم من الأقليات الأخرى، وأدّت إلى النتيجة الوحيدة لكل سياسة عنصرية: تنافر العناصر الداخلة في النسيج السوري وتصادمها، ما أدّى إلى انصراف بعض العناصر الكردية عن تأييد الحكم السوري الوطني، وإلى تودّد بعضهم الآخر إلى الأتراك إظهاراً لنقمتهم على سياسة «الكتلة».
في العقد الأخير من القرن العشرين المنصرم، وبعد تقدم العلوم التاريخيّة والأركيولوجيّة في أوساط المثقفين الأكراد، نشأ اتجاه جديد حول أصل الأكراد ومنشئهم وهويّتهم ما لبث أن شكّل تياراً فكريّاً – سياسيّاً يقول بأن الأكراد سومريّون. وبدأ هذا التيار الذي يشكّل حزب العمال الكردستاني أحد أهم روافده يكشف عن حقائق جديدة في الموضوع ويصوغ اثباتات تردّ الأصول الكرديّة إلى بلاد الرافدين، وتنسف فكرة الهجرة من الخارج. وقد أراد هذا التيار من أطروحته أن يضع حداً للتأويلات الجارية التي تدعو الأكراد بـ«الغرباء»، مؤكداً قدمهم في هذه البلاد وأحقيتهم فيها بالتساوي مع سائر الأصول والإثنيّات الأخرى المكوّنة لها.
في الحقيقة، لا تعدو الخرائط السياسيّة لكردستان أن تكون نوعاً من الخيال، أو مبالغات لا معنى لها. فغلاة الأرمن، أيضاً، يضمّون في بعض خرائطهم أقساماً من «بلاد الشام والعراق» يصل بعضها إلى شمالي حلب ويصل الآخر إلى كيليكيا مروراً بمرعش وأورفة كما يقضمون قسماً واسعاً من كردستان، تماماً كما هي الحال مع الخرائط الكرديّة التي تضم جزءاً غير يسير من أرمينيا.
لكن الملفت في هذه الخرائط أن المناطق الزائدة عن الحدود الطبيعيّة لاقليم كردستان لا تشكّل في التفكير السياسي العملي للمفكرين الأكراد سوى مناروة للحصول على ما هو حقيقي وطبيعي، أي المنطقة الكرديّة الأساسيّة الموجودة في الشمال الشرقي للهلال الخصيب. ومن الملفت أيضاً أن الحراك الثقافي والاجتماعي والسياسي الكردي كان يتولّد ويتطوّر وينتشر، تلقائياً، من داخل الكتلة الاجتماعيّة السياسيّة في «بلاد الشام وما بين النهرين» باتجاه مناطق التمدّد الكردي خارج الحدود الطبيعيّة، حيث يبدو أن الأكراد، في تلك المناطق، منفعلون، دائماً، بالتأثير القادم إليهم من داخل الوطن، في حين أن بعضهم ممن ينتشر في مناطق التمدد البعيدة ليس له أي جاذب تجاه المسألة الكرديّة، وذلك لقوة تأثير وجذب المجتمعات الأخرى التي يتواجد فيها.
نستنتج مما تقدم:
1ــ إن «جغرافية» كردستان و«حدودها» تقع كلها، أو في معظمها على أقل تقدير، ضمن البيئة الجغرافية للهلال الخصيب. وما يبدو منها لبعضهم أنه واقع خارج حدود هذه البيئة فهو، حتماً، واقع في حدود مداها الطبيعي أو مجالها الحيوي. فتاريخ نشوء الأمم وتطورها يُخبرنا أن فاعلية الأمة وحيويتها تُعدّل حدود بيئتها الطبيعية، خالقة ما اصطلح على تسميته بـ«المجال الحيوي» الخاص بكل أمة متنبهة لحقوقها ومصالحها. فإذا كانت الأمة قوية نامية تغلّبت على الحدود وامتدّت وراءها فتوسّعت حدودها. وإذا كانت الأمة ضعيفة، ذاوية، تقلّصت عن حدود بيئتها الطبيعية (سعاده، المحاضرات العشر، ص 71). وهذا ما جرى لمعظم الأمم، نابهها وخاملها، ومن بينها سورية أو الهلال الخصيب حيث امتدّت حدودها، في العهدين الأكادي والآشوري، إلى ما وراء جبال زغروس وطوروس لتأمين حدودها الشمالية وبالتالي سلامة رعاياها الذين استوطنوا تلك الجبال ووديانها وضفاف أنهارها وبحيراتها، وأقامت الدول السورية، الأكادية والآشورية، مراكز مراقبة وراء بحيرتي أورمية وان. وكما امتدّت حدود سورية في فترات سابقة تقلّصت في فترات لاحقة وخسرت، حديثاً، لتركيا أغنى مناطقها وأجملها، حيث توجد فيها أغلبية ديموغرافية كردية.
2 ــ أن الأكراد، من حيث هم سكان «كردستان» الخاصرة الشمالية للهلال الخصيب، هم سوريّو المنشأ (بالمعنى القوميّ للعبارة). بل أن الكثير منهم يتحدر من أصول إثنيّة سورية متعددة، سومرية وآشوريّة وكلدانيّة وسريانيّة. فالوقائع التاريخيّة تؤكّد أن كثيراً من هذه العناصر اضطُر، لاحقاً، تحت وطأة الاضطهاد الديني أو الضغط السياسي إلى تغيير دينه ولغته وإقامته، وانتهى به الأمر إلى أن أصبح اسمه كردياً.
3_ إن سكان «كردستان» لم يطرأ عليهم تبدل ديموغرافي أكثر من التبدلات الديموغرافيّة لأي منطقة أخرى من مناطق الهلال الخصيب. وهذه التبدلات، في غالبيتها، كانت تجري داخل البيئة الجغرافيّة نفسها (أي من مناطق مختلفة فيها إلى كردستان، ومن كردستان إلى بقيّة المناطق) كما سبقت الإشارة. والجدير بالذكر، أن بعض العشائر التي خرجت من كردستان باتجاه الداخل السوري فقدت أوصافها الكرديّة تدريجيّاً وحملت أوصافاً جديدة، فتخلّت بذلك عن كرديّتها بعدما امتزجت مع بقيّة مكوّنات الكتلة الاجتماعيّة السوريّة في الهلال الخصيب.
4ــ إن التمددات الكرديّة، خارج حدود الهلال الخصيب، يمكن أن تُفيد أي دولة قوميّة مركزيّة قد تنشأ في هذه المنطقة في مدّ حدودها الطبيعيّة باتجاه «مجالها الحيوي» في الهضبتين الإيرانيّة والأناضوليّة: فانطلاقاً من التمدد «الكردي _ الآشوري_ السرياني _ العلوي _ الأرمني» غرباً باتجاه بحيرة وان تتمكن الدولة القوميّة المركزيّة التي قد تنشأ في الهلال الخصيب والتي تدرك أهمية «المجال الحيوي» من السيطرة على متن الجبال الحدوديّة الشماليّة الغربيّة بكاملها وصولاً إلى سفوحها من الجهة الأخرى. ما يعني أن تلك الدولة العتيدة يصبح بمقدورها أن تصحّح خط الحدود الحالي الذي يفقدها الكثير من أراضيها لمصلحة جارها التركي وتنقله إلى خط رواقم جبليّة أكثر استراتيجيّة يمكّنها من السيطرة على المنابع المائيّة بشكل أفضل وكذلك من السيطرة على الممرات الحيويّة الضروريّة لأمنها واقتصادها، الأمر الذي يؤدي إلى تحرير منابع نهري دجلة والفرات ونهري سيحون وجيحون، أيضاً، وروافدها، جميعها، الخاضعة حاليّاً للسيطرة التركيّة، والتحكّم كليّاً بمياهها لجهة استغلالها وطريقة استخدامها. أما التمدّد الكردي والأرمني شرقاً باتجاه بحيرة أورمية فإنه يُصبح هو، أيضاً، ممكناً على متن الجبال المتفرعة من سلسلة جبال زغروس لمسافة في العمق الإيراني بحيث تصبح لساناً حدودياً فاصلاً بين اذربيجان (الإيرانيّة) وبقيّة إيران وجسراً حيويّاً، سياسياً واقتصادياً، في غاية الأهميّة في استراتيجيّة الدولة القوميّة المركزيّة، مستقبلاً. وقد تنبّه الملك سرجون الأكادي الكبير باكراً إلى أهميّة هذا المنفذ الاستراتيجي في اتجاه إيران وبحر قزوين فأنشأ عدداً من المستوطنات في محيط بحيرة أورمية، منذ أكثر من أربعة آلاف عام، بغرض تأمين السيطرة عليه. وهو الأمر الذي تكرّر مع الآشوريين حيث أقاموا محطات تجارية ذات أهمية!
كردستان، إذن، إقليم جغرافي سوري بالكامل، وهو جزء أساسي وحيوي من البيئة الجغرافيّة للهلال الخصيب. والأكراد، في عمومهم، سوريّون ما عدا الذين هاجروا وانتموا نهائيّاً إلى أوطان أخرى وشاركوا في حياتها القوميّة. وهؤلاء ليس لهم، جميعاً، أي علاقة بالمسألة الكرديّة التي هي مسألة سوريّة بالكامل! الأمر الذي يجعلنا نعتبر كردستان كياناً سياسياً مثله مثل جميع الكيانات السورية القائمة، كلبنان أو العراق أو شرقي الأردن، ويتحمل شأن أي من هذه الكيانات – وبالاشتراك معها - مسؤولية النهوض بالمصير القومي العام والذود عن القضية القومية وتحقيق السيادة الفعلية.
* كاتب وأستاذ جامعي