في ذروة أزمة تأليف الحكومة العراقية، وخلال زيارة رئيس الوزراء نوري المالكي إلى تركيا واجتماعاته الطويلة مع القادة الأتراك، راجت أقاويل وتحليلات وتكهنات، قد يكون مصدرها أوساطاًً معينة في حزب المالكي نفسه، «الدعوة»، مفادها أنَّه متأثر ومعجب بتجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا. حزب ذو خلفية إسلامية يحاول بنجاح حتى الآن المزج أو المزاوجة بين هذه الخلفية والعلمانية في صورتها الأتاتوركية المغالية. ومن المعلوم أنّ تجربة حزب الدعوة الإسلامية بقيادة المالكي في الحكم لا تكاد تذكر. هي في المقام الأول تجربة المالكي شخصياً. والنجاحات التي أحرزها هذا الحزب، وخصوصاً في بغداد في الانتخابات الأخيرة، إنما كانت نجاحات للمالكي، وتحديداً لأنّه انشقَّ وتمردَ في فترة معينة على مشروع الاحتلال الهادف إلى إقامة نظام حكم المحاصصة الطائفية العراقية وترسيخه. وحين وقف المالكي ضد التوجهات التكفيرية والطائفية، وضرب بحزم الميليشيات الشيعية والسنّية، ارتفع سهمه بين أوساط واسعة من العراقيين من جميع الطوائف. هكذا، لا يمكننا أن نعدّ تلك النجاحات نجاحات للحزب بل لزعيمه. والخلاصة التي دلَّلت الأحداث في ما بعد على صحتها تقول إنَّ الأحزاب الدينية لا مستقبل لها في مجتمع تعدّدي ذاق مرارة التقاتل الطائفي والمذهبي كالمجتمع العراقي. الدليل على ذلك نجده في خروج أحزاب وجبهات دينية «شيعية وسنّية» كانت ذاتَ وزنٍ ثقيلٍ ذات يوم، من الساحة السياسية والاجتماعية، أو تحوّل هذه الأحزاب إلى قوى هامشية ورمزية كما هي الحال مع حزب المجلس الأعلى «الشيعي» والحزب الإسلامي «الفرع العراقي لحركة الإخوان المسلمين» وجبهته التي يقودها «التوافق». ولو كانت مواقف المالكي العملية كقائد للسلطة التنفيذية عكس ما كانت عليه، ولو أنّه اتبع النهج الديني الإسلامي الشيعي المتشدد الذي يُحسب عليه عادةً، لما اختلف مصير حزبه سياسياً عن مصير حزب الحكيم أو الإخوان المسلمين.يبدو أنّ هذه التطورات، سواء صحتْ تلك الأقاويل عن تأثر المالكي وإعجابه بتجربة حزب العدالة والتنمية التركي، أو لم تصح، أخذت منحىً آخرَ ومعاكساً منذ فترة قريبة. فكما يبدو، عاد حزب المالكي ـــــ أو أعيد على أيدي قيادات معينة فيه ـــــ إلى تراثه الإسلامي الشيعي المتشدد. ومن مظاهر ودلائل هذه العودة، ما حدثَ من تخريبٍ لمهرجان بابل الفني وطردٍ مهينٍ للفرق الموسيقية والراقصة العراقية والأجنبية بأوامر من الحكومة المحلية لمحافظة بابل، التي يهيمن عليها حزب المالكي، إضافة إلى المضايقات الكثيرة ذات الطابع المعادي لمظاهر الحداثة في مهرجان المربد، وأخيراً الهجمة الشرسة لمحافظ بغداد صلاح عبد الرزاق، ورئيس مجلس المحافظة كامل الزيدي، وكلاهما من قيادة حزب المالكي، على ما عدّه مثقفون بغداديون مظاهر الحريات الفردية، إذ أصدرا قرارات متتابعة بمنع بيع المشروبات الكحولية وإغلاق النوادي الليلية، ومنها النادي الاجتماعي لاتحاد الأدباء العراقيين، وإجبار رئيس الاتحاد على التوقيع على بلاغ رسمي لا يخلو من التلميحات المُهِينَة، منها أنّ إغلاق النادي يأتي أسوة بإغلاق البارات والملاهي الليلية غير الشرعية. وحين احتجَّ أصحاب المحال، وأغلبهم من المسيحيين، على قرارات الإغلاق، قيل لوسائل الإعلام إنّ رخصهم لم تجدد منذ زمن طويل. لكنّ النائب المسيحي يوناديم حنا دحض هذه المعلومة وقال إنّ هيئة السياحة والآثار الحكومية المكلفة بمنح تلك الرخص رفضت تجديد رخص تلك المحال أو إصدار أخرى جديدة لأسباب قال المسؤولون الحكوميون في هذه الهيئة إنّها شرعية دينية. وحين اعتصم مثقفون بغداديون في شارع المتنبي احتجاجاً على ما عدّوه مظاهر «خنق الحريات»، جوبهوا بحملة قاسية من الشتائم والتشنيعات من قبل رسميين في المحافظة ومجلسها ومن رجال دين هرعوا لنجدتهم. وبعد يومين، اهتزّ الوسط الفني لما قيل إنّه قرار من وزير التربية خضير الخزاعي، وهو من حزب المالكي أيضاً، يمَنعُ فيه تدريسَ الموسيقى والمسرح في معهد الفنون الجميلة ببغداد، أحد أعرق معاهد الفنون الجميلة في الشرق الأوسط، وينص على إخلاء المعهد من التماثيل والأعمال النحتية، «الأصنام». وإزاء ردّ الفعل القوي من الطلبة وأساتذتهم، تراجعت الوزارة عن قرارها كما يبدو، ولكنّها اعترفت بأنّها إنما منعت تدريس المسرح والموسيقى للإناث فقط في المعهد المذكور وقررت عزلهن عن الذكور في قاعات التدريس. لكنَّ المسؤولين في المعهد رفضوا تنفيذ تلك التعليمات، لأنّها جاءت بقرارات وأوامر شفوية وليست تحريرية.
وكخلفية مشهدية لهذه الأجواء والأحداث، انتشرت أخيراً في شوارع بغداد وساحاتها وبعض المحافظات ظاهرة تعليق اللافتات والنداءات الملونة التي تحثُّ الجميع على الالتزام بالحجاب الإسلامي، وتحذر من مخالفة الأوامر الإلهية. وإثر تلك الأحداث والتطورات هرع عدد من القيادات الإسلامية الشيعية لتأييد هذه الحملة وتشجيعها. الشيخ اليعقوبي، المرشد الروحي لحزب الفضيلة الإسلامي، والمتهم من أطراف عديدة بأنّه الحزب الذي يقف وراء ما عُرِفَ بفضائح تهريب النفط في محافظة البصرة، أصدر بياناً يؤيّد فيه تلك «الثلة المؤمنة الصالحة التي لا تأخذها في الله لومة لائم...»، التي كانت خلف إصدار هذه القرارات. وقد نال اتحاد الأدباء حصته من غضبة اليعقوبي، إذ وصفه بأوصاف شنيعة. قال «لقد أثبت ما يسمى اتحاد الأدباء أنّه لا أدب له ولا حياء، والعار له ولكل من ساند حركته هذه، ولقد كان ينقل لنا ما يجري في ناديهم من سكر وعربدة ومخاز». كذلك هرع الشيخ صدر الدين القبانجي المعروف بخطاباته الطائفية النارية خلال فترة التقاتل المذهبي، إلى المشاركة في هذه الحملة، وأصدر بياناً مشابهاً. ومثله فعل التيار الصدري والشيخ محمد أمين شبر، فيما سكت المالكي عن هذه الأحداث سكوتاً مطبقاً.
إنَّ الزيدي وعبد الرزاق والخزاعي وغيرهم من قيادة حزب المالكي اعتمدوا في حملتهم، من الناحية القانونية، على نصوص أصدرها الرئيس السابق صدام حسين خلال حملته التي سمّاها «الحملة الإيمانية». أطلق صدام هذه الحملة بضعَ سنواتٍ قبل هزيمة نظامه أمام قوات الاحتلال الأجنبي، وكان قد استثنى خلالها اتحاد الأدباء التابع لنظامه آنذاك. ولكنَّ تلك الحملة، رغم كل ما يقال عن جرائم ذلك النظام، لم تبلغ ما بلغته حملة الزيدي وعبد الرزاق والخزاعي من تخويف للجمهور البغدادي والعراقي عموماً، وتسميم أجواء الحياة اليومية الزاخرة بالمشكلات والصعوبات. لم يستفق الشعب تماماً من صدمات وجروح التقاتل الطائفي والمذهبي بين الميليشيات الشيعية والسنّية، ومن الآثار المدمرة لتفجيرات تنظيم القاعدة الدموية، وهؤلاء الثلاثة لا ينكرون أنّهم يعتمدون على تلك النصوص.
ولأنّ المدن العريقة ـــــ كما قال أحد المؤرخين ـــــ لا تتسامح مع الذين ينتهكون سلامها الداخلي وخصوصياتها الصغيرة والموروثة، فلنا أن نتوقع أنّ جمهور بغداد والمحافظات سيعاقب حزب «الدعوة» في أقرب مناسبة انتخابية. عقوبة قد تلحقه بحزب الحكيم والإخوان المسلمين في الهامش السياسي، فيمنح ـــــ هذا الجمهور ـــــ أصواته لعلمانيي الاحتلال على عِلّاتهم في قائمة إياد علّاوي أو في حزب حميد مجيد «الشيوعي»، لانعدام البديل الوطني العلماني حالياً. وللمناسبة، فقد التزم علّاوي وحلفاؤه في قائمة «العراقية» بصمت مطبق، لا يقلّ عن صمت المالكي خلال هذه الأحداث.
كيف نفسّر صمت المالكي ذاته؟ هل يمكن أنْ يقال إنّه لا يريد أن يؤيّد قرارات الثلاثي المتشدد علناً لئلا يقال إنّه يؤيد قرارات «بعثية صدامية»؟ أم هو لا يريد أن يقف ضدهم فيُتّهَم بالخروج على البرنامج الإسلامي الشيعي لحزبه؟ غير أنَّ هناك أسباباً أخرى، ربما كان أوضحها انهماكه بمعضلة تقسيم كعكة الحكم بين الضواري الحزبية المتنافسة.
ولكنْ ـــــ قد يتساءل البعض ـــــ هل ثمة علاقة بين حملة الزيدي وعبد الرزاق والخزاعي وما كُشِفَ النقابُ عنه قبل يومين فقط من صدور تلك القرارات التحريمية، ومفاده أنّ المالكي يعتزم تغيير وإعفاء بعض القيادات والمسؤولين الحكوميين من حزبه؟ (ذُكِرَ من بينهم أمين العاصمة، وأمين شبكة الاتصالات والإعلام، ورئيس هيئة النزاهة وغيرهم). فهل شعر الزيدي وعبد الرزاق والخزاعي بخطرٍ ما على كراسيهم دفعهم إلى القيام بهذه الضربة الاستباقية حتى إذا ما قرر المالكي «قصقصة» أجنحتهم أو إعفاءهم من مناصبهم بدا ذلك للجمهور ردّاً على «توجهاتهم الإسلامية»، وفي هذا إحراج كبير له على المستوى الحزبي الداخلي على الأقل. وجهة نظر هذه، قد لا تحمل الكثير من المبررات، ولكنّها تبقى موجودة في الساحة العراقية التي رأت أنَّ هؤلاء المسؤولين الثلاثة، وغيرهم من ذات التوجه، يدفعون يقيناً بحزب المالكي إلى الانتحار السياسي. وقد يضيف بعض الظرفاء أنّه سيفعل ذلك بزجاجة «عرق»، بسبب موقعة «ذات القوارير» الخاسرة!
* كاتب عراقي