الدار دار أبونا والمحتلين بطحونا

  • 0
  • ض
  • ض

نابلس | وصلنا مجمع الحافلات في نابلس، فهذه النقطة المخصصة لمن يريد من أبناء المدينة وقراها المجاورة التوجه إلى باقي مدن الضفة، ومن هنا تحديداً يركب الذاهبون نحو حاجز قلنديا العسكري شمال القدس، ومنه إلى المدينة المحتلة.

أقف هنا بشكل شبه يومي، انتظر الحافلة التي تقلني إلى مكان عملي في مدينة رام الله، انشغل فترة انتظاري بمشهد "الختايرة"، يحملون "البقجة" تحوي سجادة صلاة، ومسبحة، ومصحفاً صغيراً، وبعض متطلبات يومهم في الأقصى الشريف، هؤلاء ليس بوسعي رؤيتهم إلا بعيون تتلوع، وفي لحظة ما أتخيلني أقف بينهم، وأركب معهم نحو قلنديا.
خلال رمضان سمح الاحتلال للنساء بدخول القدس كل يوم جمعة فقط دون الحاجة لتصريح، فقررت مثل كثيرات من بنات ونساء الضفة الذهاب.
وصلت المجمع، سألني السائق "على قلنديا أختي"، انسابت ابتسامة على شفتي، وهززت رأسي إيجاباً، لكن هدى شقيقتي الصغرى التي رافقتني في رحلتي هذه، لم تكف عن وضع احتمالات جلها سلبية، كنت مثلها خائفة لكن لم أفصح لها، فمن غير الممكن الثقة بالاحتلال تحت أي ظرف.
صعدنا الحافلة المتوجهة إلى الحاجز، هيء لي أن الطريق أبعد مما هي عليه، والاحتمالات لم تفارقني أتخيل أن توقفنا المجندة، تدقق في بطاقاتنا الشخصية، ومن ثم تلقيها في وجوهنا أو على الأرض كما يفعلن، لتجعلنا نعود بمنتهى البساطة من حيث أتينا، أو لربما وصلنا إلى بوابة الحاجز وأغلقوه فجأة ولم يسمحوا لأحد بالدخول، كانت تمر هذه الصور كشبح مرعب في مخيلتي.
مر وقت طويل لم ترَ فيها شقيقتي القدس، كنت أغافلها وهي ترخي بصرها على السهول الممتدة على طول الطريق، وأحياناً تنتفض في مقعدها كلما مررنا على مستوطنة أقيمت حديثاً "شوفي، دخيل الله شوفي مستوطنات"، هي قلما تذهب خارج نابلس بحكم ظروف الطرق والحواجز وعملها أيضاً، تصمت مرة أخرى وتغرق في تفكيرها، ألتفت ناحيتها بهدوء لأقرأ تفاصيل وجهها، المائل إلى الاصفرار خمنت أنه نتيجة التوتر يداها ترتجفان، كنت أشعر بهما كلما تلاقتا مع يدي صدفة أو تعمداً، وفجأة "تلكزني" بقدمي وتقترب مني قليلاً، "والله بموت لو ما خلوني أدخل"، أقبض بقوة على يديها، لكنني عاجزة عن طمأنتها.
في المقعد جواري مُسنة، تلف أصابعها سبحة سوداء، أمالت رأسها نحوي، وسألتني: "قال يما مسموح ندخل مش رح يحكوا معنا يعني؟" حقيقة لم أكن واثقة كثيراً من إجابتي، فجندي لم يبغ العشرين، يمكنه بإشارة واحدة إغلاق الحاجز أمام آلاف الناس، فيعيدهم إلى بيوتهم فارغين إلا من حسرتهم.
آثرت طمأنتها: "إن شاء الله يما توكلي على الله مندخل تخافيش"، ثم سرعان ما عاودت تداعب حبات سبحتها وتدعو عليهم "الله يعمي عيونهم عنا، الله ينتقم منهم، الله يهدهم بجاه النبي" بقيت كذلك إلى أن وصلنا قلنديا.
عناية السماء مكنتنا بعد أن نلنا نصيبنا من التفتيش الدقيق، من تجاوز مئات الجنود والمجندات والأسلحة وأجهزة الإنذار والبوابات الحديدية، أضف إليها عشرات المكعبات الإسمنتية والكثير من الأسلاك الشائكة، شدتني هدى من يدي "شوفي صورة مروان البرغوثي، وصورة أبو عمار"، كانت هذه المرة الأولى التي ترى فيها الرسومات على الجدار الذي يأسر القدس بغرض عزلها عن الضفة، هذا الجدار، الذي لن تجمله الألوان الزاهية المرسومة عليه، هو قبيح كقبح الاحتلال.
بتنا نقترب أكثر من مدينة السماء، كم تغيرت معالمها، ولو لم أكن فلسطينية، وجئت من مكان بعيد لزيارتها، لحسبت أن الاحتلال بجنده وشرطته ومستوطنيه هم أهل الأرض، فمن بين مئات اللوحات التعريفية بأسماء الشوارع والبنايات والأماكن العامة والمشافي باللغة العبرية، ربما يلمح الزائر واحدة بالعربية، هذا عدا رايات الاحتلال التي تعتلي تقريباً سطح كل بناء، ابتلعنا غصتنا ومضينا نحو قبلتنا الأولى.
زرت القدس كثيراً لكن هذه المرة ليست كسابقاتها، ارتعش جسدي ما إن اقتربت من باب العامود، وأحسست بالبرد يجتاحني، أغمضت عيناي على مشهد وكأنه يحدث للتو أمامي، كان الشهيد محمد علي مضرجاً بدمائه، بعدما أعدموه، شاهدت جثمانه ممدداً على بلاط باب العامود، هناك حيث كان يحب أن يبدأ صباحاته الأولى قبل الذهاب لعمله، كان يجلس مع صديقه، عندما استفزه جنود الاحتلال وأهانوه، استل سكينه وطعنهم واحداً تلو الآخر.
ورأيت جسد الشهيد محمد أبو خلف، ينتفض مرات ومرات تحت وابل الرصاص، ودمه يسيل لترتوي أرض القدس من تحته، ستبقى الأرض تذكره وتذكر سواه من الشهداء، فهي الأدرى بأولادها.
وشاهدت الشهيد باسل سدر، يقفز فزعاً بخطوات متلاحقة محاولاً أن يحيد بجسده النحيل عن رصاصهم، لكنهم أعدموه، فبركوا له قصة تبرر قتله، قالوا إنه كان يحمل سكيناً ويحاول طعن أحد الجنود.
وهناك أيضاً رأيت الشهيد بهاء عليان يعد نفسه مع صحبه، فاليوم الجمعة، وسيشهد الأقصى ازدحاماً في عدد المصلين الوافدين من مختلف مدن الضفة، ويلزم الأمر تنظيماً جيداً، ومن أولى بالأمر من بهاء.
خشيت وأنا أهُمُ بالتقدم نحو المسجد من إيقاظ دمائهم الغافية على كتف المدينة، خلعت حذائي، لئلا أدنس طهر المكان المعمد بدم الشهداء هنا، لئلا أوقظهم من نومهم الأخير، فلن أمر مرتدية إياه، انتبهت شقيقتي وشاركتني هي الأخرى ما فعلت، ومضينا حافيتين.
مرت الساعات دون أن ندري، أخذنا جمال المكان وكأننا نراه للمرة الأولى، وفي لحظة ما رن هاتفي، كان صديق فلسطيني سوري، ممن أوجعتهم سياط المنفى، وأتعبهم اللجوء، علم أنني وصلت الى القدس، هاتفني مستعلماً عن حال الطريق، ليكمل خبره الصحافي، لكنه صمت، وراح ينصت لصوت أذان الظهر حينما ارتفع من مآذن القدس، قلت له "أنت في الأقصى روح ادع الله ما شئت"، تملكه حنين مجبول بالكسرة، اختنق بدموعه، لم يكمل حديثه، وأنهى الاتصال.
قضينا رحلتنا بمرها الكثير وحلوها القليل، ودعنا المدينة رغم أنفنا، فيما لم تستطع نظارة هدى السوداء، حجب دموعها، ظلت صامتة حتى المحطة الأخيرة من الحاجز، ودعنا قدسنا ولا نعلم حقيقة متى سنتمكن من العودة مرة أخرى!

  • تصوير شعيب ابو جهل

    تصوير شعيب ابو جهل

0 تعليق

التعليقات