- ألو يا تيتا، أنا في يافا بدي تدليني على بيتنا.- ليش انت وعمامك بتظلكو تمزحوا هيك؟
- تيتا... أنا والله في يافا وبحيّ النزهة تحديداً.
- طيّب، حط مستشفى الدجاني الوطني بظهرك، وامشي شي ميّة متر ع اليسار، بتلاقي بيت عربي حدّه عمارة لدار "السكسك"، هذا بيتنا.

■ ■ ■




دمشق | لوّحت بيدي للسيارات المتجهة الى خارج قرية مجدل شمس حتى توقفت سيارة «بيجو 407». سألت السائق ذا الشعر البني الداكن والعيون العسلية بإنكليزية ركيكة عن وجهته.

فأجاب بإنكليزية ركيكة، أيضاً، بأنه ذاهب قرب حيفا. بعد حوار قصير، سمح لي بالركوب معه. تبيّن أنه فرنسي وفي الأربعين من العمر. وقدم إلى فلسطين المحتلة، التي يسميها إسرائيل، لدراسة الجبال لأنه يعمل في متحف للجيولوجيا في بلاده.
طالت بنا الطريق لأكثر من ساعة بسبب إغلاق الإسرائيليين طريق صفد خوفاً من دخول اللاجئين الفلسطينيين الذين يتظاهرون على حدود لبنان. وطلبت منا الشرطة سلوك طريق طبريا. على أحد الحواجز قرب طبريا، طلبوا منا جوازات السفر. وفيما قدم "رفيق الطريق" الفرنسي "باسبوره" إليهم، قلت لهم "I forget my passport in Haifa, and this is my cousin"! أي "نسيت جوازي في حيفا وهذا ابن عمي". بقي الرجل بجانبي صامتاً، لكن نظراته بدت مرعوبة.
لا أعلم لماذا فضّل الصمت لحظتها. لعله خشي أن يوقفانا معاً. وهو الذي أنساه حديثنا طوال الطريق عن جبال فلسطين وجمالها، والنسر الأميركي في سمائها والغزلان في أوديتها، السؤال عن "أصلي وفصلي". بعدما عبرنا الحاجز بأمان، صارحته بأنني فلسطيني وحلمي كان أن أزور بيت جدّي في يافا. زاد خوفه أكثر. لكنه عرض عليّ أن ينزلني في قضاء الناصرة. وقال: "Here. you will find arab and mosques". أي هنا تجد عرباً ومساجد.
كنت منهكاً بسبب المشي الطويل على الحدود السورية من الجولان المحتل إلى داخل فلسطين*. صحيح أن المسافة التي سرتها لم تكن أكثر من خمسة كيلومترات، لكنني كنت أخاف أن يكتشف أمري وأعتقل، ولا سيما أننا كنا قد اشتبكنا مع الجنود الإسرائيليين بالحجارة وقتلوا منّا ثلاثة. نجحت من بين مئتين دخلوا الجولان المحتل، في الوصول إلى يافا. ولاحقاً، علمت بأن الشهيد المبعد عزّت مِسودي* وصل إلى حدود القدس المحتلة، لكنه اكتُشف على حاجز، حرمه رؤية الأقصى ووالده الذي بقي هناك. أما البقية، فاختبأوا في دار الطائفة الدرزية في مجدل شمس، ومنهم أختي تقى الزهراء، ثم عادوا إلى ما وراء الجولان بعد ساعات.
كنّا قبلها بليلة منقسمين بين أنفسنا: منا من ظن أن السوريين لن يسمحوا لنا بالمخاطرة بأنفسنا والذهاب إلى الحدود، ومنا من اعتقد بأننا سنصل إلى الحدود ونشتم الإسرائيليين هناك ونعود، لكن حماسة الشباب خلعت السياج الفاصل الذي كان يعلوه الصدأ، ثم تقدم كل منا بفارق عشرة أمتار عن الآخر، حتى إذا انفجر لغم بأحد منا لا يصيب البقية. اتضح أن الإسرائيليين كانوا مطمئنين ولم يزرعوا ألغاماً للأفراد هناك.
ظننت في ذلك اليوم أن كل من معي في طريقهم للعودة إلى فلسطين. ولكن تبين لي أنهم بقوا في مجدل شمس*١. على الأقل، كنت المحظوظ الوحيد من بين اثنين، واستطعت أن أغافل الموجودين في الدار وأكمل طريقي إلى فلسطين.
قرب الناصرة، صادفت أطفالاً يلهون. تحدثت معهم بلهجتي الفلسطينية ـــ السورية وسألتهم عن آبائهم. دلّوني إلى عرس قريب في قرية طرعان. وسط صخب العرس والأغاني التراثية، دخلت بحماسة وأخبرت الموجودين بأنني قادم من سوريا وخلفي آلاف من الفلسطينيين عائدون. أصابهم الخوف وحاولوا إسكاتي خوفاً من أن يسمعنا أحد. أخذوني إلى منزل صغير في القرية، وصاروا يسألونني عن سوريا ومخيم اليرموك وبعض العائلات هناك. فكان الرجل الذي يحدثني قد زار اليرموك، وواضح أنه حاول التأكد من أنني آتٍ من الشام.
أجبته بأن تلك العائلات التي سأل عنها تعود أصولها إلى قرية صفّورية. فصعدنا إلى سطح المنزل، حيث أشار إلى شجر زيتون قريب، وقال لي: تلك هي صفّورية.
حاول الرجال إقناعي بالبقاء عندهم لأسبوع حتى يحين السبت المقبل (يوم الإجازة) ليأخذوني إلى يافا. اعتذرت منهم وأصررت على الذهاب وحدي حتى لا أضرهم. أعطوني 300 شيقل (نحو 100 دولار آنذاك). كان موقف الحافلات قريباً من لواء "غولاني". هناك وجدت حاخاماً يهودياً يحمل كيس "شيبس" ويأكل منه. ولأظهر له أنني لست غريباً، طلبت منه إعطائي القليل من "الشيبس"! لكنه رفض، وأشاح بوجهه عني. تذكرت الروايات القديمة التي كان يحدثنا بها كبار العمر عن بخل الحاخامات.
في الموقف، اخترت الحافلة المكتوب عليها "تل أبيب" وكانت الأجرة 40 شيقلاً. بين الركاب، تصرفت كسائح أجنبي. ساعدني في ذلك شعري الأشقر الطويل وعيوني البنيّة. اخترت مقعداً بجانب جندي إسرائيلي، لكنه حضن سلاحه وطلب مني الجلوس في مقعد آخر. جلست بجانب شاب بمثل عمري عرفت أن اسمه جوزف. دار بيننا حديث وأوضح لي أننا سنصل إلى "تل أبيب" ليلاً، ودعاني إلى النوم في شقته لأنه ظن بأنني من بولونيا، وهي البلد التي قدم منها جده إلى فلسطين. عندما عرف أن مقصدي يافا ــ حي عربي جنوب "تل أبيب" ــ خاف عليّ من الذهاب إلى هناك، وشرح لي بأن فيها عرباً ونسبة الجريمة والمخدرات هناك عالية.
سرت في شوارع يافا ولم أجد في تلك الشوارع أي يهودي، تماماً كما وصف لي جوزف. عرفت بأن يافا أكثر من 60% من سكانها يهود، لكنهم لا يخرجون في الليل خوفاً من العرب. قادتني نفسي من دون أن أسأل أحداً حتى وصلت إلى البحر وتأكدت من أنني في يافا حقاً. هذه المرة، لم أسع إلى سؤال أحد أين أنا، وتبعت رائحة البحر فقط. بعد ذلك، وصلت إلى مقهى عربي كان يصدح منه صوت أم كلثوم، التي حازت لقب "كوكب الشرق" حينما كانت تغني في نادي الشرق في حيفا مرة كل شهر. في المقهى، استعدت الحماسة التي دخلت بها إلى الناصرة، وقلت لهم بأن الآلاف على الحدود ويجب أن تكون يافا أولى المدن التي تنتفض ضد الاحتلال.
أحدهم نفث نفساً من أرجيلته وقال لي مستهزئاً: "أصلاً إحنا من أم الفحم!". أما البقية، فطلبوا مني أن أذهب إلى أحد المساجد وألقى شيخاً هناك حتى يساعدني. ذهبت وحيداً إلى مسجد السكسك فوجدته مغلقاً. هناك وجدت أربعة شبان وأعدت لهم القصة التي رويتها في المقهى، وقالوا لي إنهم شاركوا صباحاً في مسيرة داخل يافا في ذكرى النكبة. تطوّع أحدهم ليوصلني بسيارته إلى مسجد يافا الكبير (مسجد المحمودية)، وأصلاً كان التعب قد سيطر على جسدي.
كان المسجد الثاني مغلقاً أيضاً، ولم أفكر أصلاً في الذهاب إلى فندق. ماذا كنت لأفعل؟ أأقدم له بطاقة مكتوب عليها "تذكرة إقامة مؤقتة للفلسطينيين" صادرة عن الجمهورية العربية السورية؟ اخترت أن أنام على فرشة كانت ملقاة بين الأشجار قرب المسجد. وإذ... أتى أحدهم، كان اسمه "أبو يزن"، وطلب مني أن أحمل الفرشة وألحق به إلى مكان آخر في ساحة المسجد غير مطلّ على الشارع، حتى لا تنتبه لي دوريات "حرس الحدود". كان يظن أنني أحد العمال الفلسطينيين المهرّبين من الضفة المحتلة إلى أراضي الـ48. شرحت له القصة الحقيقية فأعطاني هاتفه لأكلّم أهلي في سوريا وأطمئنهم على نفسي. أخبرت زوجتي بأنني في فلسطين... لكنها لم تصدق.
فجراً، أيقظني "أبو يزن" وأخذني إلى سوق شعبية، واشترى لي "شورت" وبعض الملابس البسيطة حتى لا يشتبه فيّ أحد بسبب بنطالي الذي تمزق لأنه علق في السياج الحدودي. ذهبنا معاً إلى البحر وأفطرنا هناك. أخبرته بأنني أريد البقاء في يافا والبحث عن أقربائي لو بقي منهم أحد هناك، وكذلك منزل جدّي. من باب المزاح، وافقت على عرضه العمل معه. أخذ لي صوراً بهاتفه ووعدني بعد إنهاء عمله بأنه سيحاول تزوير هوية لي حتى أبقى في فلسطين.
طلب مني "أبو يزن" أن أقضي يومي وأنا أمشي في شوارع المدينة، على أن نلتقي مجدداً في المسجد خلال المساء. لكن شوقي لبيت جدي قادني إلى السؤال عن حي النزهة. عرفت اسمه الجديد بالعبري. لكنني لم أستطع حفظ الاسم الطويل لصعوبته ربما. وصلت مشياً إلى هناك، وصليت الظهر في مسجد النزهة. حرت في الصلاة : قصراً (ركعتين) باعتبار أنني مسافر، أو أربع ركعات بما أنني في موطني، وفق الحكم الشرعي. سألت المصلين عن عائلة حجازي وأين تقطن، فدلّوني على عائلة حجازي من المسيحيين هناك، ثم دلّوني على عائلة حجازي من المسلمين، وتبين لي أنهم ليسوا أقربائي.
للحظة، تذكرت أنني أحمل هاتفاً معي من سوريا. فذهبت لشراء خط اتصال إسرائيلي "أورانج" من أحد المحالّ العربية. تحدثت بسرعة مع جدتي التي لم تصدق أنني فعلاً في فلسطين. قلت لها "يا تيتا، أنا في يافا بدي تدليني على بيتنا". عرفت منها عنوان البيت، فقد كانت ذاكرتها تحتفظ بذكرى معلم مهم في يافا. هكذا، جعلت مستشفى الدجاني الوطني الظاهر في بنائه القديم خلف ظهري، ثم سرت المئة المتر التي حدثتني عنها جدتي التي تنتمي الى عائلة العظم، لكنني لم أجد البيت. يبدو أن ذاكرتها لم تكن تحتفظ بالمسافات جيداً، لكن يكفي أنها لا تزال تحفظ مدينتها عن ظهر قلب برغم أنها قضت حياتها في دمشق ولم تعش إلا سنتين في يافا.
بعد مئتي متر تحديداً، وجدت ذلك البيت العربي الصغير. كان يحفظ تفاصيله التي أخبرني عنها أبي. دققت على جرس البيت. أجابني رجل يهودي. لم يفهم أحدنا على الآخر لأنه لا يعرف الإنكليزية. برغم ذلك حاولت إخباره بالإنكليزية، مع أنني أدركت أنه لا يفهمني، أن هذا بيتنا وأن دولته استولت عليه وأعطته إياه. غضب الرجل بعدما رآني مستفزاً وطلب مني الرحيل. اضطررت إلى ترك البيت حتى لا يستدعي الشرطة.
شعرت بأنني حققت حلمي. كان بعض الشباب الذين التقيتهم قد نصحوني بأن أذهب إلى أحد الناشطين العرب في بلدية يافا، وقالوا لي إنه خبير بالعائلات اليافاوية وتاريخها. ذهبت إلى مكان يعمل فيه في حي العجمي. عرفني فوراً، وكان يبدو أنه قد علم بقصتي. أخرج أحد العمال اليهود من المحل، ثم سارع إلى سؤالي: "انت اللي جاي من سوريا؟". أجبته بـ"نعم"، لكنه طلب التأكد من خلال بطاقات الهوية التي معي. نصحني بأنه مثلما وصلته معلومة بأنني هنا، فإن أحد "العصافير" سيخبر الإسرائيليين بوجودك. فهمت منه أنه يجب عليّ أن أسلّم نفسي حتى أخفف العقوبة على نفسي، ولا أترك مجالاً للاحتلال كي يقتلني أو يلصق بي تهمة، كوجود متفجرات معي.
كانت النصيحة بجمل، فقد أشار عليّ بأن أسلّم نفسي بحضور وسائل الإعلام حتى لا يستطيع الأمن أن يدبر لي مكيدة. اتصل هو على قنوات "الجزيرة" و"العربية"، وعرفت أن "العربية" اتصلت بدورها على "القناة الإسرائيلية العاشرة". كان الموعد والمكان المتفق عليه: في حي النزهة نفسه. أتت "العربية" وصوّروني قرب بيت جدي، وقرب مسجد النزهة. كان منظري بـ"الشورت" يدل فعلاً على سائح أكثر من كونه فلسطينياً عائداً إلى وطنه. اتجهت مع طاقم القناة إلى ميناء يافا، حيث دعوني إلى عشاء سمك.
في تلك اللحظات، أتى مراسل إسرائيلي يدعى ناتان (من القناة العاشرة) وجلس بجانبي وكان يريد أن يأكل معي. رفضت وقلت له "هذا سمك يافا، يمكنك أن تأكل من صنف آخر". بعده، أتى رئيس الشؤون العربية في القناة، تسيبي يحرزقلي، وأخبرني بأنه يهودي من المغرب، ويلقبونه في إسرائيل بأنه "مراسل المنار" لكثرة ما تنقل عنه "المنار" في برامجها الخاصة بالعدو. والغريب أن "الجزيرة" لم تأت، وكما فهمت من الناشط في البلدية، فإنهم لم يصدقوا الخبر، لأن الإسرائيليين أكدوا لهم أن أحداً لم يدخل من الجولان.
بعدما أنهيت اللقاء مع القناة العاشرة، ذهبنا إلى منطقة اسمها "ناحال عوز". وفجأة هرب موظف في "العربية" ومراسل "العاشرة" من السيارة وتركوني وحدني. نزلت من السيارة، وجدت عشرة من عناصر الشرطة الإسرائيلية ينتظرونني وهم يرفعون سلاحهم عليّ. اقتادني اثنان منهم إلى مركز الشرطة. حقّق معي أحدهم بإنكليزية وعربية ركيكتين، وكانت أسئلتهم تقليدية. ولأنهم لم يفهموني، جلبوا لي عنصراً من "الشاباك" يتحدث العربية جيداً، واستمر التحقيق معي 12 ساعة، وكانت الأسئلة مكررة، وخاصة عن حزب الله وأي علاقة تربطني به. حتى إنه كان يتحدث بالعبرية معي ويضربني على كتفي حينما لا أجيبه. كنت أقول له إنني لا أفهم العبرية، لكنه كان يصرّ على أن حزب الله يعلّم أعضاءه العبرية!
من غرفة التوقيف، نقلوني إلى محكمة في تل أبيب. صدر الحكم بأربع سنوات بتهمة الدخول غير الشرعي إلى البلاد وبتهمة إهانة المحكمة. فقد سألني القاضي لماذا لم أدخل إلى إسرائيل بتأشيرة، فأجبته بأنه هو من يحتاج إلى تأشيرة مني للدخول إلى بلادي.
فوجئت بأربعة محامين وكّلتهم جهات عدة (الميزان لحقوق الإنسان واليسار الإسرائيلي وقناة تلفزيونية). طمأنني المحامون إلى استئناف الحكم وإمكانية خفضه إلى أشهر، وأن الاستئناف سيكون بعد أسبوع. جرى تحويلي في اليوم نفسه إلى مركز لـ"الموساد" في "كريات شمونة". وتصادفت مع الشهيد عزت مِسودي*(٢) وفهمت منه ما حدث معه وأنه اعتقل على أسوار القدس. ظل مسودي يرسم على الحائط بالقهوة خريطة فلسطين وشعارات تخص "الجبهة الشعبية".
وبلا محاكمات، وبعد يومين في "كريات شمونة"، نقلوني وعزت إلى الحدود السورية. أوهمونا بأنهم سيعدموننا هناك، ثم جاء ضابط وأخبرنا بأننا في حقل رماية، وأن علينا المرور بحقل الألغام الذي عبرنا منه إلى قرية حضر في سوريا. كما أخبرنا بأن هناك قناصة خلفنا سيطلقون علينا النار لو حاولنا العودة خطوة إلى الوراء. مشينا بين الشوك إلى سوريا ساعة من الزمن، ثم وجدنا طريقاً ترابية سلكناها. كنا ننادي "يا ناس"، ومع كل صوت منا كان يصدر الرصاص من الجانب السوري. سكتنا وواصلنا مسيرنا باتجاه غير متفق عليه لأننا اعتقدنا بأن الإسرائيليين أرسلونا إلى الأردن حتى يقتلنا حرس الحدود هناك. أيضاً كان الشهيد مسودي لاجئاً سياسياً من الأردن في سوريا، وقد صدر بحقه حكم بالسجن هناك، فخاف أن يكون الإسرائيليون قد عرفوا وأرسلونا إلى هناك.
وصلنا إلى قرية جبّاتا الخشب في الجولان. أخبرنا الناس هناك بأن يتصلوا بالأمن السوري. تناولنا العشاء، ثم جاءت دورية سورية لأخذنا. وأخبرونا بأنهم أصلاً كانوا ينتظروننا منذ الصباح (نحو عشر ساعات) ليتسلّمونا من "الصليب الأحمر" وفق إخبار الإسرائيليين.
اليوم، وبعد أربع سنوات من عودتي إلى يافا، ومن صمودي في سوريا، أترك الشام الكبيرة والصغيرة لأهاجر إلى أوروبا، لاحقاً بزوجتي وابني اللذين شقّا البحر للوصول إلى هناك قبلي. خيار اضطراري أفعله كما مئات الآلاف ممن أجبرتهم الحرب في سوريا على تركها، وهم أنفسهم الذين فتحوا الطريق بدمائهم أمامي لأعبر الجولان وأصل إلى فلسطين (استشهد 31 في مسيرتي العودة وجرح 450، 15/5/2011). كانت وصية الشهداء آنذاك ألا تغلق "جبهة الجولان". ولكني، ومن بقي من الأحياء الذين رحلوا إلى القارة العجوز، سنلتقي هناك... على أمل العودة مجدداً إلى سوريا، أو فلسطين.
*في 15/5/2011 حاول فلسطينيون سوريون من مخيم اليرموك العودة الى فلسطين من جانب الجولان المحتل. أطلق العدو عليهم النيران واستشهد الكثيرون، لكن كاتبنا كان واحداً من شخصين استطاعا الوصول الى فلسطين، والوحيد الذي استطاع أن يصل الى بيت أجداده.
*في 15ايار(مايو) من العام 2011 حاولت مجموعة من الفلسطينيين القاطنين في سوريا عبور الحدود في الجولان السوري الى فلسطين المحتلة. نتجت عن هذه الهبّة غير المحسوبة اشتباكات غير متكافئة مع حرس الحدود فقتل الكثيرون، لكن شخصان استطاعا الوصول الي فلسطين احدهما هو كاتب هذه السطور.
*(1) رشا فياض ومجد داود
عرفت عند لقائي الشهيد عزت، أن كلاً من رشا فياض ومجد داود (اليرموك) رفضا العودة مع المئتين الذين كانوا في دار الطائفة الدرزية. وقررا أن يختبئا في الجولان، لكن دورية إسرائيلية اكتشفتهما بعد ساعات في الطريق المؤدية إلى طبريا، واحتجزتهما ليومين في "كريات شمونة" مع الشهيد عزت عندما كنت معتقلاً في تل أبيب، ثم أعيدا عبر "الصليب الأحمر" رسمياً إلى سوريا.

*(2) استشهد المقدسي عزّت مِسودي في تاريخ 5/6/2011، أي في ذكرى "النكسة"، حينما حاول العبور مرة أخرى من سوريا إلى فلسطين المحتلة، علماً بأنه ووالدته وإخوته أبعدوا عن القدس في الانتفاضة الأولى، وبقي والده هناك، والأب حيّ حتى كتابة هذا النصّ.