تخجل أن تكتب دفاعاً عن ... غسان كنفاني! ولمجرد أن تفكر في الدفاع عنه، تشعرك الفكرة بالخزي والعار، ويصيبك الإحباط من الدرك الذي وصلنا إليه. كنا نستحي من غسان حين نحتفي به، قلنا مراراً إن فكره وأدبه، فنه ومقولاته، أهم وأعظم من أن يكون مادة للمناسبات الموسمية. غسان هو مدرسة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، تستحق أن تعطى حيزاً في مناهجنا الجامعية، رغم أن بعض الجامعات العربية لم تتأخر عن ذلك، ومنها جامعة دمشق مثلاً. أما أن نجد أنفسنا اليوم بحاجة للدفاع عنه! يا إلهي. إنه العار.
كتب غسان مئات المقالات وعشرات القصص والروايات والدراسات، رسم وأبدع في مجالات عديدة، كل ذلك في زمن قياسي، إذا ما تذكرنا أنه استشهد وهو في السادسة والثلاثين من عمره، وأي شهادة؟! فهو الاستثنائي في كل شيء، فقد قضى مع ابنة أخته لميس بعبوة ناسفة، زرعها العدو بسيارته في منطقة الحازمية في بيروت 1972، اعترفت "إسرائيل" أخيراً بجريمة الاغتيال. لحسن حظي، أني لم أسمع يوماً أن أحداً تجرأ على غسان، شتمه أو ذمّه، أو حتى نال منه بالنقد، إلا مدحاً وتقديراً. وأتساءل دائماً عن سر هذه الشخصية الاستثنائية بحق. غسان لم يكن مجرد عابر طريق، مرّ مصادفة من بيننا، غسان وصم مرحلة بكاملها، غرس وزرع وربّى آلافاً من الأجيال المتعاقبة، غسان أدخلنا دون أن ندري، ونحن صغار في مقتبل العمر، الى القضايا الشائكة، وأجبرنا على أن نناقش المسائل المعقدة، جعلنا شركاء في قضية مصيرنا، بأسلوبه المشوّق وأدواته البسيطة وشخصياته المألوفة والمحببة، تشعر بها أنها قريبة تشبهنا، حتى الذي نكرهه نعطف عليه أحياناً، تحس أنه ابن الجيران أو أحد الأقرباء، وربما أنت بسرك، بينك وبين نفسك، كم أحببنا خالد الهارب الى مواقع الثورة في عائد الى حيفا، وكم تجادلنا في وضع خلدون، هل هو المشكلة؟ أم أن الظروف جعلت منه قضية؟! تألمنا مع سرير رقم 12، وكم فُتِنّا بأم سعد، لطيبها وحكمتها وروحها المتوقدة عنفواناً، وكم حلمنا بأرض البرتقال الحزين. وكم مقتنا أبو الخيزران بعجزه، ورددنا مراراً لماذا لم يقرعوا جدران الخزان.
غسان الإنسان المثقف الواعي والفدائي الأول من زرع فينا الفكر والحس الوطني، ومن معينه شرب الكثيرون في هذا الوطن الممتد من الآه الى الآه. وممن تربى على يديه أشبال وأبطال غزة الذين كان قادة العدو يقولون عنهم إنهم أشباح الليل وإنهم حكامها ليلاً. غزة هذه التي قاومت بزنود غيفارا ورفاقه ليكافئ غيفارا قبل أسابيع قليلة بتشويه قبره من قبل حفنة من خفافيش الليل الذين اعتادوا العتمة، عتمة الأفكار والقلوب ونبذ الآخر، ليأتي الدور على مدرسة تحمل اسم غسان كنفاني، ليصبح اسمها بقدرة عناق الأتراك وأموال الإمارة/ القاعدة العسكرية قطر، وكرمى لعيون حليف داعش اليوم رجب أردوغان، مدرسة مرمرة (في إشارة الى سفينة مافي مرمرة التي خرقت الحصار على غزة وقتَل الإسرائيليون ركابَها). هذا الاسم في الحقيقة نعتز به ونفخر، ونفخر بشهدائه من أهلنا المتعاطفين معنا من الشعب التركي. لكن أن يستبدل اسم غسان، فهذا يعني الكثير الكثير.
ما هكذا تورد الإبل أيها الإخوة، ولا هكذا يكافأ الشهداء والمناضلون، وكأن ساحتنا اعتادت القسمة وجدولها، وشق الصف الفلسطيني فأصبح التركي والقطري أولى وأقرب؟ أم هو عمى المال المتدفق؟ أم هو الفكر الظلامي الذي ينبذ الآخر؟
لكن الأصالة الفلسطينية تبقى أكبر وأعمق من كل محاولات البعض تتريكها أو تعريبها أو تغريبها. أصالة شعب ورث نضال القادة العظماء منذ ثورة البراق والثورات المتعاقبة. الأصالة الفلسطينية التي علّمنا إياها غسان: الأصالة الثورية.
ومعك حق يا غسان مش بس خيمة عن خيمة بتفرق، كمان فكر عن فكر بيفرق، ونضال عن نضال بيفرق.
فلا تحزن غسان لأن الأفكار تبقى حية، وها هي أفكارك تدافع عنك في وجه الجهلة. فارقد في قلوبنا بسلام.