تَصادف الحرب الأخيرة مع شهر رمضان المبارك جعل الغزيين يعيشون ذكراها مرتين: إحداهما بالتاريخ الهجري في كل رمضان وأخرى بالميلادي. فالغزيون الذين صاموا عن الفرحة في رمضان قبل عامين ما زالوا يستذكرون الموت الذي لحق بهم وببيوتهم التي صارت ركامًا لم تُزَل آثاره بعد.لم أكن أتخيل أني سأشهد يومًا ما شهدت جدتي نفسه عندما هُجِّرت قسرا من قريتنا المحتلة عام النكبة فلطالما حدثتنا كيف نجت من الموت حافية القدمين وهي تمسك بشال أمها الأبيض المعجون بطين فلسطين ودماء أبنائها ، ظننت أن هذا المشهد من الزمن توقف عندما أسدلت عليه الستارة آخر مرة بعدما جسدته عائلة "أحمد صالح الشيخ يونس" في مسلسل التغريبة الفلسطينية الذي يعد أهم عمل درامي عالج القضية الفلسطينية، الذي تدور أحداثه حول معاناة الفلسطينيين زمن الاحتلال البريطاني، ثم مذابح عصابات الاستيطان الصهيوني بين ثلاثينيات وستينيات القرن الماضي. (سيناريو وليد سيف وإخراج حاتم علي 2004 ).
ليلة الأحد السوداء 20 تموز 2014 كنت مع أحد الأصدقاء في بناية للمكاتب الصحافية وسط مدينة غزة نقوم بين الحين والآخر بإعادة توجيه كاميرا البث المباشر إلى المكان الذي تشتعل فيه النيران بعد القصف تارة شمالي غزة وتارة جنوبها ، إلى أن توقفت الكاميرا لساعات باتجاه الشرق حيث القصف المتواصل وألسنة اللهب تتصاعد في السماء، شرقي غزة منطقة عسكرية مضاءة بالقنابل الإسرائيلية فصار حي الشجاعية تحت القصف بلا انقطاع.
يومها ألقى الجيش الإسرائيلي مناشير ورقية من الطائرات واتصل بالمنازل ليخبر الناس بأن يخرجوا من الشجاعية لأنه سيجعلها كالضاحية الجنوبية لكن في غزة، فظنوا أنها جزء من الحرب النفسية المعتادة في كل حرب فكثيرًا ما يستخدم الاحتلال هذه الأساليب ويبث الاسطوانات المسجلة ويخترق ترددات الإذاعات المحلية ليرهب الناس ويحرضهم على المقاومة، خرج القليلون منهم إلى حين بدأت الطائرات تصب حقدها على الحي بجنون وترتكب فيه مجزرة ستضل عالقة في أذهان الفلسطينيين إلى الأبد.
بعد منتصف الليل ﻻ شيء مؤكدا إلا صوت القصف اذ لم يسمح الاحتلال ليلتها للمسعفين بدخول الشجاعية وﻻ للصحافيين بأن ينقلوا ما يحدث فيها للعالم ، بعد محاوﻻت عدة نجحت بالاتصال بأحد الأصدقاء، وهو يسكن في شارع النزاز "قلب حي الشجاعية" يصرخ ويبكي بحرقة "الشجاعية بتنحرق .. ولعوا فينا القصف بكل مكان مش عارفين نطلع" أسأله عن أي شيء يمكن فعله الآن؟ يرد "اتصل بالصليب الأحمر بالإسعاف .. بالدفاع المدني .. أي حدا يطلعنا من الموت"، كانت اجابة الثلاث جهات الذين طالبني بأن أتصل بهم بأن "الشجاعية منطقة عسكرية مغلقة وﻻ تصريح لدينا بالدخول حتى الآن"، نقلت المناشدة ذاتها عبر إحدى الإذاعات المحلية وﻻ أحد يجيب سوى تردد صوت القصف.
صعدت إلى أعلى البناية في الطابق الحادي عشر أسترق النظر وصديقي من زوايا النوافذ الشرقية المطلة على حدود المحرقة فشظايا القذائف كانت تصلنا رغم بعدها نسبيا، كرات نار مشتعلة تصعد من فلسطين المحتلة حيث تتمركز الدبابات الإسرائيلية وتتساقط في الشجاعية ثم تشتعل النيران، قذائف أخرى تأتي من البوارج الحربية الموجودة في بحر غزة وصواريخ باختلاف أنواعها تتساقط من الطائرات المحلقة في السماء، وﻻ شيء يصعد سوى الدعاء والصرخات. لم تمر دقيقة واحدة إلا سقطت فيها قذيفة على الشجاعية فصارت الساعات تحسب بالقذائف ﻻ بالدقائق، والحياة تأتي صدفة لمن هم تحت القصف.
جاء الصباح الرمضاني فقيرا ﻻ شمس فيه، تنتشر في نسائمه رائحة الموت، وبدأ الناجون من أهالي الحي يشقون طريقهم أفواجا باتجاه غرب المدينة حيث مستشفى دار الشفاء ليتحولوا إلى نازحين في المدينة نفسها، وقتها رأيت تماما المشاهد التي حدثتني عنها جدتي كيف خرجوا من فلسطين إلى ما تبقى من فلسطين، وشاهدت الآلاف يسيرون في جماعات كعائلة الشيخ يونس في التغريبة الفلسطينية تاركين خلفهم أحبابهم الذين استشهدوا ولم يتمكنوا من انتشال جثثهم من تحت أنقاض البيوت "الحي أبقى من الميت" هكذا قالوا.