تونس - في مخيمنا، اليوم: مات أبو عبدالله المظلوم، وبهذا لم يعد مظلوماً إلى الأبد!
"الله أكبر..."، صوت تكبيرة الإمام الأولى في صلاة الجنازة يجلجل في المسجد، لتبدأ الشفاه بتمتمة سورة الفاتحة: "الحمد لله رب العالمين... الرحمن الرحيم..." . فليغفر لي الله! إذ بينما كانت شفتاي تتمتمان بآياتها، كان عقلي في واد آخر: "هاي أبو حاتم بجنبي. لعنة الله عليك يا واطي! تقتل القتيل وتمشي بجنازته"! "أبو محمود كمان؟ والله كمل الطابق! قدامي أبو خالد؟ هيك كملت ع المزبوط! يخرب بيتك منك إلو قديش إنتو منافقين!".

كانت الأسماء تتوالى في ذهني لأشتم كل واحد منها بالمختار المنتقى من الألفاظ، فيما تتابعت بانتظام صلاة الجنائز، من دون أن يشعر أحد بالعاصفة التي كانت داخلي. تنتهي الصلاة، لنتقدم لحمل النعش وقد سجّي عليه الجثمان الذي ارتاح صاحبه أخيراً. ذات ما فعلناه مرات عدة من قبل مع من سبقه: ننطلق إلى المقبرة. هناك كان اللحد جاهزاً. ما هي إلا ساعة أو أكثر قليلاً، وانتهى كل شيء.

في طريق العودة، قال أبو محمود بتأثر ظاهر عليه: "الله يرحمك يا أبو عبدالله. كنت من خيرة الرجال. إي والله!". أمن على قوله الحضور، ومن بينهم أبو خالد وأبو حاتم بطبيعة الحال. كانت نظراتي ترمي الحاضرين بالشرر تباعاً، فيما كان قلبي ينزف وهو يردد: "الله يرحمك يا أبو عبدالله... ريتك كنت عايش وبتشوف اللي أنا بأشوفه الآن. يلعن اللي قتلوك وإنتا حي بيننا!".
* * *

أبو عبدالله: هذا الرجل العجوز كان رمزاً من رموز مخيمنا. كان أشهر بائع "ترمس وفول نابت" ليس فقط على مستوى هذا المخيم الصغير، بل تعدى صيته ذلك ليصل إلى وسط المدينة: "اللي بده ترمس نضيف ما إلو إلا أبو عبدالله! ". لا أنسى عربته ــ التي أصبحت هرمة عندما بلغتُ أنا سن الشباب ــ وقد كانت تتوسط سوق مخيمنا، فيما تتربع أعلاها حبات الترمس الذهبية اللامعة، داخل "القفص الزجاجي" الذي يحتويها وقد جاورتها في "قفص آخر" حبات "الفول النابت"، وكنتُ قد وقعتُ في غرامهما منذ الصغر!
في طريق عودتي من المدرسة، كنتُ أشتري بشيء من مصروفي الضئيل من أحد الصنفين، لكن أبا عبدالله كان يكرمني بحبات محدودة من "الصنف الآخر"، مع شريحة ليمون إضافية، لأعود إلى بيتي فرحاً. كان يفعل ذلك مع العديد من الأطفال، وهو أكسبه شعبية مضاعفة، بحكم أنه محبوب في كل المخيم، من الصغار والكبار على السواء لأخلاقه العالية وطيب معشره، وفوق كل ذلك استشهد أحد أبنائه وأصيب آخر في الانتفاضة الثانية، ما زاد من احترام الناس في مخيمنا له.
كان يكفي أن ترى ملامحه كي تشعر بالارتياح: ببشرته السمراء الداكنة الخشنة كأنها جلد زيتونة، وقامته المربوعة المتينة، وشفتيه المبتسمتين دائماً، يعلوهما شارب وخطه الشيب، فيما كانت عيناه الذكيتان الداكنتان تشعان طيبة.
* * *

تتابعت السنوات والأحداث لأبلغ سنوات الشباب الأولى وألتحق بالجامعة، فيما أصبح أبو عبدالله هرماً، إلا أنه لم يتخلّ عن مهنته، وبقيت عربته التي أصبحت عجوزاً هي الأخرى تتوسط السوق كل يوم تقريباً، ولم أتخلّ أنا عن عادتي القديمة، مع تغير ملحوظ: صرت قادراً على شراء الصنفين معاً، بحكم أن مصروفي قد زاد!
كانت العلاقة بيننا متينة، وصرتُ أعتبره في مقام "الوالد والعم": أذهب إلى مكان جلوسه عند البحر، بعد الانتهاء من بيع بضاعته، لأستشيره في بعض أمور حياتي، إذ إنه لم يكن يبخل عليّ بالنصيحة أبداً. كان يبدو أن كل شيء يسير على أفضل ما يرام، إلى أن جاء ذلك اليوم: أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014، استطاعت المقاومة الإمساك بأحد عملاء الاحتلال، الذي كان متنكراً وقت العدوان بأنه بائع للترمس. لكن الخبر لم يصل هكذا أبداً إلى مخيمنا: "أبو عبدالله بياع الترمس طلع عميل!".
تعامل الرجل مع الشائعة وقتها بسخرية بالغة، وتجاهل الأمر برمته، لكن ما حدث لاحقاً قد صدمني بحق: لقد نبت للشائعة جناحان، وسرعان ما راحت تحلق لتلج كل بيت، ويتناقلها كل فم خلال أيام العدوان. وبين عشية وضحاها، صار هذا الرجل الطيب فجأة "الشيطان الذي ينبغي أن يرجمه الجميع"!
كنتُ أتأمل بذهول كيف انقلبت شريحة كبيرة من الناس في مخيمنا ضده لترجمه بهذه التهمة الباطلة، وتسيء إلى سيرته النقية. أذكر أنني كنتُ في مجلس لعائلتي، في بداية ظهور الشائعة، فيما راح أحد الحضور يتحدث كيف تم الإمساك بـ"أبو عبدالله"، بل وصلت المسألة إلى ادعائه بأن المقاومة "أعدمته ع المطرح (أي فور اكتشافه)"، ليظهر فجأة أبو عبدالله محيياً الجلوس، قبل أن يمضي في طريقه، فيما انتهزتُ أنا الفرصة، لأعلّق بسخرية: "سبحان الله. يحيي العظام وهي رميم!".
كنتُ أتأمل بذهول كيف تحول الناس الطيبون في مخيمنا البسيط فجأة إلى "جلادين" بكل ما تعنيه الكلمة، بل كيف صار العديد منهم يتلذذون بالأمر! كنتُ أجادل بعضهم مدافعاً عن أبو عبدالله: "يا جماعة عيب اللي بتحكوه: الزلمة نضيف وما عليه إشي: لا هوه عميل، ولا اعتقلوه ولا بطيخ".
"ولك إنتا شو بعرفك؟ كل المخيم هيوب بيعرف إنهم اعتقلوه على عمالة! عن جد متل ما بيقول المثل: ياما تحت السواهي دواهي"!
"سواهي مين ودواهي مين؟ خافوا الله يا عالم! الزلمة من أول عمره لحد الآن وهوه بيننا: لا عمره أذى حدا ولا عمرنا شفناه عمل مشكلة، ومحبوب من الكل. وبعدين واحد من أولاده شهيد والتاني جريح".
"يا حبيبي: في هالزمن ما بتضمن حدا: ياما شيوخ وطلعوا عملاء للاحتلال. وبالنسبة إنو أبو شهيد وجريح: "أبو لهب" عم الرسول، ورغم هيك القرآن هيو قاعد بيسب فيه ليوم الدين!".
"ولك لهب اللي يحرقك ويفحمك تفحيم!"
* * *

كنتُ من القلة التي دافعت عن سمعته، فيما كان البقية في "المعسكر المضاد"، أو يتفرجون على المسألة بلامبالاة، تاركين الرجل يذبح وهو على قيد الحياة. غالبية دفاعي عن الرجل ذهبت سدى. صار معظم الناس يتأملونه بتوجس أو عدوانية، ثم يبتعدون عنه. قلة من بقوا يبادلونه التحية، فيما بقي الرجل صامتاً دون أن يعلق بحرف.
كنتُ أمر في السوق، بعد انتهاء أيام العدوان، لأجد عربته الهرمة "مكسورة الخاطر"، وقد تجنبها جميع زبائنها القدامى، كأنها موبوءة. كان من بين أكبر المروجين للشائعة والمستفيدين منها أبو محمود: منافسه الرئيسي في بيع الترمس في السوق، وبعض جيرانه ومن بينهم أبو خالد وأبو حاتم اللذان لم يتركا مناسبة لإهانته والحديث عنه بما يسيء إليه إلا انتهزاها على أكمل وجه. بعد شهور، اختفت عربة "بيع الترمس والفول النابت" في السوق. لقد انكسر أبو عبدالله أخيراً.
ذهبتُ لأبحث عنه، فوجدته جالساً في مكانه المعهود أمام البحر. أخرجتُ علبة سجائري لأعطيه واحدة منها. تأمل السيجارة، قبل أن يقول باستهزاء: "إل أم أبيض؟ أي هوه دخان هاد؟ إنتا بتعرف منيح إنو ما بيعبي راسي غير "الرويال"!". ابتسمت. كنتُ أدرك أنه يريد تجنب الحديث عن معاناته، كيلا ينبش جروحه أكثر فتزيد عمقاً، لكنني قدتُ الحديث بيننا في نهاية الأمر إلى هذه النقطة.
قال لي: "ريتهم قتلوني وريحوني من اللي أنا فيه، على الأقل كان متت وارتحت، بدل ما أموت كل يوم ميت مرة. بناتي التلاتة المتزوجات، صاروا جيزانهن (أزواجهن) يعاروهن بإنو "أبوكم عميل". رحنا نخطب قبل فترة لإبني شادي، فرفضوه الجماعة، وكان السبب واضح، وهادا "غيض من فيض". أنا مش فاهم للآن: ليش بيصير معي هيك؟ شو عملت للناس لحتى يعملوا فيي هيك؟ هايني الآن بأدور على مشتري للبيت. بدي أسيب المخيم وكيف ما تيجي تيجي! ما ضل فيها يا بنيي...".
لم يجد مشترياً للأسف، فيما استمرت السياط تتابع عليه وتجلده بلا رحمة كل يوم. لو أراد "كافكا" أن يصنع "جحيماً أرضياً"، لما استطاع أن يفعل أكثر مما فعله الناس بمخيمنا. كل عمود إنارة يمر بأبي عبدالله، كان يشير إليه قائلاً: "ها هو ذا العميل"! كل باب ونافذة، بل وكل حجر في مخيمنا كان يردد تلك التهمة، إلى أن جاءنا الخبر مسرعاً ذات يوم: "أبو عبدالله مات"! تغيرت ساعتها وجهة الناس لتصبح: "لقد كان رجلاً طيباً ومظلوماً على الأغلب"!
يا مخيمنا: أين كان يخفي أهلك وناسك كل هذه القسوة؟
* * *

رحمة الله عليك يا أبا عبدالله المظلوم: أخيراً لم تعد كذلك. فليكن العار الأبدي لمن وصموك، وكذلك لكل من سكت عن معاناتك!