ستندلع ثورة البراق في التاسع من آب عام 1929، وستمتد من بئر السبع والخليل والقدس حتى جليل فلسطين الأعلى، وفيها سيرتقي 126 شهيداً فلسطينياً، ويسقط 133 قتيلاً صهيونياً، ومئات الجرحى، وبعد عام من ذلك (1930) سيعدم جنرالات الإنكليز الذين انتدبوا فلسطين، ثلاثة رجال «تسابقوا على الموت» هم: عطا الزير، ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي.بعد أربعة أشهر على إعدامهم، ستجد الحركة الصهيونية ذاتها أمام واقع يلح عليها بضرورة إيجاد مخرج «لاحتواء» الخلافات والتخفيف من تنامي حالة العداء التي سادت بين الفلسطينيين والصهاينة، هذا المخرج سيكون (عدا الترهيب والقوة التي ستستخدمها في وقت لاحق)، عبر سطوة الكلمة في الصحافة المكتوبة.
الفلسطينيون نشأوا على ثقافة أعطيت فيها الكلمة قوة وسلطة

ولفهم أهمية الفكرة (الصحيفة المكتوبة) بالنسبة إلى الحركة الصهيونية، يجب العودة إلى مقالة بعنوان «عندما كان في الكلمة حفرة»، المنشورة في مجلة «غلوبس» الإسرائيلية (19/12/2006). يأتي في المقالة أنه في نهاية تشرين الأول 1930، وضعت «اللجنة العليا للوكالة الصهيونية» بالتعاون مع «اللجنة الوطنية»، برنامجاً سرياً «لتطوير العلاقات العربية ــ اليهودية».
قد يُمثل أحد البنود المركزية في هذا البرنامج طرف خيطٍ لتتبع نشأة الصحف الإسرائيلية الناطقة بالعربية، ولا سيما أنه حمل عنوان «الدعاية والعمل في الصحافة العربية»، الذي تقرر أن الترجمة الفعلية له ستجري في اتجاهين: الأول إنشاء صحف عربية يومية تصدر عن «الوكالة اليهودية» وتكون ذات جودة عالية وتحمل الطابع الصهيوني، والثاني السيطرة على الصحف العربية الموجودة بضخ مضامين داعمة للأهداف وللمصالح الصهيونية.
لكن، لماذا اعتقد ناشطو الحركة الصهيونية أن للكلمة ذلك التأثير القوي في الفلسطينيين؟ تقتبس المقالة من الباحث الإسرائيلي، يعكوف روئي، قوله إنه «بنظرهم (ناشطو الصهيونية) نشأ المجتمع الفلسطيني على ثقافة أعطيت فيها الكلمة قوة وسلطة شبيهة بالسلطة الدينية». والدليل هو أن حالة العداء التي شعر بها الفلسطينيون تجاه اليهود كانت نتيجة لما قرأوه من مقالات في الصحف العربية تحذر من الخطر اليهودي.
بالطبع لم يكن هذا الاعتقاد وليد أحداث ثورة البراق، فقد سبقه بنحو عقدين قرار صدر عن الجهاز التنفيذي في نقابة العمّال الصهيونية (الهستدروت)، أن يُراقب عن كثب كل ما يكتب في الصحف العربية ضد الصهيونية ثم يُرد عليه بمضامين مغايرة.
كذلك، عقد رجال أعمال وناشطون صهاينة اجتماعاً في يافا عام 1911، ناقشوا فيه «تنامي العداء الفلسطيني» ضد الحركة الصهيونية واليهود في فلسطين المحتلة، وأوصوا في نهاية الاجتماع بكتابة مقالات في الصحف العربية التي كانت موجودة آنذاك، ضد المقالات التي تحرض على اليهود، مستفيدين من كون الفلسطينيين يقرأون هذه الصحف. أمّا تمويل هذا المشروع، فقدمه في 1913، وفق «غلوبس»، البارون أدموند روتشيلد، وقد بلغت قيمته 15 ألف فرنك آنذاك.
لكن أول ظهور لفكرة إنشاء صحيفة صهوينة ناطقة بالعربية تعود إلى 1909، حينما كتبت صحيفة «هحروت» العبرية أنه «يجب إنشاء صحيفة عربية كُبرى ومهمة، يكتب فيها نخبة الصحافيين اليهود الذين يتحدثون العربية، وفي هذه الصحيفة يسلط الضوء على الحياة في (أرض إسرائيل)، ويمكن الرد فيها على أي مقالات تمثّل خطراً». وهو ما فعلته «هحروت» بعد أعوام على طرح الفكرة.
في هذا الإطار، تذكر المقالة الأولى أنه ظهرت مخاوف من أن إنشاء مثل هذه الصحف قد يعود بالضرر على «الحركة الصهيونية»، فقد يصير العرب أكثر عدائيةً بسبب المقالات المنشورة، وهو الأمر الذي يفسر بوجود مقالات تناولت هذا الموضوع. نتيجة هذه المخاوف، بلورت «الحركة الصهيونية» خطة لتمرير رسائل إلى الفلسطينيين حول فكرة إنشاء الصحف، وقضت الخطة بالتوجه إلى «الأفندية»، أي المثقفين الفلسطينين في المقاهي، لأن بمقدور هؤلاء التأثير في المجتمع الفلسطيني وإقناعهم بتقبل الفكرة، لكنهم فشلوا. كما تشير المقالة إلى أن القسم العربي في «الوكالة الصهيونية»، الذي ترأسه آنذاك حاييم كلافيرسكي، قدم رشى لصحافيين عرب، في محاولة لشرائهم خدمة لأجندة الوكالة، لكن ذلك أيضاً لم ينجح كلياً.
بيروت...