عيسى المهاجر

  • 0
  • ض
  • ض

حينما قابلت عيسى للمرّة الأولى، كان يعمل في وكالة فلسطينية للأنباء، كنت قد ذهبت لطلب التطوع فيها. جلست قبالة مكتبه أنتظر دوري للحديث معه، بينما كان هو مشغولاً بالحديث لأحد الصحافيين بصوت منخفض وهادئ، يسلّحه بأجهزة التسجيل، ويطلب منه التروّي في تنفيذ مهمته. بدا لحظته مسؤولاً لطيفاً للغاية مع ذلك الموظف، حتى أنني شعرت بالغيرة من لطفه الزائد معه، رغم معرفتي له للمرّة الأولى. كيف يمكن أن تُرسّخ فينا لحظة كتلك، محبة جارفة لشخص ما؟ كان عيسى نحيلاً، طويل القامة، شعره أسود، وأنيقاً إلى حد معقول. لكنّ أناقته الروحانية كانت تمنحه الإطلالة العجيبة. كل هذا حدث منذ تلك اللحظة، منذ عشرة أعوام بالتمام والكمال، برغم أنّ سرد الرقم ليس سهلاً سحبه من زنّار العمر، وفرده على الطاولة، ليصبح أمراً مسلماً به، غير قابل للتبديل. بعد عامين منذ ذلك الوقت، بدأت هجرة عيسى إلى أوروبا. هناك تنقل بين الدول، من ركن إلى آخر، دون أن يجد له مستقراً حتى اللحظة، كل عامين يختار مكاناً جديداً له ويبدأ حياته فيه، وهكذا. الغريب في أمر صاحبنا أنّه بين فينة وأخرى، وعلى مدار السنوات الماضية، وكلما انتقل إلى مدينة، هاتفني، سألني أسئلته المعتادة، عن حالي، حال البلد، وعن رغبتي في الترحال، وإلى أين سأذهب، ولا يقفل الهاتف إلا بقوله: "رح تطلعي يا بنت". لم أحب يوماً خطابه لي بـ"يا بنت" يوماً ما، كأنّه يذكّرني بتصنيفي البيولوجي الذي لا يحتاج تذكيراً، لكني في الوقت ذاته كنت أحب اطمئنانه إلى تلك الحقيقة، إيمانه بها، كأنها حقيقته، شيء ما يخصّه، كأنّها شيء من أشيائه. شيء ما يخرج عن السياسة والحصار الدولي، أو أي اصطلاحات كانت، شيء ما خارج الزمانات والأمكنة. لا أعرف عن عيسى شيئاً سوى مكالمته الهاتفية الدوريّة تلك يوماً من النرويج، آخر من بلجيكا، آخر من إيطاليا، باريس. نبرة صوته هي ذاتها، لم تتبدّل يوماً. نبرة صوت قوية، تحمل فلسطين كلها في تقسيمات صوته، كأنّ النزوح عن المكان رسّخها في قلبه.

0 تعليق

التعليقات