إذا أراد الحرس التاريخي لحركة التحرير الفلسطينية أن يسلم الراية لجيل جديد، جيل السكاكين، فماذا سوف يسلم؟ باختصار، سوف يسلم راية ممزقة، وهذا تعبير عمّا آلت إليه أوضاع القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني: أراضٍ مقسمة إلى كانتونات (أراضي فلسطين 1948، وأراضي فلسطين 1967، وأرض فلسطين ــ غزة). وكذلك السلطة مقسمة إلى سلطتين: سلطة أبو مازن في الضفة، وسلطة «حماس» في غزة، وسلطات حزبية وتحالفية في فلسطين 1948، حيث نواب عرب «إسرائيل» كما يطلقون عليهم.أما الشعب، فهو مقسم إلى: الشعب الفلسطيني في المخيمات، والشعب الفلسطيني في المناطق الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، والشعب الفلسطيني في غزة، والشعب الفلسطيني في المهاجِر. وسوف تسلم قضية لم تحقق شيئاً أو قيمة، فلا دولة ولا استعادة حق ولا عودة اللاجئين. وعلى مستوى فلسطين في البيئة الحاضنة العربية، من المؤكد أن كل النظم العربية رفعت عن جدول اجتماعاتها قضية فلسطين. وعلى مستوى البيئة الدولية، صارت قضية فلسطين خارج الحراك الدولي، وبالذات بعدما صارت هناك قضايا أخرى أكثر حرارة واشتعالاً مثل إيران وسوريا واليمن، وكذلك روسيا ومجالها الحيوي والصدام الواقع مع الولايات المتحدة في هذا الشأن.
على صعيد أداة حركة التحرر الوطني الفلسطيني، لدينا «منظمة التحرير»، وهي منظمة للتفاوض وللتوقيع على وثيقة الاعتراف «بإسرائيل»، ثم «حماس» التي دخلت نهج الدولة بجانب سلوكها في غزة، وانتهاؤها إلى محاولات لهدنة طويلة مع العدو الإسرائيلي. دخل الحل الإسلامي إلى المشكلة الفلسطينية في مأزق نهج حركة التحرر نفسه، ما أضاف عليها تقسيماً للشعب على أساس ديني، ومؤشرات هجرة المسيحيين دليل على ذلك.
هكذا يتضح من هذه الجردة أن القضية الفلسطينية ليست في أحسن أحوالها، ولا حتى في أوسط حالاتها الصحية، إنما هي في أسوأ أحوالها. حتى إننا نعتقد أنه لم يعد ممكناً ولا مقبولاً أن يستكمل أبو مازن وسلطته التفاوض، لأنهما لن يأخذا شيئاً مهما كانت التنازلات. وكذلك «حماس» دخلت النفق نفسه، ولعل هذه الخيارات الصفرية هي التي تحيط بانتفاضة السكاكين التي لم تأخذ أكثر من تذكير بعض الدوائر العالمية والعربية والمحلية بالقضية الفلسطينية.
الأسوأ أن البيئة العربية الحاضنة لم تعد قادرة على العطاء، وبالذات بعد قيام انتفاضات وثورات ما سُمي «الربيع العربي». تأثرت تلك النظم وازداد تمسكها بالسلطة، ومن أجل الاستمرار على المقاعد ارتبطت أكثر بالعدو الصهيوني في العلن والسر. لكن الظاهرة الإيجابية في خرائط الأزمات أن هناك أجيالاً جديدة تدق باب المستقبل بعنف، وتعيش اللحظة الحضارية العصرية، وتعي قضية الأرض وهويتها وقيمتها. لعل أبرز البراهين على ذلك هو جيل السكاكين الفلسطيني، والجيل المقاوم للخطاب الديني الظلامي، وجيل التمسك بمصرية تيران وصنافير رغم إيمانه بالعروبة كهوية وانتماء.
كل تلك المؤشرات هي التي تصنع هذا الجيل المتحصل على علم أفضل وثقافة إنسانية أوسع وممارس لتكنولوجيا اللحظة المعاشة بكل جرأة وعلم. هذا الجيل مطالب في فلسطين بمهمات عدة يأتي في مقدمها:
- تقويم مسيرة النضال الفلسطيني والوصول إلى خلاصات تصلح للبناء عليها في المستقبل.
- تقويم مسيرة أدوات النضال والكفاح والجهاد الفلسطيني واستخلاص الدروس من ذلك حتى يُبنى عليها من أجل المستقبل.
- الدراسة الدقيقة للمرحلة المعاشة على مستوى النظام الدولي والنظام الإقليمي والنظام العربي وكذلك النظام المحلي، وذلك للفوز بطرح متفهم للعصر، وهذا ما يجعل القادة ومستويات القيادة على موعد مع الفعل التاريخي.
- تشكيل جماعة دراسية وبحثية من الثوار والسياسيين والباحثين وأصحاب الخبرات من أجل بناء خطاب نظري وسياسي لقضية فلسطين يستطيع أن يقدمها من مداخل أممية وإنسانية جديدة مثل آخر المستعمرين، وآخر العنصريين، وآخر المحتلين.
هذا الخطاب يقدم رؤية جدلية لما هو وطني وقومي وديني في قضية فلسطين، ولما هو كفاح مسلح ونضال سلمي وحقوقي. وأخيراً لا بد أن تبدأ مجموعات من الآن في التحضير لذلك وهي واعية للقضية الأهم، أي بناء إدارة لحركة التحرر الفلسطيني دون ترقيع أو تقطيع. عليهم أن يكونوا في جرأة اللحظة وحدّة معالجتها، لأنه لم يعد وارداً تضميد جراح «منظمة التحرير» بعدما اعترفت بدولة الكيان، ولا المطلوب أن نحافظ على سلطات للكانتونات تخفض تكاليف الاحتلال.
لم يعد مقبولاً الصراع بين الجهاد وحركة التحرر، بل لا بد من جيل جديد وقيادة جديدة تتبنى استراتيجية للنضال جديدة، بعدما تكون قد درست بعمق كل ما فات وحددت موقفها منه دون الدخول في معارك لا فائدة مرجوة منها، ودون حذف تواريخ لمناضلين وكذلك منظمات. الجميع قد ساهموا، لكن المرحلة قد انتهت وأتت بالحصرم، لذلك من المهم بدء مرحلة جديدة ورجال جدد يحفظون التاريخ ويعملون على استمراره على طريق المقاومة والبندقية، وهو الطريق الذي تأكد لنا جميعا أنه لا سبيل لتحرير فلسطين إلا بسلوكه. البداية هي تشكيل مجموعات عمل متوازية وسرية لرسم ملامح طريق التحرير.