تنظر إليّ وعيناها تدمعان وتقول “لما كانت منظمة التحرير هون، كان إلنا ضهر يمّا، همي طلعوا من هون، ما بقي كبير ولا صغير ما ضربنا ووسخ معنا”. هي الناجية من مجزرة صبرا وشاتيلا وحرب المخيمات، وحصار الستة أشهر، امرأة فلسطينية تهجر أهلها من فلسطين فولدت وعاشت لاجئة، مؤمنة بأنها عائدة، وبانتظار تلك العودة عاشت كل المصائب المولودة من انحطاط العرب.
"كان عمري ٢٠ سنة يوم طلعت فتح من بيروت، كنا نبكي عليهم كأننا منودع حد من باقي قرايبنا، كانت إمي مقاتلة مع فتح ومسؤولة عن مجموعة مقاتلات، أخر إشي قالتولأبو عمار، رح نتبهدل من بعدك يا ابو عمار”. كأنها نبيّة وتكلمت، فتحولت نبوءتها إلى واقع مزر. تدرك هذه البطلة الفلسطينية أن منظمة التحرير كانت قد أخفقت في لبنان، وبصوتها الحزين تقول: “كان عرفات بالنسبة إلنا أبونا وأبو الكل، كان جيرانا اللبنانيين بحبوه أكتر منا، كان لما ينزل يمشي في شوارع المخيم الناس تركض عليه متل كأنه فنان مشهور من بلد غربي”، وكانت تردد دائماً “ما حد رح يحرر فلسطين غير أبو عمّار”.
دخلت بيتها المتواضع في حيّ من أحياء صبرا، وجدت صورة الختيار في صدر البيت، تحتل نصف الحائط تقريبا، اما بقية الحائط فقد علقت عليه صورة جمال عبد الناصر. مقابلهما، على الحائط الآخر، خصصته لصور كثيرة للسيد حسن نصرالله.
سألتها: لماذا كل هذه الصور للسيد فيما ابو عمار وناصر لهما كل واحد صورة واحدة؟ ضحكت وردت قائلة: “كان ناصر رمز العروبة وكان عرفات رمز القضية الفلسطينية، إجا الحلو هاد (تشير الى صورة السيد حسن) وصار رمز الأمة العربية، هادا يمّا قدم إبنو شهيد فداء لوطنه وأرضه، كيف بدك صورة واحدة تكفيني؟”.
ثم تشرد.. تنظر إلى حائط صور العائلة وتبدأ بسرد الحكايات “هاي حياة ستي إم فؤاد، آخر شهيدة بمجزرة صبرا وشاتيلا، قتلوها قدام عيني الله ينكبهم. وهادا أخوي محمد الله يبينه بخير، خطفوا المناكيب الكتايب ومنعرفش عنو إشي من الـ٨٣. هاي هون حنان بنت خالي، استشهدت بمعركة السبيل، كانت مقاتلة. وهادا أخوها طعان استشهد في معركة خلدة ضد العدو الصهيوني”. تصمت للحظات وتمسح دموعها وبصوتها المجروح: “إحنا يمكن شعب الله المختار من كتر بلاوينا، لا العرب نجدونا ولا وقفوا حدانا بإشي، والغرب أي فرصة بتصحلهم لينكبونا ما بقصروا فينا.”
تروي حكايات وحكايات عن علاقتها بالسلاح، وكيف كانت تنظف السلاح “للشباب”، وتطبخ لهم هي وأمها البطلة، وبعدما "تصاوبت" أمها في صدرها في حرب المخيمات، أخذت مكانها في إعداد الطعام للمقاتلين والمقاتلات. كانت تعد الطعام وتغسل ملابسهم، وترافق علي أبو طوق في حواري المخيم اينما ذهب، فيقدمها علي “الرفيقة المقدم”! تضحك كلما ذكرت هذه الحكاية فتقول “كنت اقلو عيب يا علي، إسا العالم بتفكرني زلمي، قول المقدمة”.
هي أم لثلاثة اولاد، بنت وشابان، تعيش ليلها ونهارها لتعلّم أولادها أن الوطن هو الأم وأن العودة لا عودة عنها، وأن الهجرة إما أن تكون لفلسطين وإما أن تكون للمقبرة، لا تفارق قبر والديها وأقاربها الشهداء، وكلما ذهبت لزيارة المقابر، تغسل قبور ذويها ثم تتجه لقبور الجيران والأقارب والرفاق، ثم تنهي مشوارها بزيارة مقبرة المجزرة التي لم تنسى حتي اليوم مشاهدها.
تعيش في الذاكرة أكثر مما تعيش الحاضر، وعندما تسألها عن المجزرة وماذا رأت تقول: “شفت دم كتير كتير، وجثث منفخة وفوق بعضها، شفت روس بلا أجسام، شفت نساء شلحوها تيابها وروسها مقطوعة ومزتوتة عالميلة التانية، شفت كوابيس وانا صاحية، وما شفت إنسان واقف ع إجريه”. تصمت ثم تكمل: “كنت ماشية بين الجثث ولقيت راس عمي، وما لقيت جسمه! كنت زغيرة آه، بس كتر الأسى اللي عشناه واللي شفناه ما خلانا ننسى اللي صار فينا”. وعند سؤالها عما إذا رأت شارون بالعين المجردة تقول: “لا الجبان ما نزل ع المخيم، كان يجي عتلة النوّر (المشرفة على المخيم)، ويرجع ع القاعدة اللي كانت ع المدينة الرياضية”.
وفي سياق حديثنا سألتها عن إيلي حبيقة الذي شارك بالمجزرة، وإن كانت تلعم انه قد قتل؟ فتقول: “قبرة تقبروا، كان لازم يحطوه ع صاروخ ويبعتوه عند كلاب الصهاينة". وتضيف "آه عرفت انو قتلوه، وما رفلّي جفن. بس موته ما شفالي غليلي".
تشرد كمن يستعيد بالذاكرة اشياء لا تمحى. تصمت، لتعود وتقول بصوتٍ خافت وكأن هناك من يتنصت علينا: "إنت عارف إنو همي نزلوا عملوا المجزرة عشان كانوا أكيدين فش رجال بالمخيم وفش سلاح؟ هوي لو كان في رجال في المخيم كانت هالكلاب قربت ونهشت فيها؟ اكيد لا.. هني أجبن من هيك.”
تؤمن هذه السيدة حتي اليوم، وبرغم كل الظروف حولنا، بأنها عائدة الي بلادها، وأنها ستدفن يوماً تحت تراب فلسطين "التي شبعت دماء" كما تقول. حتى إنها لا تنزع عنها ثوبها الفلسطيني لئلا يخطئ أحد بهويتها حين يراها. وبعد حديثٍ دام أكثر من ساعتين والكثير الكثير من كؤوس الشاي بالميرمية، استأذنت: “بدك شي يا حجة؟”. فاذا بها ترد بسرعة وعفوية “آه بدي، بدي أعطيك شوية تراب من فلسطين تخليهم معك، هدول مباركين من أرض الرب، ما تفرط فيهم، وإمشي الحيطة الحيطة يمّا، هاليومين فش حد بخاف الله".
كانت أغلى هدية قدمت لي في حياتي، وعن نفسي لم أجد ما أقدمه لها، لكني وعدتها أن ازورها هناك في فلسطين قريبا ان شاء الله، لنكمل حديثنا.