في كلّ مرة أزور حلّاقي، منذ بداية العام، يحدّثني عن أحوال ابنه المريض. يفتتح الموضوع عن محاولاته المستمرّة للخروج من غزّة، إلى الضفة الفلسطينية لعلاجه، وفي كلّ مرة يُعيد عليَّ قرار رفض جديد، قدّمه جيش الاحتلال له، بحججٍ متعددة.
يحاول الرجل منذ مدّة طويلة أن يحصل على "تنسيق" لخروج ابنه من غزّة للعلاج. في المرّة الأولى، رفضوا مرافقته لابنه، وفي محاولةٍ ثانية، وافقوا عليه، حتى وصل إلى حاجز "إيريتز"، ثم أعاده الجنود. لم ييأس، وفي جولة حلاقة ثانية، أخبرني أنّه حاول مرّةً أخرى، لكن هذه المرّة كي ترافق زوجته ابنه، التي لم يتوانوا عن منعها في المرّة الثالثة، أيضاً.
هذه هي معضلة الفلسطيني الدائمة. الحواجز. في "إيرز"، ولكي تستطيع الوصول إلى أرضك المحتلة، سواء للعلاج أو العمل، أو لزيارة أحدٍ ما، أنت بحاجة إلى تنسيق كبير، له أوّل دون آخر. يبقى المريض معلقاً على قرارٍ من الضابط الإسرائيلي، على جانب الحاجز، تمرّ أو لا تمرّ. فقد يرفضك لسببٍ أمني، لا تعلمه، فأنت أو طفلك الذي يحملُ جهاز تنفّسه معه، رُبما يشكّل خطراً على الجنود المدجّجين بأسلحتهم في جانبَي الحاجز.
وهذا لا يختلف كثيراً عن حالنا؛ فقبل سبعة أعوام فقط، كان من نصيب ابن أخي الأكبر أن يولد مريضاً بثقوبٍ في القلب. قرّر حينها الأطباء إخراجه إلى القدس، حتى يتمّ علاجه. لكن لم ينجح الأمر إلّا بعد عشرات المحاولات. والآن، مرّة أخرى، ابن أخي الآخر سيخرج بعد أيامٍ فقط إلى القدس، للعلاج كسابقه. قد يرفضه الجنود، مستعيدين إلى ذاكرتهم إيمان حجّو، الطفلة التي قتلوها عام ألفين، أو تطلّ في خيالات الضابط الذي يقرّر بكلمةٍ منه حياة أو موت شخص مريض، طفلة قتلها في غزّة، بإحدى الطائرات في الحرب.
أزمة الحواجز لا تقتصر على "إيرز"، الموجود شمال قطاع غزّة. فهناك، في الجنوب أيضاً، حاجز آخر، أو كما يُسمى "معبر". معبر رفح، كأنّه يقرّر من الذي يعبر إلى الجنة، ومن الذي يبقى عالقاً في هذه البقعة التي لا تنتمي إلى أي مكان. لا حلّ وسطاً فيها. لكنّه في الحقيقة حاجز، فهو يحجز أحلام الناس، وآمالهم، ويبقيها معلّقة إلى ما لا نهاية.
الحياة في غزّة أزمة، ورُبما هي مصيبة، مهما كثرت مصائب أهلها، فلا مصيبة تفوق استيقاظهم على الحياة فيها، وقضاء أيام جديدة بشكلٍ مستمرّ فيها. أذكرُ في السابق، عندما كنّا طلاباً، كانت تسيطر علينا فكرةٌ ما، فتسيطر على الشبّان وتصبح حديثهم المستمرّ، أو هدفهم المستقبليّ. كنّا حينها، قبل ستة أعوام، أو أكثر قليلًا، نتحدث عن جدوى البقاء في غزّة. طلاب مدرسة ثانوية، يفكّرون في أقصى ما يتمنّونه، أن يخرجوا من هذه البقعة الصغيرة المهملة على الخريطة.
في الطريق، أثناء عودتنا من المدرسة مشياً إلى المنزل، كان يفكّر الواحد بضرورة الخروج من غزّة، وإكمال دراسته في الخارج، فكما تعلم، غزّة غير جيّدة، التعليم فيها سيّئ. والحياة تزداد صعوبة، وكلّ من يتخرّج لا يجد عملًا، عدا عن الكثير من الأسباب التي كانت في تلك الفترة، ولم تختلف الآن، بل ازدادت سوءاً، وازدادت الأسباب التي تدعو الشخص إلى الخروج من هذه البقعة.
في أحد الأحيان كان يحدّثني صديقٌ لي، في المدرسة، أنّ أحد أقربائه كان يعيش في السويد. الأمر بسيط جداً، سأذهب لأعيش هناك. كيف؟ لجوء سياسي. تهرب من غزّة، بحجّة أنّ "حماس"، وهي المسيطرة أمنياً على القطاع، تلاحقك، أو لديك مشاكل معها، تستضيفك الدولة التي تُريدها.
لم يكن الواحد يتوقّف عن اختلاق الطرق وابتداعها في كيفيّة الخروج من هذه الأزمة التي نعيش فيها. لكن، في تلك الفترة كانت مجرّد أحلام أو أوهام، في أوساط الصغار، سرعان ما تنتهي بقيلولة الظهيرة، ما بعد العودة من تعب المدرسة الصباحيّ.
مرّة أخرى، وبعد أعوامٍ عدة، وعلى مشارف الانتهاء من السنة الجامعيّة الأخيرة، الكلّ يُريد أن يخرج. لكن هذه المرّة، ليس الكلّ من هم في سنّك. الآن، الكلّ، الكبير والصغير، الطالب والعامل، الأم والفتاة، كلّ من تسأله عن أمنيته، يقول لك بكلّ بساطة: أطلع من غزّة!