من أخطر الحروب التي تعيشها القدس الحرب الاقتصادية المستمرة كل يوم ولحظة، وهي حرب بدأت تظهر أوضح منذ بناء العدو الإسرائيلي جدار الضم والتوسع العنصري حول المدينة عام 2002، ما منع أهالي الضفة المحتلة من الوصول إليها إلا بشقّ الأنفس، فصارت أسواق القدس خالية إلا من بعض سكان المدينة، الذين باتوا في غالبيتهم يختارون شراء حاجياتهم من خارجها، وخصوصاً من مناطق الضفة القريبة على القدس، كرام الله والعيزرية، لكون أسعار مستلزمات المعيشة فيها أقل.ونتج عن حرب إسرائيل الاقتصادية على المقدسيين بعد هذه السنوات اجتياح الفقر معظم البيوت، وخاصة في المناطق الشرقية من المدينة المحتلة، حيث ارتفعت نسبة الفقر في الشطر الذي احتل عام 1967 ويعيش فيه الفلسطينييون العرب إلى نسبة كبيرة هي 82% وفق آخر إحصاء قدمه «مركز الإحصاء الإسرائيلي». وباتت القرى المقدسية من أفقر التجمعات السكانية التي تعيش تحت سيطرة الاحتلال الجبرية.
لم تفاجئ نسبة الفقر المرتفعة المقدسيين، لأن أسبابه تجلت لهم ويعايشونها كل يوم حتى قبل صدور هذه الدراسة. يؤكد بعضهم أن هذه النسبة أقل بكثير من الحقيقة. يقول المقدسي عماد أبو خديجة، الذي يملك دكانا في منطقة باب السليلة وتبدو رفوف محله شبه فارغة، إن «الحالة الاقتصادية لمدينة القدس تدهورت من بعد فصلها عن مدن الضفة يوما بعد يوم».
الهبة الشعبية والعنصرية الإسرائيلية والتضييق المالي أسباب مجتمعة للأزمة

ويضيف أبو خديجة،: «شح الحركة الشرائية للسياح الذين يزورون القدس زاد الأمر سوءا. هؤلاء يسمعون توصية المرشدين السياحين الإسرائيليين لهم بعدم الشراء من العرب بحجة أننا سرّاقون»، مبيناً أن ما يكسبه من وراء بيع بعض المرطبات أو علب السجائر تمكنه من تلبية الحاجات الأساسية لعائلته، أما الضرائب وفواتير الكهرباء، فيتركها مجبرا من دون تسديدها، الأمر الذي يزيد الفائدة عليها مع تقادم الوقت.
ولا يقتصر الوضع الاقتصادي السيئ في القدس على أصحاب البقالات فقط، بل يطاول العمال في المؤسسات الإسرائيلية، بعدما سرح عدد من المؤسسات والشركات العمال الفلسطينيين الذين يعملون فيها بعد «انتفاضة السكاكين»، وذلك في انتقام منهم، وبسبب زيادة مستوى العنصرية الإسرائيلية اتجاه العرب.
محمد حداد كان يعمل في إحدى الشركات الإسرائيلية وسرح من عمله بعدما اعتدى المستوطنون عليه أثناء عمله في مستوطنة «النبي يعقوب» الواقعة شمال القدس المحتلة، وقال له رب عمله آنذاك إنه لا يستطيع التأمين على حياته فطرده من عمله.
وتتشابه قصص العديد من المقدسسين الذين باتوا بلا عمل بعد أحداث الهبة الأخيرة، إما بسبب تضامنهم مع الشهداء على مواقع التواصل الاجتماعي أو لأنهم عرب فقط، ما أدى إلى زيادة جديدة في نسبة البطالة في القدس وصلت إلى 20%، وفق إحصائية «مركز القدس للحقوق الاقتصادية والاجتماعية».
يضاف الى ذلك أن العديد من النساء المقدسيات آثروا ترك عملهن في الشركات الإسرائيلية والبقاء في البيت خوفاً من التعرض للاعتداء من المستوطنين، كما ترك عدد كبير من المقدسيين وظائفهم في الشركات الإسرائيلية وبدؤوا العمل في شركات عربية رواتبها متدنية مقارنة بنظيرتها الإسرائيلية، وهذا أمر أثر أيضا في واقع العائلات المالي بصورة سلبية.
ويرى بعض المقدسيين أنهم سبب إضافي في ارتفاع حالة الفقر بطريقة غير مباشرة، لأنهم يشترون معظم حاجياتهم من خارج المدينة التي تعد من الأكثر الأماكن غلاء في العالم، حيث تصل أسعار بعض المنتجات في مدن فلسطينية أخرى، رام الله مثلا إلى النصف، مقارنة بهنا.
يقول المقدسي حاتم عابدين إنه يشتري حاجياته من رام الله لأنها أرخص بكثير من القدس، حيث يصل سعر كيلو الدجاج في الأخيرة إلى نصف ثمنها في القدس، وحتى أسعار المحروقات فيها أقل بكثير، مع أن الغلاء يعود إلى نتائج إجراءات الاحتلال. وتسببت هذه الحالات ككل في ضيق اقتصادي لتجار المدينة، الذين تراكمت عليهم الضرائب واضطر عدد منهم إلى اغلاق أكثر من 200 محل تجاري في البلدة القديمة وحدها!