أن تذهب إلى استوديو التصوير في التسعينيات، فذلك أمر لا يحصل كل يوم. للحقيقة، كان يحصل مرة كل سنتين أو أكثر! كانت المرة الأولى التي أذهب فيها مع عائلتي إلى الاستوديو لنأخذ صورة عائلية. بالطبع، كان لدي صور وأنا أصغر سناً، لكن تلك الزيارة كانت بمثابة المرة الأولى بالنسبة إلي، ربما لأنني كنت واعية تماماً لها، أو لأنني عددتُها مناسبة مهمة!علمت بالصدفة أننا سنذهب غداً إلى الاستوديو. كانت العائلة مجتمعة في غرفة سودة مساء يوم السبت. ويوم السبت هو اليوم الوحيد الذي يُسمح لنا فيه، نحن الأولاد، بأن نسهر مع الكبار للساعة العاشرة ليلاً، بحكم أن اليوم التالي هو يوم عطلة. كنت أستمع إلى أبي وهو يحدّث جدي وعمي عن أمور العمل في محل الفخار الذي تملكه العائلة. بينما كانت سودة تطلب من أمي وزوجة عمي أن ينقعا الجبنة البيضاء بالماء لإعداد المناقيش صباح الغد. صمتت برهة كأنها تذكرت شيئاً، ثم قالت لأمي: "خلص، إحنا بنسوي المناقيش بكرا عشان انتوا رايحين الصبح عالاستوديو". رنّت كلمة "الاستوديو" في أذني، صداها جعلني أركض إلى جدتي لأتأكد من الخبر ولأعرف من الذي سيتصور "بالضبط".
"عنجد أمي كلنا رايحين نتصور؟" سألتها بلهفة، فهزّت برأسها إيجاباً. لكني لم أكتف بذلك، فكررت السؤال مجدداً بنفس الحماسة، وإذ بسودة تجيبني: "ولي ليش عم تسألي هالقد؟ ما قالتلك إمك آه، يعني آآآه"، ثم وجهت الحديث إلى أمي، تنتقدني بسخرية وأنا ما زلت واقفة أمامها: "شو مالها بنتك ضحكتها من الخد للخد؟ تقولي رايحة عالعيد هالفصعونة". أسررتُها في نفسي، ولم أحزن مثل عادتي عندما تفعل بي سودة هكذا أمام العائلة. أصلاً لم يكن ليعنيني شيء في تلك الليلة سوى الاستوديو.
دقت الساعة العاشرة، ومعها صوت أبي وعمي: "يلا عالنوم، اسحبوا لفوق". وطبعاً كلمة "اسحبوا" هي كلمة السر التي حين نسمعها نصطف نحن الأحفاد، بعددنا الذي يتجاوز العشرة، وراء بعضنا البعض كأننا في طابور المدرسة ونتسلق الدرج إلى غرف النوم. طبعاً، وبالتأكيد لم أغلق جفنيّ لأنام، بل انشغلت بانتقاء الثياب التي سأرتديها صباح الغد. لم أجد أجمل من ثياب العيد الماضي: التنورة والبلوزة ذات اللون الليلكي. بالرغم من أن البلوزة شتوية، لكن لا بأس، أفضّل أن أشعر بالحرّ قليلاً، على أن أرتدي شيئاً قديماً في صورة العائلة. وعلى الرغم من محاولات أمي بإقناعي بأن لا أرتديها في الصباح، إلا أنني أصررتُ على موقفي.
وصلنا إلى الاستوديو، نظر إليّ المصور وابتسم، ثم ناولني منديلاً لأمسح وجهي الذي كان يقطر عرقاً. أوقفنا أمام حائط ملون وأخذ يُملي علينا توجيهاتٍ مكثفة: ملاحظة لأبي بأن يبسط وجهه، ولأمي بأن تخلع نظّارتها، ولأخوتي بأن يقفوا بالتوازي على يمين أبي وشمال أمي. ومجدِّداً ملاحظته لي بأن أمسح وجهي، وأخيراً، ملاحظة جماعية مفادها أن نبقى مبتسمين. بعد عشر دقائق من الانتقادات المتواصلة، قال المصور: "يلا اثبتوا، واحد تنين تلاتة، تشك" لمع ضوء "الفلاش" في الغرفة وأُخذت الصورة.
مضت ثلاثة أيام، سألتُ أبي في كل مساء منها متى سيحضر الصور من الاستوديو. في اليوم الرابع، جاء أبي حاملاً ظرفاً فيه ثلاث صور، دخل عند جدتي فانتشرنا حولهما لنتفرج. يبدو أن ملاحظات المصور ذهبت دون جدوى، الكل جامد في الصورة دون ابتسامات: أبي "مكشّر"، وأمي أبقت نظارتها على وجهها. ضحكت سودة وهي تنظر إليّ سائلة: "وبالله ليش مبسوطة هالقد بالصورة؟ كنّو المصور طلب منك تبتسمي بالجملة عنهن كلهن؟!"، ثم ألصقتها بدرفة الخزانة.